إنه يوم من أيام الثورة الجزائرية المجيدة.. يوم فاض كأس الثورة ولم تستطع أساليب الاستعمار الفرنسي وجرائمه كبت الثورة وإيقاف تأثيرها.. يوم نقلت فيه جبهة التحرير المعركة إلى أرض المستعمر، وكما قال جياب، قائد المقاومة الفيتنامية: “إن الجزائريين يلقنون العالم درسا في الثورة بنقلهم الكفاح إلى أرض العدو الاستعماري”.
في مثل هذا اليوم هبّ الجزائريون من كل النواحي في فرنسا ليكونوا جميعا صوت جبهة التحرير وفعلها المقاوم، يستهدفون القوة الغاشمة وأجهزة أمنها، يكيلون الصاع بمثله ويوقعون في وجدان الفرنسيين أن العدوان الفرنسي الواقع على الشعب الجزائري لا يمر دون ثمن، وأن هناك مسؤولية بشكل كبير على الناخب الفرنسي وعلى دافع الضريبة الفرنسي وفي الوقت نفسه تبلغ الثورة رسالتها كاملة أن لا استقرار ولا سلام في باريس إلا بسلام الجزائر واستقلالها.. وكانت الثورة وهي تفتح الجبهة الثانية إنما تسير في خط التحدي والمقاومة إلى أبعد نقاطه، الأمر الذي وصلت معانيه إلى القيادة الفرنسية التي بدأت تقدم التنازلات الواحد تلو الآخر.
هبّ الجزائريون من كل أنحاء فرنسا ليصدعوا المجتمع الفرنسي ويهزوا ضميره ويرفعوا صوتهم ليتجاوز الحدود.. ولم تقابل فرنسا الاستعمارية هذا الموقف الإنساني الباحث عن حقه في الحياة والاستقلال إلا بأبشع ما عرفه التاريخ البشري شراسة وعنفا.. قامت القوات الفرنسية من كل الأجهزة بمطاردة المغتربين الجزائريين وتجميعهم في الملاعب والسجون وإلقاء من استطاعت أن تلقيه في نهر السين وتطلق النار بكثافة على جموع المتظاهرين.
كانت إشارة العمل والتوسع في بناء هياكل جبهة التحرير وقوتها الضاربة في فرنسا إحدى تتويجات مؤتمر الصومام الذي أشرفت عليه قيادة الثورة في الداخل، بإشراف القائدين الكبيرين المرحومين محمد العربي بن مهيدي وعبان رمضان.. والثورة في هذا ترسم معالم العمل الثوري، إنه السير في المقاومة بتوزيع المكان وملء الزمان بفعل ثوري يضيّق الخناق على العدو ولا يترك له فسحة من راحة حينذاك يفكر العدو في الأفضل بالنسبة له إنه الرحيل.
الثورة الجزائرية لازالت مدرسة ثورية لكل حر وشريف في العالم ولعل هذا أهم درس من دروسها الاستراتيجية وهو نقل المعركة إلى أرض العدو، بعد أن يتغطرس العدو ويظن أن النار الملتهبة في الشعوب المظلومة ستبقى محصورة في المكان فيما هو ومجتمعه يكونا في مأمن من لهيبها.
حينذاك يقفز الوعي الثوري بمغامرة استراتيجية بأن لا بد لأمهاتهم أن يبكين مثلما بكت أمهاتنا ولا بد لأمنهم أن يتكسر بعد أهرقوا أمننا ولا بد لحياتهم الوادعة أن تضطرب بعد أن قضوا مضاجعنا وعاثوا فسادا بمدننا.
حينذاك بدأت الثورة تجني ثمارها بأن بدأ قادة فرنسا يعترفون شيئا فشيئا بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم واسترداد سيادتهم.. قانون عظيم من قوانين الثورة أن الاستعمار حيوان بليد لا يفهم إلا بالنار والحديد.. وانتصرت الجزائر رحم الله الشهداء وبارك الله في الجزائر.. وتولانا الله برحمته.