الأربعاء 10 كانون الأول (ديسمبر) 2014

ذكرى انطلاقة فتح والانحدار الأوسلوي!

الأربعاء 10 كانون الأول (ديسمبر) 2014 par حيدر عيد

مع نهاية موسم «الانطلاقات»، والسماح لحركة فتح بالاحتفال بذكرى انطلاقتها في قطاع غزة، يتعيّن علينا، وبالذات بعد الحربين الهمجيتين والحصار الخانق على القطاع، طرح أسئلة نقدية قد تكون غير مريحة للبعض منا! ولا شكّ أنّ دور السلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة الحالية، وتهميشها، لهما علاقة وطيدة بتطور، أو تدهور حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وهما ينبعان من سياق معيّن ونهج محدّد متّبع منذ فترة زمنية، ليست بالقصيرة، يبرزان فيها منذ عام 1993 كنقطة تحول نحو عملية تراكمية أدّت في المحصلة النهائية إلى ما وصلنا إليه اليوم. لقد كانت أهمّ نتائج مجزرة غزة عام 2009 التأييد الشعبي والدولي غير المسبوق الذي بدأت ترجمته على الأرض من خلال حملة مقاطعة متنامية على نحو أقلق إسرائيل. ومن الواضح أنّ عودة شعارات التحرير، بدلاً من «الاستقلال»، قد أسهمت في خلق معضلة لمثقفي وسياسيي أوسلو، والكثيرون منهم مرتبطون تنظيمياً بحركة فتح، لكن أيضاً لما يسمى اليسار الذي كان قد أنهى عملية (أسلوة وأنجزة) قد أفرغته من مضمونه الثوري والتغييري، الذي عمل فترة ليست بالقصيرة على كبح جماح التنازلات اليمينية. إنّ التضخيم الهائل لخطوة التوجّه إلى الأمم المتحدة، بعد تكرار الحديث عن التخلي عن حق العودة والتهديد اللفظي أكثر من مرّة بعدم العودة إلى طاولة المفاوضات العبثية التطبيعية، إنما تعبّر كلّها عن نهج تنامى على نحو متصاعد. نهج أودّ أن أطلق عليه «أسلوة!». يتميّز هذا النهج بفساد مطلق، وتخلٍّ عن الشعارات الثورية التغييرية التي كانت سائدة في مرحلة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، إضافة إلى نموّ خرافة ما يسمى حلّ الدولتين العنصري بأيّ ثمن كان. مما يثير القلق، ومن خلال متابعة دقيقة لتصريحات العديد من القيادات الفلسطينية الوطنية، والحمساوية، واليسارية فإنّ الهدف الرئيسي للنضال الفلسطيني أصبح الآن إقامة دولة فلسطينية (مستقلة) على 22% من أرض فلسطين التاريخية، وبغضّ النظر عن شكل ومضمون هذه الدولة، لكن التناقض الكبير بين التأييد الدولي الشعبي الهائل وتنامي حملة المقاطعة BDS والمطالبة الشعبية الدولية بمحاكمة قادة إسرائيل كمجرمي حرب، ومن ناحية أخرى الإصرار على حلّ الدولتين (السجنين)، إنما يشير إلى أهمية العمل على تنفيذ بديل تكون أهمّ أولوياته نزع الفكر الأوسلوي المهيمن في فلسطين. ولكي نفهم اتفاقيات أوسلو، والخراب الهائل الذي سببته للقضية الفلسطينية وتحويلها من نضال من أجل التحرير وتقرير المصير إلى قضية إحسان، فإنّه يتحتّم علينا أن نحاول فهم السياق الذي أحاط بما يسمى عملية السلام، أو ما سماه بعض المفكرين النقديين «صناعة السلام». هذا بلا شك يمثّل خطوة في غاية الأهمية نحو فهم نقدي خلّاق لعملية الأسلوة التي مرّت بها فلسطين، وتوّجت بأكثر من حادثة وضعتنا في موقف تاريخي غير مسبوق، حيث أصبح يُطلب من الضحية تبرئة الجاني من جريمته! لقد جرى الادعاء أنّ اتفاقيات أوسلو ستكون الخطوة الأولى، والضرورية، نحو دولة فلسطينية مستقلة، لكنّنا اليوم، بعد عشرين عاماً من الحفلة الشهيرة في البيت الـأبيض أبعد ما نكون عن هذه الدولة، لأنّ «أوسلو»، كما قال إدوار سعيد، أنكرت وجود الشعب الفلسطيني كشعب. بمعنى