الخميس 11 كانون الأول (ديسمبر) 2014

بوتين يبهر بخطاب جديد

الخميس 11 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par جميل مطر

لم يعد العالم ينظر إلى فلاديمير بوتين بعدم اكتراث أو لا مبالاة، فالرجل عاد بعناده ومشكلات بلاده يفرض روسيا على العالم لاعباً فاعلاً أو وهو الأهم لاعب رئيسي محتمل في الساحة الدولية .
أكتب هذه المقدمة على ضوء قراءة متمعنة لخطابه الأخير في الاجتماع السنوي للجمعية الاتحادية الروسية الذي انعقد قبل أيام قليلة بقصر الكرملين . توقفت ملياً أمام ردود فعل السياسيين والمعلقين الغربيين على هذا الخطاب وقد تجاوز اهتمام أغلبهم مضمون الخطاب، بمعنى أنه بينما لم يجد المتتبع لخطاب بوتين سواء في لهجته أو مضمونه اختلافاً واسعاً مع لهجة ومضمون خطبه خلال السنوات السبع الأخيرة، ظهرت ردود كما لو كان في الخطاب مفاجآت أو تطورات خطيرة في السياسة الروسية .
تكمن أهمية الخطاب من وجهة نظري في أنه يعيد التذكير برؤية روسيا للعالم الخارجي كما صاغها فلاديمير بوتين في خطابه الأشهر في مؤتمر الأمن الذي عقد في مدينة ميونيخ في عام،2007 وهي الرؤية التي طورها وأكدها في خطب أخرى منذ ذلك الحين كخطابه في الجمعية الاتحادية في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، وخطابه في القرم في مارس/آذار 2014 وخطابه في سوشي في 24 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، وخطاب آخر في القرم في 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري .
في خطابه بميونيخ قبل سبع سنوات وصف بوتين النظام الدولي بأنه النظام الذي حفل بعدد من الحروب لم يشهدها أو يتسبب فيها نظام دولي سابق على نظام القطبية المنفردة، يقصد هيمنة أمريكا على النظام الدولي . كانت القطبية المنفردة كما رآها بوتين وقتذاك ولا تزال غطاءً لاستخدام غير مبرر للقوة وتحقيق مصالح دول بعينها وغطاءً لجهود كبيرة لتوظيف المنظمات غير الحكومية والأهلية لخدمة أهداف دول عظمى والتدخل في شؤون دول أخرى . هناك في ميونيخ أعلن بوتين رفض روسيا لنظام القطبية الأحادية باعتبار أنها تكاد تصبح مستحيلة لسببين، أولهما أنها صارت تتطلب إمكانات هائلة، عسكرية واقتصادية وسياسية، لم تعد تتوفر لأي دولة في العالم، وثانيهما أنها أي القطبية الأحادية صارت مستحيلة أخلاقياً .
هذا الجانب من رؤية روسيا للعالم أعاد بوتين تثبيتها في خطبه التالية وآخرها خطبته قبل أيام أمام الجمعية الاتحادية . عناصر هذا الخطاب لن تختلف كثيراً عن عناصر خطبه الأخرى، ولكن تغيرت اللهجة والكلمات فكانت أشد وأقوى، حتى إن بعض ردود الفعل بالغت ووصفت الخطاب بأنه “خطاب معركة” . هناك بلا شك ما يبرر هذه المبالغة، ولكنه لا يبرر على الإطلاق الأصوات الزاعقة التي راحت تتنبأ بحرب باردة ثانية، ولم يبرر بالتالي أي إجراءات على أرض الواقع تقوم بها دول لها مصلحة في إثارة توترات عالمية أو إقليمية .
لهجة الخطاب لها ما يبررها فقد عاد فلاديمير بوتين للتو من رحلة “عذاب” طافت به من الصين إلى أستراليا إلى روسيا ليجد في انتظاره عقوبات جديدة فرضتها الدول الغربية على بلاده، وروبل تدهورت قيمته إلى الثلث، وانخفاضات جذرية في سعر النفط . إذا أضفنا هذه التطورات إلى وضع استثنائي في علاقات روسيا الخارجية ترتبت على انتفاضة كييف واستعادة روسيا شبه جزيرة القرم وضمها نهائياً إلى الوطن الروسي لربما اقتنعنا بأنها كافية لتجعل خطاب بوتين الأخير ساخناً . ولكنها بالتأكيد ليست كافية للحكم على الخطاب بأنه بمثابة إعلان عن نشوب معركة في حرب باردة جديدة . أظن أن ما أثار بوتين أكثر من غيره هو تجدد حربه مع متمردي أقاليم الشيشان وجسارة المسلحين الذين أقدموا على خوض قتال في وسط مدينة غروزني، المدينة التي يعتقد بوتين وبحق أنه حقق فيها إنجازه الأول كرئيس عندما فرض بالقوة المسلحة استقراراً سياسياً وعسكرياً شمل كل أقاليم الشيشان وجلب له شعبية كبيرة في روسيا . كان بوتين في خطابه صريحاً وقوياً عندما اتهم الولايات المتحدة ودولاً أخرى بالغرب على إثارة عناصر التمرد من جديد في الشيشان . أعتقد أنه اعتبر هذه المؤامرة أخطر على سلامة روسيا وعلى مشروعه بناء روسيا الكبرى من تمدد حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في دول الجوار .
