الخميس 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

بكين.. القمة الأهم بين قمم خمس

الخميس 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par جميل مطر

تقدم الصين مشروعها للقيادة في آسيا تحت عنوان الحلم الصيني لمنطقة الباسيفيكي وآسيا، وجوهره إقامة «مصرف دولي» للتنمية الاقتصادية، كنموذج أول على قدرة العالم غير الغربي على إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد.

خلال أقل من أسبوع، انعقدت في بكـين قـمة لقادة 21 دولة في «مجموعة التـعاون الاقتـصادي لدول آسيا والباسيفيكي»، وقمة ثنائية سبق انعـقادها اجتماع قمة بكين، طرفاها الرئيسـان بـاراك أوباما وشـي جين بينغ. وبعد بكين انـعقدت قمـتان في ميانمار، قمة لدول مجموعة «الآسيان»، أي «رابطـة دول جـنوب شـرق آسـيا»، وفـى سياقـها انعقـدت قـمة «دول شرق آسيا». وفى النهاية انعقدت في مدينة بريزبين في استراليا قمة «مجموعة العشرين».
لا أبالغ إن قلت إن بكين كانت بين هذه القمم، الأهم شكلاً وترتيباً وجوهراً وأثراً في مجمل الحياة السياسية الدولية. ببساطة شديـدة كانت هذه القمة جهداً إضافياً ينضم إلى الجهود المبذولة منذ عقدين على الأقل نحو بنـاء نـظام دولي جـديد. تهدف هذه الجهود، وآخرها المفاوضات التي حضرت لقمة بكين الثنائية، إلى تحقيق أمرين أساسيين يصعب على المسؤولين في الدولتين التصريح أو الاعتراف بهما: الأمر الأول يتعلق بالتوصل إلى فهم متبادل حول مسألة توزيـع المغـانم بـين قطـبي النظام الدولي تحت الإنشاء وتحديد المسؤوليات الدولية الملقاة على عاتقيهما. أما الأمر الثاني، فيتعلق بوضع مقاييس لتقدير مستوى «القوة الحقيقية» والنفوذ الدولي لكل طرف من الطرفين الساعيين للمشاركة في قيادة هذا النظام الدولي الجـديد. هذان الهدفان ليسا جديدين على العلاقات الدولية. ففي كل مرحلة سبقت التحول من نـظام دولي إلى آخر، اجتهدت الأطراف المرشحـة للقـيادة للتوصـل إلى إجابات تكون أقـرب مـا تكـون إلى الحقيـقة، بحيث يمكن وضع القواعد اللازمة لإدارة النظام الدولي وتحديد حجم ونوع المسؤوليات والأعباء المحتملة والحقوق العائدة نتـيجة حـيازة مستـوى من القوة والنفوذ يفوق مستوى الأطراف الأخرى كافة.
كانت مثيرة تحركات الطرفين، الصيني والأميركي، خلال الأيام والساعات السابقة على انعقاد القمة. كان سراً معلناً، أن المسؤولين في الدولتين قد استعدا على امتداد شهور عديدة، وربما سنوات، لمفاوضات تسبق هذه القمة تحديداً، يتوصل بعدها الرئيسان إلى اتفاقات والتزامات، بعضها صريح وحاسم، والبعض الآخر يلتزمه الطرفان ضمنياً بخطوطه العريضة. كان المتوقع بطبيعة الحال أن يتفاوض الطرفان مستندين إلى حسابات الأوضاع القائمة وقتذاك. لم يضع المفاوضون في كلا البلدين في حسابهما احتمال وقوع أحداث أو تطورات تغير ولو نسبيا من وزن طرف من طرفي المفاوضات.
كان أول ما خطر على ذهني عند سماع أول خبر عن تظاهرات الشباب في هونغ كونغ قبل حوالي شـهرين، السؤال عن وقع هذه التظاهرات في نفوس المتفاوضين في واشنطن وبكين الذين يمهدون لقمة بكين. في ظني، أن هذه التظاهرات أضعفت بشكل ملموس موقف المفاوضين الصينيين في مواجهة أقرانهم الأميركيين، ومع ذلك كان حرص واشنطن في تلك الأيام واضحا على تفادي تعريض المفاوضات لخطر التوقف من جانب الصين، لو شنت الدبلوماسية الأميركية وأجهزة الإعلام مواقف عدائية من سياسات حكومة بكين تجاه المتظاهرين. لم نلاحظ شماتة من جانب الأميركيين كشماتتهم خلال تظاهرات المعارضة الروسية ضد ترشيح فلاديمير بوتين.