آخر، فإنّ هذه الاتفاقيات أسدت خدمة غير مسبوقة للصهيونية. وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى مقولة غولدا مائير الشهيرة عن عدم وجود شيء اسمه شعب فلسطيني. إنّ السلام العادل والشامل، كما يُعرَّف دولياً، لم يخلق في واشنطن أو، كامب ديفيد، أو أوسلو، أو وادي عربة. على النقيض من ذلك، ما جرت صناعته وفبركته هو خطة أميركية إسرائيلية لحلّ الصراع بعد تدمير العراق وسقوط الاتحاد السوفياتي. وفي محاولة لخلق ما سماه شمعون بيريز، وبعده كوندوليزا رايس، «الشرق الأوسط الجديد». شرق أوسط يتميّز بهيمنة إمبريالية صهيونية مدعومة من قبل أنظمة استبدادية، لكن اتفاقيات أوسلو كانت قد ولدت ميتة أصلاً، لأنها، ببساطة متناهية، لم تضمن تحقيق الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة. وطالما أنّ هناك تطهيراً عرقياً، وكنتونات، ومعتقلات، واغتيالات، ومصادرة أراض واحتلال، فإنّ إمكانية خلق البيئة المناسبة لسلام عادل في الشرق الأوسط ستظل غائبة. إنّ السلام الأوسلوي ما هو إلّا عبارة عن خرافة قد عشّشت في عقول من وقّعوا هذه الاتفاقيات، التي كانت محصلتها حربي إبادة همجية (2009 و2012) لم يكن من الممكن أن تحصلا لولا هذه الاتفاقيات التي أعطت الانطباع الخاطئ بأنّ هناك (طرفين متساويين) في القوة وحتى في الحق! أدّت هذه الاتفاقيات إلى إنشاء ما سمي الحكم الذاتي الإداري في قطاع غزة، وبعض من أجزاء الضفة الغربية. وقد جرى التصدّق على السكان المحليين بأنّ يشكلوا «سلطة» من الممكن تسميتها «وطنية»، لكنّ السؤال الذي لا بدّ من طرحه هو عن طبيعة هذه السلطة، والسبب الذي يجعلها خارج المساءلة الوطنية حتى من قبل التيارات المحسوبة على اليسار الثوري، وقبول التيار الإسلامي الأكبر المشاركة في هذه السلطة! الإجابة بكلّ بساطة تقودنا مرّة أخرى إلى اتفاقيات أوسلو، التي خلقت واقعاً، وبالتالي فهماً جديداً لمفهومي التحرير وتقرير المصير. وأصبح الآن واضحاً، وعلى الرغم من الابتسامات والاحتفالات أمام الكاميرات وانعقاد المؤتمرات والحديث عن التفاؤل بإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط الجديد، أنّ الواقع يسير في اتجاه آخر، ألا وهو أنّ هذه الاتفاقيات وبسبب تناقضها مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لم تؤدّ سوى إلى إقامة دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية، ولعدم عودة اللاجئين تبعاً لقرار الأمم المتحدة 194. ولا لإزالة المستعمرات الصهيونية، أو تعويض المواطنين عما فقدوه، ولا يزالون يفقدون من أراض وبيوت، ولا حتى تقليص عدد الحواجز العسكرية الإسرائيلية... على الرغم من كلّ القبلات والسلامات، فإنّ إسرائيل توّجت هذه المسيرة بحربين همجيتين أدتا إلى استشهاد ما لا يقل عن 1600 مواطن، من بينهم ما يزيد على 500 طفل. ودمّرت ما لا يقل عن 60 ألف مؤسسة وبيت، وأحرقت الأخضر واليابس بقنابل فوسفورية لم تستخدم في التاريخ حتى ضد الحيوانات. ومن البديهي أنّ هذه المحصلة لم تُذكر في اتفاقيات أوسلو! لكن أيضاً لم يُذكر أيّ شيء يؤدي إلى منع حدوث مثل هذه المجازر، التي تأتي في سياق الحصار الخانق على قطاع غزة. هذا هو الواقع السياسي الذي لا ترغب قيادات حركة فتح، التي وقّعت ودافعت عن هذه الاتفاقيات، في تذكيرها به. إنّ ما جرى تصنيعه في بعض أجزاء الضفة الغربية وقطاع غزة ما هو إلا كيان غريب الشكل والمضمون. كيان على نمط المعازل العرقية (البانتوستانات) الجنوب