الثلاثاء 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

«انتفاضة» تتكيّف مع الواقع

الثلاثاء 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par هاني المصري

هل ما يجري في القدس هبّة، أم انتفاضة، أم مقدّمة لاندلاع انتفاضة، أم «انتفاضة» تناسب الواقع القائم وتتكيّف معه؟
الكثير مما يحدث يشير إلى أن ما يجري شكل من أشكال الانتفاضة، ولكنّ غياب القيادة والهدف والتنظيم وعدم مشاركة الشعب كله، يجعل ما يجري هبّات محليّة ومتقطعة ووتائرها متباينة جدًا من منطقة إلى أخرى. ففي القدس هناك حالة انتفاضة، أما في المناطق الأخرى فهناك هبّات متقطعة ومتفاوتة الحدّة.
ليس من المتوقّع أن تأتي الانتفاضة الثالثة على غرار الأولى أو الثّانية، فالحقائق والخبرات والظروف، المحليّة والعربيّة والدوليّة، مختلفة تمامًا. فهناك منطقة تخضع للضم الذي هو أكثر من الاحتلال مثل القدس، ومنطقة تقع تحت السيطرة الكاملة مثل الأغوار وما تسمى مناطق (ج)، ومنطقة خاضعة للسيادة الإسرائيليّة، مع تولي السلطة صلاحيات معينة، حيث تنسق أمنياً مع الاحتلال، أما قطاع غزة فهو يخضع للحصار والعدوان والتوغلات بين فترة وأخرى.
بعد أوسلو والانقسام المدمّر، نشأت طبقة واسعة نسبيًّا داخل السلطة وخارجها لها مصلحة ببقاء الوضع على حاله. وقد عارضت هذه الطبقة اندلاع انتفاضة، فيما الرئيس تعهد صراحة بالحيلولة دون ذلك، بينما الفصائل في حالة يرثى لها. الانتفاضة اليوم تأتي على صورة هذه الخصائص. لذلك أخذت عناوين متعددة، وجاءت على شكل موجات وهبَّات شعبية.
وليس من الضروري أن تستمر الانتفاضة القادمة لسنوات، بل قد يكون من المناسب أن تأتي على شكل موجات متتابعة تحت عناوين مختلفة، فتأخذ في كل مرة استراحة المحارب لتعاود انطلاقتها من جديد، إذ تراكم كل هبَّة وانتفاضة على ما حققته سابقاتها من إنجازات، بشرط أن يكون لها هدف وقيادة وجبهة وطنيّة وتنظيم يضمن لها الانتصار في النهاية.
ما يجري في القدس حلقة جديدة من الصراع، تفجّرت بعدما وصلت الأمور إلى مرحلة لم يعد فيها المقدسي قادرًا على الاحتمال. فبعد أكثر من سبعة وأربعين عامًا على احتلال القدس وضمها لإسرائيل وإعلانها عاصمة موحدة وأبديّة لها، وبعد أكثر من عشرين عامًا على توقيع «اتفاق أوسلو» الذي فصل ما بين الأراضي المحتلة العام 1967 وبين القدس، لا تزال المدينة تتعرض لأعمال منهجيّة ومتواصلة تستهدف تهويدها وأسرلتها، وطرد أكبر عدد ممكن من سكانها من أجل الوصول إلى وضع يكون فيه الفلسطينيون فيها أقليّة صغيرة تخضع لإرادة الأغلبيّة اليهوديّة.
وقد وصل المقدسي إلى حالة من الإحباط التام، حيث يشعر بعدم إمكانيّة تغيير الجحيم الذي يعيش فيه. بل وجد أن الأمور تسير باستمرار نحو الأسوأ، خصوصًا بعد إحراق وقتل محمد أبو خضير، وتصاعد اعتداءات المستوطنين المدججين بالأسحلة، وبث وتعميم خطاب القتل الذي لا يخشى مرتكبه من العقاب. إذ أصبحت الاعتداءات على الأشخاص والممتلكات والمقدسات روتينًا يوميًّا.
كما عانى المقدسيّ من عجز قيادته عن حمايته، أو تقديمها طريقاً لإنقاذ القضيّة بعد وصولها إلى حائط مسدود، وترددها في اختيار طريق جديد، فباتت لا تملك إلا الشجب والاستنكار، والاتكاء على العرب والمسلمين في وقت لا يلبوا فيه النداء.
