الخميس 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

الهيمنة المترددة: ألمانيا وأوروبا

الخميس 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par جميل مطر

أسمع من أصدقاء تخصصوا في الشأن الأوروبي، وأقرأ لخبراء أوروبيين، أن أوروبا تموج حالياً بمشاهد مستقبلية من صنع أكاديميين وسياسيين، أكثرها لا يدفع إلى التفاؤل ولكن جميعها يرفع ألمانيا إلى مكانة القيادة ويسبغ عليها الفضل والأمل في استقرار القارة وتجاوزها أزماتها الراهنة .
لست مندهشاً من هذا الانبهار بألمانيا من جانب خبراء أعرف عنهم الموضوعية والتزامهم التحليل المتزن . أنا نفسي، ولست خبيراً متخصصاً في الشؤون الأوروبية، أكاد أجزم من موقعي كمراقب بأن السلوك السياسي الألماني في الشهور الأخيرة هو الذي منع تدهور الأزمة الأوكرانية نحو أعماق سحيقة من التوتر والعنف، ونحو تهديد جاد للأمن والسلم الدوليين . لم تساير ألمانيا أنصار التشدد من الأمريكيين والبريطانيين وفي الوقت نفسه لم تكشف عن ضعف، يظن كثيرون أنه ناتج عن واقع اعتماد أوروبا على صادرات الغاز الروسية، وواقع اعتماد جانب كبير من الاقتصاد الألماني على التجارة مع روسيا والاستثمارات المتبادلة .
من ناحية أخرى يبدو أن مواقف أنجيلا ميركل في الآونة الأخيرة، سواء في تعاملها مع مشكلات الاندماج الأوروبي والعلاقات بين الدول أعضاء الاتحاد الأوروبي وتعاملها الشخصي والدبلوماسي مع الرئيس فلاديمير بوتين، كانت كاشفة عن حقيقة أن ألمانيا تعيد التفكير في جدوى الاستمرار في سياسة الامتناع عن تحمل مسؤوليات كبار في النظام الدولي، وسياسات الابتعاد قدر الإمكان عن المشاركة في جهود فرض السلم والأمن بقوة السلاح .
لقد نجحت السياسة الخارجية الألمانية خلال الشهور الأخيرة، في إقناع موسكو بأن برلين قادرة إن شاءت على أن تجعل البراغماتية أساساً ومنهاجاً للعلاقات بين دول أوروبا الشرقية، وأكثرها دول قلقة ومتوترة وخائفة وغير واثقة، وبين روسيا . نجاحها في هذا المسعى لن يحقق المرجو منه إذا لم تخفف القيادة الروسية من دعاياتها وتوجهاتها المغلفة بشعارات قومية . إذ إنه كلما ازداد وهج التشدد القومي وتعددت طموحات روسيا التوسعية نشطت من جديد النزعات القومية في دول أوروبا الشرقية . ولاشك في أن العاقلين في روسيا وخارج روسيا وبالذات في ألمانيا أدرى بمعنى هذا التصعيد المتبادل في التوجهات القومية وخطورته على سلام القارة واستقرارها . من جهتي تابعت باهتمام ردود فعل ألمانيا على التغيرات السياسية الحادثة في بولندا، وبخاصة تولي رئاسة الحكومة ووزارات الخارجية في التعديل الأخير أشخاص معروف عنهم الميل الشديد للواقعية والبراغماتية ورغبتهم في إنهاء عهد من الحكم في بولندا تحكمت فيه الشوفينية البولندية مهددة العلاقات مع روسيا . وقد يكون هذا التغيير السياسي في بولندا ناتجاً عن تأثير غير مباشر أوحت به برلين . أقول هذا وفي ذهني تصريح لمسؤول بولندي جديد جاء فيه أن “روسيا أهم لبولندا من أوكرانيا”، . بمعنى آخر أراد أن يقول إنه لا يجوز تعريض سلامة بولندا للخطر من أجل قضية أوروبية لا تمس بشكل مباشر مصالح بولندا في ضمان استقرار حدودها الإقليمية . أظن أن السياسة الألمانية تجاه القضية الأوكرانية وتجاه مجمل العلاقات مع روسيا حاولت أن توحي لدول أوروبا الشرقية بتبني هذا التوجه “البراغماتي” حرصاً على أمن القارة .