أفريقية، لكن بدعم واعتراف دولي هذه المرة! ولكلّ هذه الأسباب، فإن غزة 2009 و2012 هي الصورة المرئية المعكوسة «mirror_image» لأوسلو. علينا أيضاً أن نذكر في هذا السياق السياسي التاريخي أنّ 75 إلى 80% من سكان غزة هم من اللاجئين، الذين لم يتمّ التطرق إلى حقوقهم على الإطلاق في إطار هذه الاتفاقيات، مما يوضح سبب نتائج انتخابات عام 2006 (المفاجئة)، ليس فقط في سياقها المعادي للكولونيالية الاحتلالية شعبياً، وإن لم يتمّ فهمها واستثمارها بهذا الشكل من قبل التيار الفائز، بل أيضاً في سياق سياسي اجتماعي. إنّ ما خلفته هذه الاتفاقيات في الضفة وغزة هو في واقع الأمر عالمان مختلفان طبقياً، إن لم نقل متناقضين، ويتميّزان بمؤسسات لاديموقراطية، أجهزة أمنية متعدّدة، محكمة عسكرية عالمثالثية، فساد، سوء إدارة، ومحاباة... إلخ. لا شكّ أنّ هذه الصفات، إضافة إلى كونها نتاج احتلال كولونيالي، تعبّر أيضاً عن صفات نيوكولونيالية متنامية في العالم ـــ ألما بعد ـــ استعماري. ولا شكّ أنّ انتصارات إسرائيل في حروب عديدة (48م، 67م، 82م)، وبعد حصولها على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي بحقّها في ممارسة سياستها كدولة استعمار استيطاني، أرغبها بالدخول في مرحلة جديدة. مرحلة تتميّز بتشكيل وعي جديد لدى الشعب الفلسطيني المحتل. وهنا بالضبط يكمن خطر أوسلو الوجودي. إنّ عملية الأسلوة، وفي هذا الإطار النيوصهيوني، تعني خلق خطاب أيديولوجي جديد يؤدي إلى إزاحة كاملة لوعي (الآخر الضحية)، واستبداله بعقلية أحادية الجانب من خلال خلق خرافة جديدة دائمة الانزلاق ولا يمكن تحقيقها، على نمط حلّ الدولتين. هل من الغريب الآن فهم لماذا يعزف معظم القادة الصهاينة، حتى أرييل شارون، لحن الدولتين؟! وبكلمات أخرى، فإنّ العمل على خلق «الفلسطيني الجديد»، كما سماه بعض الأوسلويين بتنسيق مع رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ومندوب اللجنة الرباعية طوني بلير، المدافع باستماتة عن حلّ الدولتين، هو في نفس الوقت محاولة لخلق وعي زائف يتمّ توجيهه من قبل أنتلجنسيا جرى استيعابها في إطار أوسلوي، وتتميّز بسجل ثوري تمّ تطويعه. وهكذا تصبح شعارات حل الدولتين، ودولتين لشعبين، والعودة إلى حدود 67، وهدنة طويلة الأمد، تعبيرات عن نهج يضمن رضوخ الفلسطيني وانصياعه. ما لم يذكر في حمى هذه الشعارات، التي تُردد بطريقة روبوتية ببغاوية، هو حقّ عودة 6-7 ملايين لاجئ وتعويضهم، والحقوق الثقافية والقومية لأكثر من 1.2 مليون فلسطيني يعاملون كمواطني درجة رابعة في إسرائيل. إنّ مجرد ذكر هاتين الفئتين جدير بإفساد أيّ حفلة عن السلام، والتفاهم، والتفاوض، واللغة السياسية الجديدة للإدارة الأميركية التي، تبعاً لبعض الأقطاب السياسية المفترض أن تكون معادية لاتفاقيات أوسلو، تختلف كثيراً عن إدارة بوش. ما تنساه هذه الأصوات هو أنّ الامبريالية الأميركية قد رغبت في وضع قناع أسود جديد على وجهها، ليس له علاقة بأيّ تغيير جدي في مضمون سياستها تجاه القضية الفلسطينية. لكن هذه الرؤية الصهيو ـــ أميركية لا تأخذ بعين الاعتبار النقيض الأساسي الذي تخلقه نتيجة الاضطهاد والقهر. إنّها، وبمعنى آخر، تتجاهل الوعي الثوري التغييري الذي مثّل خلال المراحل التاريخية المختلفة للمعاناة الفلسطينية. وهي أيضاً لا تأخذ بعين الاعتبار تراث النضال المدني والمقاومة الشعبية، والتي أصبحت علامة مميزة للنضال الفلسطيني. وتتجسّد على نحو