استمر بوتين في إلقاء الخطاب سبعين دقيقة، تحدث خلالها بلهجة عنيفة عن دول الغرب التي راحت ترتدي ثياب النازية لتعزل روسيا وتحجزها وراء الأورال، وهي تعلم تماماً كيف انتهت المحاولة النازية الأولى التي ستكون أيضاً مصير المحاولة الثانية . تحدث عن تطوير القوات المسلحة الروسية والعقبات التي يضعها الغرب أمام هذا التطوير، ولكنه كان حازماً في التنبيه، إلى أنه لن يدخل في سباق تسلح في إشارة بالغة الذكاء إلى السباق الذي فرضه الرئيس ريغان على الاتحاد السوفييتي في الثمانينات من القرن الماضي وانتهت بانهيار الاقتصاد السوفييتي .
من ناحية أخرى، حاول التأكيد على اعتقاده أن الغرب يقف وراء الانتفاضة الأوكرانية . بوتين لا يخفي رأيه في أزمة أوكرانيا من حيث إنها ليست أكثر من محاولة غربية جديدة ضمن سلسلة محاولات عبر القرون ومنذ عهود القياصرة لإضعاف روسيا، بل وأضاف أن من أهداف الدول الغربية تفكيك روسيا وتدميرها ونسف جهودها لتثبيت دعائم “الحضارة الروسية” .
لم يفت على بوتين انتهاز الفرصة لينتقد قادة دول الجوار موجهاً حديثه إليهم بالقول “لم نعد نعرف مع من نتكلم في هذه الدول، أنتكلم مع حكومات دول مستقلة أم مع السادة والرعاة في الخارج؟” .
الجديد في هذا الخطاب، ولعله جديد أيضاً في خطاب روسيا السياسي والتاريخي، إشارة بوتين إلى أن مكانة شبه جزيرة القرم بالنسبة إلى الشعب الروسي تماثل مكانة جبل الهيكل بالقدس بالنسبة إلى الشعوب الإسلامية والشعب اليهودي . هكذا يبدو بوتين وقد شعر بأن حال روسيا هذه الأيام ومشكلاتها المعقدة وحرب العقوبات المفروضة عليها ومحاولات احتوائها، تستدعي إثارة المشاعر القومية والدينية في آن واحد . راح يستعير من التاريخ رواية الأمير السلافي فلاديمير الذي جرى تعميده مسيحياً في شبه جزيرة القرم في القرن العاشر الميلادي، فكان بهذا التعميد أول إعلان عن وصول المسيحية إلى هذه المنطقة من العالم وما نتج عن دخولها، إذ توحدت القبائل والشعوب لتشكل “الأمة الروسية” . الرسالة هنا هي: لا وجود لروسيا “الوطن أو القوم أو الحضارة” من دون القرم .
ترك الخطاب في نفوس المهتمين بالشأن الروسي أصداء شتى، تبدأ بتشبيه الخطاب بالخطب التي مهدت لنشوب الحرب الباردة الأولى وتنتهي بتوقعات متباينة عن مستقبل حكم الرئيس بوتين . أعتقد شخصياً أن أهم ما رشح من هذه الأصداء يلخصه رأيان متكاملان ومتضادان في الوقت نفسه . الرأيان يتفقان على أن استمرار جهود احتواء روسيا وفرض العقوبات عليها سيؤديان بالضرورة إلى تصاعد حاد في الشعور القومي والديني . أما الاختلاف بين الرأيين فيظهر حين يعلن رأي من الرأيين عن ثقته بأن هذا التصاعد في المشاعر القومية وبخاصة بعد مزجها بالدين “المسيحية الأرثوذكسية الروسية” و“بالعرق” “أي العنصر السلافي”، كفيل بأن يخلق ثقة أكبر في النفس ويقضي على شعور الدونية المتجذر ضد الغرب في الثقافة الروسية، ويشجع القادة الروس على التعامل باتزان واعتدال مع الغرب ومع دول الجوار .
أما الرأي الآخر فيعتقد أن هذا التصعيد كفيل بأن يلهب المشاعر الروسية المعادية للغرب والمعتمدة تاريخياً على رؤية للعالم الخارجي لم تتغير كثيراً عبر القرون . هذه المشاعر لو تصاعدت تستطيع أن تدفع قادة روسيا إلى محاولة استعادة سياسات التوسع الإقليمي ومحاولات تنفيذ الحلم الإمبراطوري . من ناحية أخرى قد يدفع السياسة الخارجية الروسية في اتجاه عرقلة جهود حل المشكلات والأزمات الدولية المستعصية، والاستفادة من العداء المتزايد للغرب في العالم الإسلامي، والعودة إلى أساليب إثارة الاضطرابات ضد المصالح الغربية في آسيا وإفريقيا، والعمل تحت الأرض أسوة بما تفعله أمريكا ودول الغرب في روسيا والشرق الأوسط . أصحاب هذا الرأي لا يستبعدون أن يبدأ الروس، إذا استمر الضغط عليهم والعقوبات ضدهم، في فتح جبهة اضطراب خطيرة في البلقان حيث المشاعر ضد الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تغيرت وعادت تنحاز للجانب الروسي .
أتصور أنه يتعين علينا في الشرق الأوسط أن نستعد لتطورات تمس احتمالات عودة الاستقرار والأمن وتمس أيضاً المصالح المباشرة للإقليم كنتيجة حتمية لتطورات هذا الصراع بين روسيا والغرب . مرة أخرى يتعين علينا أيضاً أن نراقب سلوك تركيا فهي أقربنا إلى حدود الصراع الملتهبة وأكثرنا خبرة في الاستفادة من صراعات روسيا الخارجية . ها هي بالفعل تستفيد من أزمة أنابيب الغاز الروسية لتسد حاجتها من الطاقة، ولتحصل على دخل نقدي كبير، وتواصل تجديد مزايا موقعها الاستراتيجي .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165923

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165923 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010