إزاء كل ذلك، وفي ظل استمرار الانقسام الذي يحول دون اندلاع الانتفاضة، وبرغم الأهوال والمخاطر، لم يجد المقدسي سوى التحرك بشكل جديد من الانتفاضة التي تتناسب مع الواقع، لأن عدم المجابهة يعني الانتصار التام للمشروع الاستعماري الاستيطاني، ولأن القيادة والفصائل حين تغيب، تدفع كل فرد للدفاع عن نفسه بالطريقة التي تناسبه.
وبدلًا من شق مسار بديل من المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة منفردة، يتبنى المقاومة بأشكالها السلميّة والمسلّحة، التي تستند إلى الحقوق الفلسطينيّة والقانون الدولي الإنساني وإلى مرجعيّة وطنيّة واحدة، نرى الواقع مختلفاً تمامًا. فهناك إدانة للمقاومة المسلحة برغم أنها حقٌ مقرٌّ، أو لما يسمى استهداف «المدنيين»، وكأنّ الصراع بين دولتين متكافئتين لكل منهما جيش، أو كأن من ينفذ العمليات فصائل لديها قيادة وإمكانيات، لا أفراد يقومون بما يستطيعونه ضد عدو، فلا يميزون بين المدني والعسكري، وبين الأماكن الدينيّة والثكنات العسكريّة، حين يكون رجال الدين رأس حربة المشروع الاستعماري العنصري. ويجري تحت عناوين مختلفة نزع البطولة عن هذه العمليات الفدائيّة، والتمييز المفتعل بين المقاومة والانتقام، والحديث عن المقاومة المجديّة وتلك غير المجديّة، والتنكر للانتفاضات السابقة.
لا يمكن لوم الذي يغرق إذا حاول أن يتعلق بما يساعده على النجاة من الغرق بأي وسيلة ممكنة. وعندما تغيب المؤسسة الوطنيّة الجامعة والفصائل والاتحادات والنقابات، ستكون الانتفاضة انتفاضة أفراد. وهي انتفاضة يأس أكثر مما هي انتفاضة أمل، بينما الانتفاضات الكبرى القادرة على الانتصار يحركها الأمل. لكن في غمرة المواجهة، يمكن أن تتبلور القيادة القادرة على إعادة الاعتبار للأمل، ولقدرة الإنسان الفلسطيني على الصمود والانتصار.
وبدلًا من نعي الانتفاضة قبل أن تبدأ، ورفض شكلها المسلح بالمطلق، على النخب والقيادات المساهمة في توفير شروط انتصارها ومنع تحوّلها إلى فوضى. فأشكال النضال لا تتوقف على طرف وحده. إذ عندما يرتكب الاحتلال كل أنواع الجرائم وبمعدلات غير مسبوقة، وتغدو العنصريّة قانونًا بما لا يدع مكانًا للفلسطيني على أرض وطنه، لا يمكن استبعاد المقاومة المسلحة بشكل كامل.
وبرغم ما سبق ذكره، ثمة ارتباك ظاهر على الحكومة الإسرائيليّة جراء الخسائر الناجمة عن المقاومة. وتتفاقم الخلافات في إسرائيل حول تقييم ما يجري وكيفيّة التعامل معه، حتى لا يكبر ويغدو انتفاضة عارمة. فقد وصلت الخشية من «الانتفاضة» المقدسيّة إلى حد لوم الحكومة وسياساتها المتطرفة والعنصريّة الراغبة بتوحيد القدس تحت الاحتلال، فيما تبدو الأخيرة الآن مقسّمة أكثر من أي وقت مضى.
إن تفجر الصراع في القدس يمكن أن يخلط الأوراق والمعادلات القائمة كلها، ويقلب الموقف ضد مصالح وأهداف إسرائيل ومن يدعمها، ويمكن أن يدفع بالأمور نحو الفوضى بما يحقق الأهداف الإسرائيليّة. فهل نجرؤ على الاختيار الصحيح، أم يقضي علينا الانقسام والخشية من المجابهة المفروضة؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2178377

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام الموقف  متابعة نشاط الموقع هاني المصري   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2178377 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40