كبير في التنامي الخلاق لحملة المقاطعة الأممية لإسرائيل، وعدم الاستثمار فيها وفرض عقوبات عليها، التي بالضرورة تتناقض مع منطق أوسلو التطبيعي. من هنا، فإنّ هناك ضرورة مُلحّة لإيجاد سياسة فلسطينية بديلة تجسّد هذا الوعي المتنامي. إن الوعيَ لمدى الفساد الذي وصلت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية بالفوارق الطبقية الهائلة التي خلقتها الاتفاقيات المذكورة، والطبيعة الوظيفية للسلطة نفسها، التي توجت بتصريحات عديدة عن عدم واقعية المطالبة بتطبيق قرار الأمم المتحدة 194، إنما هي بجلّها محصّلة لعملية تحرير العقل الفلسطيني من أوسلو (De_Osloization). إنّ هذه العملية التراكمية بدأت تنضج من خلال انطلاقة انتفاضة الأقصى، مروراً بنتائج انتخابات عام 2006، والتي كانت مؤشراً واضحاً على رفض شعبي لنهج أوسلو وليست بالضرورة تأييداً لفصيل سياسي محدد، والتأييد الشعبي الكاسح للمقاومة والانتصار في معركة عام 2012. إنّ هذا الوعي اللاأوسلوي هو نفس الوعي المعارض الذي أبدى معارضة جماهيرية كبيرة للتصريحات المتعلقة بحقّ العودة، والتظاهرات العديدة التي تساءلت عن الوظيفة الرئيسية للسلطة الوطنية. إن قادة القبائل الجنوب أفارقة، ومن خلال اتفاقيات مع قادة النظام العنصري كانوا قد وصلوا إلى قناعة مطلقة بأنهم رؤساء دول مستقلة سميت كذلك (independe homeland)، لكن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، على الرغم من التنازلات الهائلة التي قدمها للحزب الوطني الأبيض، لم يساوم مطلقاً على فكرة وحدة جنوب أفريقيا، وتقسيمها إلى بانتوستانات. لكن القيادة الفلسطينية، وفي بداية القرن الواحد والعشرين، تتفاخر بأنها وضعت الأرضية الصلبة لبانتوستان جديد في الشرق الأوسط. ولا شكّ أنّ الصهيونية ستناور على أساس أنّ هذه أكبر تضحية وتنازل تمّ تقديمهما (للآخر الفلسطيني)، بعد نفي وجوده لأكثر من قرن، وبعدما أثبت هذا (الآخر) أنّه إنسان. ولكن لضمان استمرارية المشروع الصهيوني في فلسطين، يجب أن يتمّ احتواء هذا الآخر، واستعباده بطريقة لا يعي فيها أنه مُستعبد. وهذا ما يبرّر منح مناطق حكم ذاتي إداري في أكثر المدن الفلسطينية اكتظاظاً. إنّ رفع العلم الفلسطيني وعزف النشيد الوطني، وفرش البساط الأحمر، وتسمية الضفة الغربية المقسّمة بأكثر من 600 حاجز باسم فلسطين، كلها تعني كلمة واحدة: أوسلو. لكن الرديف لهذه الكلمة هو العبودية. العبودية بموافقة العبد ومشاركته في الدفاع عن السيد الأبيض. إنّ الوصول إلى ما نحن فيه الآن من فساد غير مسبوق، وتنسيق أمني مع إسرائيل، بإشراف جنرال أميركي، وحصار غزة بعد تحويلها إلى معسكر اعتقال أكبر من أوشفيتز بمباركة عربية ودولية، هو النتاج المنطقي لاتفاقيات أوسلو. وما على حركة فتح، المسؤول الرئيسي عن توقيع هذه الاتفاقيات، سوى الدخول في مراجعة نقدية جذرية لما أوصلت القضية الفلسطينية إليه، والاعتذار بشكل واضح عن هذه الخطيئة! * محلل سياسي مستقل مقيم في غزّة، أستاذ مشارك في الأدب الإنكليزي والدراسات الثقافيّة، مستشار لدى مركز «Al-Shabaka ـــ شبكة الدراسات الفلسطينيّة»

- اعادة نشر 10/2/2013



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165306

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

22 من الزوار الآن

2165306 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 22


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010