الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

هُنّ مرثا؟!

الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par د.احمد جميل عزم

في روايته “مملكة الغرباء”، يأخذ الياس خوري، مريم إلى شاطئ البحر الميت الشرقي. تَنظُر إلى أضواء القدس المتناثرة عبر أفق رصاصي، وتبكي. وتراها تتساءل عن عدد “المريمات” اللاتي أحطن بالمسيح عليه السلام؛ “في قانا كانت أمّه، وهي التي دفعته إلى صنع أعجوبته الأولى، وأمام قبر لعازر كانت مريم أخرى، وفي القيامة كنّ جميعهن”.
ذهب خوري، في الرواية، إلى جامعة كولومبيا، وبحث في الصحف والأراشيف عن قصة مقدسية لبنانية حديثة، وذهبتُ إلى كيمبريدج.
نزلتُ من الحافلة يوماً، والثلج يملأ ساحات “كنغز كوليدج” التي تأسست العام 1441. شعرتُ بشماتة؛ فالبساط العُشبي الأخضر الذي يتوسط المباني، مكسوٌ بالثلج. وهو ممنوع عادةً على عامة الناس، ومسموح فقط للأساتذة من رتبة عليا، وها هو ممنوعٌ على الجميع بأمر الثلج.
نسيتُ مُحيطي وعدتُ أفكر في مرثا وفاطمة. أقاوم الانشغال بهما، للتركيز في بحثي في النظريّات.
مررت بـ“غرفة النبيذ” في الكلية، واجتزتُ نهر “الكام” المتجمد، والبط الذي يواصل السباحة رغم ذلك، وأنّا مستغرق بحوارٍ مع مرثا وفاطمة. أيقظني (أو أذهلني) مشهدُ ورودٍ صفراء صغيرة تشبه البابونج تخترق الثلج، كيف تقوى على ذلك؟! تبدو مغسولةً وقوية.
واصلتُ السير، مُوزّعاً بين المشهد، ومرثا وفاطمة، وأفكر كيف بدتا عندما كانتا في سن هؤلاء الطلبة حولي بأزيائهم الغريبة ودرجاتهم الهوائية؟
مرثا هي شقيقة مريم المجدلية وأخت لعازر، وفاطمة جارتهما، يفَصلَ بينهما نحو 19 قرناً، وهي جدتي رحمها الله، توفيت العام 1996.
جدتي لي، قصّةُ حُبِّ كنعانيّة، ثوبها مطرزٌ بأساطير، ورائحتها العابقة لا تَفنى، سماها طفلٌ “ستي الحمرا” لأنّ عروق الدماء الحمراء تطغى على وجهها.
عاشت “مرثا” وشقيقها وشقيقتها في العيزرية، على بعد كيلو مترات قليلة من القدس، والحرم وكنيسة القيامة، وخلف جدار الفصل العنصري الآن، وقرب بيت تربت فيه جدتي.
كان “لعازر” ثائراً ضد الرومان، وعندما جاء المسيح آمن به وصادَقه، وكان عليه السلام يزورهم ويرتاح في بيتهم وقربهم. وتظهر صور ورسومات وقصص الإنجيل مريم جالسةً قرب قدميه، أمّا مرثا فتعتني بالمنزل والطّعام، وتعظ شقيقتها أن تكون أكثر تعقّلاً وأن تساعدها. استأثرت مريم بميلها للفلسفة والتفكير باهتمام المؤرخين، أمّا مرثا فربّة بيت، ولكنها حكيمة، تتدخل في اللحظة المناسبة لحل الأزمات. استعان بها أهل قريتها لتواجه وحشاً أعياهم بهجماته، فاحتالت عليه وأخضعته (جدتي تشبهها).
تخيّلت نفسي أخبر فاطمة عن قُرى ومحالٍّ تجارية حول العالم تحمل اسم “Bethany”، اسم قريتنا العيزرية في الإنجيل والإنجليزية، وتُسمي نساء كثر في العالم أنفسهن “أخوات مرثا”، يخدمن الكنيسة، ويعملن في التمريض والتعليم ومساعدة المسنين، وخدمات إنسانية أخرى.
عرفتُ سر حب جدتي المجنون لأشقائها؛ كانت مرثا شخصية رئيسة في معجزة المسيح! هي من دعته وقالت له إنّ شقيقها، “حبيبة” لعازر مات، وأنّه لو كان موجودا لشفاه، وأنه لو طلب من الله أن يعيده لما ردّه، واستجاب لها المسيح. ألستِ أنت الجدّة التي ترفض اليأس، وظلّت تعلمنا أن نحاول ونحاول؟
تقول صديقة لي، تدرس اللاهوت، سألتها عبر “فيسبوك” فأجابت: “ما أعرفه أنّه (لعازر) بعد أن أقامه المسيح ذهب إلى لارنكا (قبرص)، التي أخذت اسمها منه، ولهُ قبر (ثانٍ سوى الموجود في العيزرية) هناك، زرته بنفسي. ويقال إنه بعد قيامته لم يضحك سوى مرةٍ واحدة، عندما رأى لصاً يسرق آنية فخارية، فضحك وقال من التراب وللتراب تعود”.
أخبر جدتي أيضاً: تعرفين قصة “العزير”؟ لم تكن القصة في قريتنا، ولكن المسجد المسمى باسمه شيّد زمن صلاح الدين الأيوبي، قرب كنيسة لعازر. ألم يمت وحماره، ثم أحياهما الله، كما يُخبرنا القصص القُرآني؟ ألا تتشابه هذه القصص مع قِصّة الفينيق التي طالما رددها ياسر عرفات عن طائر أسطوري ينتفض من تحت الرماد؟
واصلت: أترين كم ننتفض من تحت الرماد ونستمر؟ ها أنت مثلا تملئين ساحات كيمبريدج، على بعد آلاف الأميال وعدد السنين، وأجد عنك شيئا في مكتبتها. تخيلتُ ضحكتها المعتادة وأنا أحدثها بأفكاري، ثم أشير لنساء يواجهن جنوداً في القدس هذا الأسبوع، وأسألها: كلكن مارثا وبنات الفينيق ولعازر والعزير، كيف ستُهزمن؟ فتنظر نظرة انزعاجها المعهودة، وتقول: سيهزمن إن لم تتحركوا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 44 / 2165905

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع احمد جميل عزم   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165905 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010