الأحد 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014

السقوط في امتحان القدس

الأحد 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 par محمود الريماوي

بينما يقوم الاحتلال الصهيوني باستباحة أحد أقدس أماكن العبادة لعموم المسلمين وهو المسجد الأقصى في القدس العربية المحتلة، فإن الإسلام السياسي يدير ظهره لهذا الانتهاك الجسيم وينشغل بمعارك مع الإخوة في الدين، أو مع الإخوة في الإيمان . إنها لمفارقة كبرى تكشف عن هزال هذا التسييس، وخواء هذا الاستخدام للدين من طرف تيارات وجماعات تكاثرت على مدى العقود الثلاثة الماضية، وبات تمزيق مجتمعاتها وتشويه صورة المسلمين هو شغلها الشاغل، وجهادها الذي لا يتقدم عليه جهاد، رغم الادعاءات الكبيرة .
من العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى اليمن وبعد سنوات الجمر في الجزائر، في تسعينات القرن الماضي، تنكشف صورة الصراع الدموي المحموم على السلطة، ونزعة إقصاء الآخر المسلم بأي ثمن . وعلى نحو تتجلى فيه صورة مقيتة مفادها أن المسلمين من خلال نفرٍ منهم، هم أتباع الديانة الوحيدة الذين يقتتلون فيما بينهم ويستبيحون دماء بعضهم بعضاً . وبالطبع فإن غالبية المسلمين بريئة مما يجري، لكن ما العمل وزعماء الطوائف والمذاهب والملل والنحل هم من يتصدرون المشهد، ودَعْك بعدئذ من الخطب المرفوعة والشعارات الطنانة، فالوقائع هي الفيصل والشاهد، ولسانها ناطق مبين .
كم ارتفعت خلال نحو خمسين عاماً الأصوات تتوعد الصهاينة وتضرب موعداً مزعوماً مع الاقصى بعد تحرير بيت المقدس . كم من حبر أريق، وكم من مهرجانات تم تحشيدها ومن مؤتمرات تم عقدها ومقالات جرى تدبيجها وخطابات جهورية تم ارتجالها، ومناسبات وأيام سميت باسم المدينة المقدسة، وكلها تدور حول القدس والمقدسات، فلما اشتد الخطر على الحرم الشريف وتكشفت أكثر فأكثر المشاريع الصهيونية باستهداف هذا المكان المقدس، إذا بزعماء الإسلام السياسي ينفضون أيديهم من وعودهم، وينصرفون بكليّتهم إلى صراعات طائفية مسعورة هنا وهناك من العالم العربي . ولا يخطر ببال هؤلاء المتزعمين كيف للعدو أن يأخذ التهديدات والوعود مأخذ الجد، وهو يرى إلى المسلمين يتطاحنون ويستبيحون بأنفسهم دور عبادتهم، وينكّلون بإخوتهم في الدين، ويغفلون بل يتعامون عما يحيق بالقدس والمقدسات من مخاطر داهمة متفاقمة .
إن هذه الوقائع الدامغة تكشف عن خواء الإسلام السياسي بشتى فرقه وجماعاته وأحزابه وفروعه ومذاهبه، إلا من رحم ربي من مجموعات معتدلة سمحة تُحرّم سفك المسلم لدم أخيه المسلم، أو لدم أخيه في الإيمان، أو لدم أخيه في الوطن وفي الإنسانية أيّاً كان دينه ومعتقده . لكن هذه المجموعات المعتدلة، غالباً ما يتم ترويعها وإسكاتها من مجموعات متشددة متسيّدة، فلا يظهر لها صوت على المنابر ولا يبدو لها حضور على المسارح، رغم أنها أقرب إلى دين الرحمة من بقية الجماعات، وأحرص على مصالح البلاد والعباد .
بفضل جماعات الإسلام السياسي المتقابلة في الخنادق، التي يزعم كل منها أنه يمتلك وحده ناصية صحيح الدين والمعتقد، انطلقت رياح الطائفية البغيضة لتعصف بوحدة المسلمين وتُباعد ما بينهم، مما لم يشهد المسلمون ولا المجتمعات العربية مثيلاً له في أصعب الحقب والمحطات، كما في حقبة الاستعمار والاحتلال الأجنبي مثلاً . وبينما شاعت على مدى عقود طويلة أطروحات عن سعي الأعداء والخصوم لبث روح التفرقة وزرع الأسافين بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد، إذا بزعامات وقيادات الإسلام السياسي تتولى بنفسها هذه المهمة في التفريق بين المسلمين، ثم مباعدتهم عن بقية أبناء وطنهم، مع تظهير منازلة ومخاصمة الأخ في الدين، على أنها تتقدم في الأهمية والاعتبار على أية مخاصمة ونزال مع الأعداء الخارجيين، وقد شاع تعبير الأعداء الداخليين لتسويغ هذا المنحى الخطير في تبديد طاقة الشعوب والإزراء بحقوق الإنسان والجماعات وتسميم العلاقات الأهلية . وبينما تتوجه الخصومة في البدء إلى جماعات وأحزاب وقيادات في الطرف الآخر، فإنها سرعان ما تنقلب وتنجرف نحو تعميم الخصومة ضد بيئة تلك الزعامات، وضد كل من يحمل معتقداً مغايراً في إطار العقيدة الواحدة . في هذه الظروف نما وظهر تنظيم داعش الإرهابي، ومن خلفه ومن حوله نمت وازدهرت دواعش أخرى، تحمل أسماء شتى، وتناصب داعش العداء، لكن دون أن يفترق سلوكها عنه في تعميم الكراهية والعداء، واقتراف الفظائع بدم بارد بحق إخوتهم في الدين والوطن، والفرق أنها تجنح إلى التكتم ولا تذيع جهاراً نهاراً ما ترتكب وتقترف كما تفعل داعش، التي تجمع بين الوحشية المريضة والاستعراض المشين .
أجل لقد سقطت جماعات الإسلام السياسي المختلفة والمتقابلة في الخندقين، في امتحان القدس والأقصى، وأثبتت أنها لطالما استخدمت الدفاع عن المقدسات في بيت المقدس، كمنصة للصعود السياسي والاستيلاء على السلطة هنا وهناك، وتنفيذ أجندات خارجية، وللتغرير بجموع المؤمنين البسطاء واستتباعهم، فإذا ما حانت ساعة الجد والامتحان، إذا بجميع هؤلاء يديرون ظهورهم لبيت المقدس، ويصمّون آذانهم عن نداءاتها، بل ويستصغرون عملياً الاستنفار لنصرتها، وينهمكون بدلاً من ذلك في استباحة دماء أشقائهم المسلمين من أبناء جلدتهم، مع ما يلزم من تعبئة، رافعين خلال ذلك شعارات سقيمة مفادها وفحواها أن تنكيل جموعٍ من مسلمين، بجموعٍ من مسلمين آخرين، هو الذي يُمكّن من تحقيق المنعة للأوطان، ومن انتصار المسلمين .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 24 / 2165400

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165400 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010