بالمثل، كان أول ما خطر على بالي عند سماع نتائج الانتخابات التشريعية في الولايات المتحدة في مطلع هذا الشهر سؤال مماثل: هل فوز الجمهوريين وافتضاح ضعف شعبية الرئيس أوباما وأفراد طاقمه الحاكم سوف يعقدان مهمة الدبلوماسيين الأميركيين الذين يفاوضون الصين ويجسون نبضها؟ هل طفت بعد ظهور النتائج احتمالات تنبئ بأن الصين قد تغير مواقفها حول قضايا الشراكة القادمة في قيادة العالم، بدءاً بقيادة آسيا والباسيفيكي؟
لقد أساءت تظاهرات هونغ كونغ إلى مكانة الحزب الشيوعي الصيني والقيادة الحاكـمة في بكين، وكذلك أساءت نتائج الانتخابات الأميركيـة إلى مكـانة الإدارة الأميركية وأوباما شخصيا. ظهرت النتائج في وقت كانت الدبلوماسية الأميركية تستعد لمفاوضات في مرحلة مصيرية في مسيرة العلاقات الدولية عموما، وفى عملية بناء علاقة بين دولتين تخططان لتقاسم قيادة العالم. هذه التطورات ربما فسرت بعض سلوكيات الدولتين خـلال زيـارة الرئيس أوباما، وخلال القمتين، الثنائية وقمة «الآبيك». المؤكد في النهاية هو أن القمة الثنائية لم تسفر عن توقيع اتفاقـات أو معاهـدات جوهـرية، تمس مباشرة مستقـبل الأمن والسلم الدوليين، أو أمن وسلم القارة الآسيوية أو التحالفات الدولية الراهنة، بل وقع الزعيمان على اتفاقات ثانوية، منها مثلا اتفاقية بشأن التزام الطرفين بالمساهمة في حل مشكلة الاحتباس الحراري، واتفاقية تقضي بتسهيل منح التأشيرات لمواطني الدولتين.
تأملت طويلاً في عناوين هذه الاتفاقات، وفى الخطب والتصريحات المتبادلة. لم أجد فيها ما يقترب من معلومات تسربت قبل شهور عن استراتيجيات التفاوض من البلدين. فهمنا وقتها أن الطرف الأميركي يأمـل في أن يتوصـل خـلال المفاوضـات إلى ما يجعل الطرف الصيني يعلن، ولأول مرة، تعريفه للمصالح الجوهرية للدولة الصـينية. تريـد أميركا أن تحصل من الصين على إعلان صريح بأن مصالحها الجوهرية هي مثلا استعادة تايوان، أو أمن وسلامة مقاطعة سنكيـانغ، أو مواصلة دمـج التيـبت في الثقافة والأمة الصينية، أو الهيمنة العسكرية والاقتصادية على بحر الصين الجنوبي، أو السيطرة على الجزر الصخرية الاستراتيجية في بحر الصين الشرقي، أو كلها معا أو كلها وأكثر. ما يريده الأميركيون هو أن تضع الصين هذه المصالح في صدارة «أجندات» التفاوض الصينية مع العالم الخارجي، إلا أن الصين التي كانت تمـتنع عـن مناقشة هذا الموضوع الذي عـادت لرفـضه بعـناد أشد هذه المرة. أتردد في القول بأن ضعف شعبية الرئيس أوباما، سواء بسبب سـمعة البطة العـرجاء أو بسبب خسارة الديموقراطيين الأغلبية في المجلسين التشريعيين، له صلة مباشرة بفشل الولايات المتحدة في اقناع الصين بضرورة التصريح بمصالحها القومية والجوهرية، ووضعها على أجندة المفاوضات.
على الناحية الأخرى، أعتقد أنه كان في نية الصينيين الحصول على اعتراف أميركي بأن آسيا تتسع لدولتـين أعظـم، والـتزام أميركي بتغيـير نمط قيادتها للنظام الدولي بحيث يصـبح أكـثر استعدادا للتعامل مع «القطب الصاعد» بالتساوي والاحترام المتبادل. كان واضحاً خلال الجولات السابقة للمفاوضات الاستراتيجية بين البلدين أن أميركا لن تقبل بسهولة هذا الشرط. قد تقبل الاعتراف بدور أكبر للصين في الإقليم وبحقوق تناسب قدراتها الاقتصادية والتجارية والعسكرية المتزايدة، ولكنها لن تخذل عدداً من دول جنوب وشرق آسيا وتتركها للصين تمارس هيمـنتها علـيها. أتصور في الوقت نفسه أن تظاهرات هونغ كونغ وصداها في الإقليم لم يعززا موقف المفاوض الأميركي. كان لافـتا للنـظر مـثلا أن أوبـاما لم يتحدث إلى الرأي العام الآسيوي خلال وجوده في الصين، وقيل إنه أرجأ الخطاب إلى ما بعد انتهاء الزيارة. وبالفعل ألقي الخطاب في بريزبين بأستراليا عشية انعقاد «قمة العشرين». وكان قد تردد حول هذا الموضوع أن الصين أبدت حزما في رفض السماح له بمخاطبة شباب الجامعات أو التوجه مباشرة إلى الرأي العام الصيني، خلال القمة الثنائية وقمة «الآبيك».
