الخميس 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

إنما الأخبار بالنيات

الخميس 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par فهمي هويدي

زفت إلينا جريدة الأهرام أمس (19/11) خبر «تحديد منفذي جريمة الشيخ زويد» ـ هكذا كان العنوان الرئيس للصفحة الأولى. تحت العنوان ذكرت الجريدة ما نصه نقلا عن لسان وزير الداخلية «إن قطاع الأمن الوطني بالاشتراك مع القوات المسلحة نجحا في تحديد شخصية منفذي جريمة الشيخ زويد الإرهابية، التي راح ضحيتها 31 من الضباط والجنود في الشهر الماضي، موضحا أنه سيتم إعلان التفاصيل الكاملة قريبا. في الخبر أيضا «أن القوات المسلحة والشرطة قامتا بالقضاء على أخطر العناصر التكفيرية في سيناء».
الكلام غاية في الأهمية، لكن المعلومات فيه غاية في الغموض. ذلك أن النجاح في تحديد شخصية مرتكبي هذه الجريمة يقتضى ـ عند الحد الأدنى ـ أن يحدد عددهم وهوياتهم والأماكن التي جاءوا منها أو التي اختبأوا فيها. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. كأنما كانت رسالة الخبر أريد بها طمأنة الرأي العام إلى أنه تمت السيطرة على الموقف. وأن الحكومة قامت باللازم. ومن ثم فلا داعي لأن ينشغل الناس بالتفاصيل. بالمنطق ذاته ذكر الخبر أنه تم القضاء على أخطر العناصر التكفيرية في سيناء، دون أى ذكر للتفاصيل. أو الحد الأدنى منها الذي يوفر للخبر صدقيته.
هذه اللغة في مخاطبة الرأي العام ليست جديدة، كما أن تعميمها وإيصالها إلى الناس ليس مقصورا على جريدة الأهرام وحدها. فنحن لم نعرف حتى الآن من المسؤول عن جرائم قتل الجنود المصريين في سيناء. وقد قيل لنا إن الرئيس الأسبق أبلغ بأسماء الذين اشتركوا في قتل 16 ضابطا وجنديا في رفح عام 2012، لكنه احتفظ بها ولم يعلنها ـ إلا أننا لم نفهم لماذا ظلت تلك الأسماء طي الكتمان بعد عزله وتقديمه إلى المحاكمة. كما أن أخبار القضاء على أخطر العناصر التكفيرية في سيناء أصبحت عنوانا ثابتا في الصحف المصرية. فكل أسبوع وربما بصفة شبه يومية يتم قتل العناصر الأخطر في سيناء. الأمر الذي يفترض أنه تم القضاء على كل الرءوس خلال شهر على الأكثر. ولكن ذلك لم يحدث. كأنما هؤلاء يتناسلون باستمرار على نحو يتعذر معه القضاء عليهم في أي وقت.
خلال أسبوع واحد فقط من الشهر الحالي كان من بين عناوين الصحف المصرية ما يلي: ضربات ساحقة للإرهاب في سيناء ـ الجيش يستعد لهجوم كبير ضد الإرهابيين ـ الجيش يستعد للضربة القاضية ضد «تنظيم» بيت المقدس ـ الأباتشي تقطع رءوس الإرهاب في سيناء ـ الجيش يدك أوكار الإرهاب في سيناء والشرقية ـ من الجيش لداعس: مقابركم في مصر.
ما فهمته من هذه العناوين وأمثالها أن المراد بها تعبئة الرأي العام وطمأنته إلى أن القوات المسلحة تقوم بواجبها في تطهير سيناء من الإرهابيين. وهو ما لا يستطيع أحد أن ينكره أو يشك فيه، إلا أن عناوين من ذلك القبيل إذا صلحت لنشرات أو بيانات إدارات التوجيه المعنوي والإعلام التابعة للقوات المسلحة أو الشرطة، فإنها لا تصلح عناوين للصحف اليومية، التي يفترض أنها تحترم عقل القارئ وتوفر له حقه في أن يعرف. بكلام آخر فإن هذه العناوين تعبر عن النوايا والأمنيات والمقاصد ولا تعبر بالضرورة عن الحقائق الماثلة على الأرض. ومشكلتها ليست مهنية فحسب، بمعنى أنها تنتمي إلى الخطاب التعبوي بأكثر مما تنتمي إلى جنس الأخبار، لكن مشكلتها الأكبر أنها تفقد ثقة الناس في صدقية ما تنشره الصحف. وتضم أمورا بتلك الأهمية والخطورة إلى قائمة «كلام الجرايد» الذي هو أقرب إلى الثرثرة الخالية من أي مضمون جاد.
بسبب دقة الأمر وحساسيته فإنني سأكتفي بما ذكرت وسأستشهد بنموذج آخر في محيط الحياة المدنية يجسد الفكرة الأساسية التي أردت لفت الانتباه إليها. ذلك أن «المانشيت» الرئيسي لجريدة الأهرام ـ يوم الثلاثاء 18/11 زف إلينا بشرى أخرى تمثلت في «عودة حركة السياحة المصرية إلى الخريطة العالمية» وهو خبر سار حين يقع عليه المرء فسوف يخطر على باله على الفور أن المطارات ازدحمت والفنادق شغلت والمراكب السياحية امتلأت وانطلقت والأسواق انتعشت.. إلخ. لكنه حين يهبط بعينيه لكي يقرأ ما تحت العنوان سيكتشف أن ما خطر بباله لم يكن صحيحا. وأن كل ما في الأمر أن رئيس الجمهورية اجتمع في إحدى قاعات القصر الجمهوري مع ممثلي شركات السياحة العالمية، وحدثهم عن حرص الدولة على تذليل العقبات التي تعترض تنشيط السياحة في مصر. ولكن الجريدة اعتبرت أن ما تطلع إليه الرئيس وتمناه هو الخبر، وأن مصر إن لم تكن قد عادت بالفعل إلى الخريطة العالمية للسياحة فالأكيد أنها بسبيلها إلى ذلك، بشهادة رئيس الجمهورية شخصيا.
ليس ذلك جديدا ولا هو يخص مرفقا بذاته ولا جريدة بذات.ها ولكنه صار من تقاليد المتابعة الصحفية التي أصبحت تعد كل كلام الرئيس أخبارا مهمة، وتعتبر أقواله أفعالا، الأمر الذي أشاع في أوساط السلطة أن النشر في الصحف دليل على أن المعاملة تمت والمشروع أنجز. وهو ما أصبح يقدم لنا تعريفا جديدا للخبر. إذ لم يعد ما حدث بالفعل ولا هو المؤكد أو المرجح حدوثه، ولكنه ذلك الذي نتمنى حدوثه يوما ما. لذلك فإن كبار المسؤولين كثيرا ما أصبحوا يستعرضون إنجازاتهم على صفحات الصحف بأكثر مما يقيمونها على أرض الواقع. وهم في ذلك يراهنون على ثلاثة أشياء، أولها قوة تأثير تلك الوسائل. وثانيها ضعف ذاكرة المواطنين. أما الثالث والأهم فهو اطمئنانهم إلى أن أحدا لن يحاسبهم أو يراجعهم فيما أعلنوا عنه ــ هنا ينتهي الكلام المباح!



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2178635

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

50 من الزوار الآن

2178635 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 51


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40