ألمانيا، هي الآن ومن دون شك، اللاعب الأساسي في أوروبا . والفضل في هذا يعود إلى عناصر كثيرة ليس أقلها شأناً جودة أداء النخبة الألمانية الحاكمة، مقابل سوء أداء النخبة الحاكمة في بريطانيا وفرنسا، الشريكين الأهم لألمانيا حتى وقت قريب في قيادة أوروبا . نجد بريطانيا حالياً تفكر في إبطاء عملية الاندماج الأوروبي بل وتهدد بالخروج من الاتحاد، الأمر الذي إن تحقق أو لم يتحقق فقد أعطى ألمانيا بمجرد إعلانها لحق في أن تقرر ما شاء لها أن تقرر في شأن مستقبل أوروبا منفردة . أما فرنسا فحالها الاقتصادي والسياسي يسابق الزمن للالتحاق بحال إيطاليا وإسبانيا وربما اليونان، ففي كل هذه الدول اتسعت الفجوة بين الجماهير والنخب السياسية إلى حد دفع إلى سطح الحياة السياسية بتيارات جديدة تدعو إلى “إسقاط النظام”، هناك الجبهة الوطنية في فرنسا، و“حزب سيريزا” في اليونان و“حركة النجوم الخمسة في إيطاليا”، وحزب بامكاننا Podemos في إسبانيا .
سبب آخر لاستحقاق ألمانيا مكانة القيادة الأوروبية، هو نجاحها في تأكيد استقلال سياستها الخارجية عن الضغوط والمواقف الأمريكية، ولكن من دون الإساءة إلى مكانة أمريكا كقائد للعالم الغربي . لم تخضع ألمانيا “الميركلية” لإرادة أمريكا خلال مرحلة الأزمة الاقتصادية الحالية، استمرت تفرض التقشف في ألمانيا كما على دول أخرى في القارة رغم رفض إدارة أوباما الشديد لهذه السياسة . كذلك لم تخضع للتصعيد الذي سعت إليه الولايات المتحدة في المواجهة مع روسيا حول أوكرانيا، وفضلت التعامل مع روسيا على خلفية خبرة الدولتين التاريخية وخوفهما المشترك من ارتكاب أخطاء دفعتا ثمنها غالياً .
ومن الأسباب أيضاً، أن ألمانيا لم تحاول في أي يوم منذ توحدها أن تكون لها قواعد أو تحالفات سياسية خارج القارة الأوروبية . لم تشتت طموحاتها وآمالها ومصادر قوتها . عرفت النخبة الحاكمة الألمانية أن مستقبل ألمانيا مرتبط بمستقبل أوروبا . أوروبا لها الأولوية، بل هي كل شيء كمصدر من مصادر قوة ألمانيا، ولذلك فهي لا تسعى لنفوذ طاغ في الشرق الأوسط أو في إفريقيا أو حتى في آسيا وأمريكا اللاتينية .
زار أحد كبار المحللين السياسيين الأمريكيين أوروبا وآسيا خلال الشهرين الماضيين، وبين ملاحظاته العديدة الجيدة توقفت أمام عبارة يقول فيها إنه اكتشف أن الآسيويين والأوروبيين لا يتطلعون إلى أمريكا كالعهد بهم قبل سنوات . الآسيويون الآن يتطلعون إلى الصين بينما يتطلع الأوروبيون إلى ألمانيا، ولعلها إحدى علامات عصر ما بعد العولمة حيث عادت الدول تفضل “القريب” وأن كان أقل قوة وثراء على “البعيد” وأن كان أعظم قوة وأوفر ثراء . عادت أيضاً “البراغماتية” غير المفرطة تهيمن على أساليب صنع السياسة واتخاذ القرار بعد أن كانت الإيديولوجية، قومية كانت أم دينية أم إمبريالية، هي المهيمنة . اعتراضي على إطلاق هذا الرأي نابع من قراءتي للسياسات الخارجية لدول أخرى كثيرة منها الصين واليابان وروسيا، ففيها جميعاً لا تزال “القومية” تلعب دوراً لا يزال أساسياً .
عقل ألمانيا وقلبها في أوروبا، ولكنها غير غافلة عن آسيا وما يمكن أن تفعله الصين فيها وبها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165961

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165961 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010