تشير مراقبة أداء القطبين الأميركي والصيني في السنة الأخيرة إلى تفاوت في النظـرة الاستراتيجية إلى مسيرة المفاوضات الصينية الأميركية. من الطبيعي أن يكون هدف أميركا في هذه المفاوضات اقناع الصين، أو إجبارها، على الاعـتراف بأن لأميركا حقوق هيمنة على الإقلـيم مـوروثة من عصر الاستعمار الغربي، تدعمها في هذا الصدد دول أوروبا بما فيها ألمانيا. ومن السذاجة تصور أن المفاوض الأميركي لا يضع في حسابه حقيقة أن الصين، وآسيا برمتها، تدرك أن أميركا لم تعد القطب الأوحد بلا منازع.
أما المفاوض الصيني، فمن المنطقي أيضا أن يضع هدفا له التعجيل بالحصول على اقتناع أميركا بأن مستقبل العلاقات الثنائية والنظام الدولي ستقرره مفاوضات صينية أميركية قاعدتها «اعتراف أميركا بوجود صراع دائر منذ فترة بين دولة عظمى صاعدة ودولة عظمى منحدرة».
يأخذ هذا الصراع في واقع الأمر شكل سباق الطرفين لتوسيع نفوذهما الإقلـيمي في آسـيا، إذ بينما تسعى أميركا لعقد اتفاقية «شراكة عبر الباسيفيك» مع الدول المطلة على الباسيفيكي وتستبعد منها الصين، تسعى الصين من ناحية أخرى، ولكن في الوقت نفسه، لعقد اتـفاقية تجارة حرة باسيفيكية ـ آسيوية. وقد تعهدت الصـين بالفعل إلى دول الإقليـم الانتـهاء من تـقديم مشروعها النهائي خـلال عامين. تدرك الصين تماما أن مآل جهود أميركا الفـشل بسبـب النمـو المتزايد في حجم تجـارة الصـين مع دول الإقلـيم. بمعـنى آخر تبدو الصين مطمئنة إلى أن الدولة العظمى المنحدرة اقتصاديا سوف يستحيل عليها استبعاد الصين من تكتل إقليمي متزايد الاعتماد على التجارة الصينية.
تقدم الصين مشروعها للقيادة في آسيا تحت عنوان الحلم الصيني لمنطقة الباسيفيكي وآسيا، وجوهره إقامة «مصرف دولي» للتنمية الاقتصادية، كنموذج أول على قدرة العالم غير الغربي على إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد. تقدمه أيضا تحت عنوان «طريقان للحرير»: طريق تنمية ومشروعات مشتركة وتجارة متدفقة يمر عبر وسط آسيا وينتهي في أوروبا، وطريق آخر بالمواصفات نفسها يمر بجنوب آسيا فأفريقيا، ثم يتجه شمالا إلى أوروبا. وفي النهاية يصب الطريقان في مدينة البندقية الإيطالية. هذان الطريقان هما الرمز الأشد وضوحا وصراحة على الآفاق الواسعة والمساحات المترامية والقوة الكبيرة التي عرفت بها إمبراطوريات الصين قبل وصول الاستعمار الغربي.
هناك في بريزبين بأستراليا انعـقدت قمـة العـشرين ختاما لسلسلة القمم الدولية العديدة التي اجتمعت خلال أسبوع واحد. أستطيع، بعد قراءة بياناتها وتصريحات المشاركين فيها وتعليقات المعلقين، أن أقرر باطمئنان أن أوروبا اعترفـت ضمناً بأن السباق في آسيا جرى بالفعل حسمه لمصلحة الصين، ولم يبقَ للغرب إلا أن يصفي حساباته مع روسيا، المتمرد الجديد على هيمنة الدول الغربية، والداعم القوي للصين، حتى الآن على الأقل، في سباقها مع أميركا وجهودها في مجال إقامة نظام دولي جديد، نظام يكون الغرب فيه مجرد شريك، ولا أكثر.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165272

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع جميل مطر   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165272 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010