الجمعة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

أسطورة الملاذ الآمن على المحك

الجمعة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par رغيد الصلح

عندما طرح مشروع إعلان بلفور بصدد إعطاء إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على الحكومة البريطانية لمناقشته، عارضه اثنان من الوزراء: الأول كان لورد كيرزون، والثاني لورد مونتيغيو الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة . عارض كيرزون الإعلان لأنه سوف يؤدي إلى إثارة غضب العرب والمسلمين وتأليبهم ضد بريطانيا، وفي النهاية ضد اليهود . وعارض الثاني الإعلان لأنه سوف يؤدي إلى إيذاء المواطنين اليهود في البلاد التي يقطنونها وينتمون اليها، مقابل إرسال البعض منهم وإسكانهم في “غيتو دولي في فلسطين”، هل أثبتت الأيام صواب هذه التنبؤات، أم أثبتت خطأها وصواب التنبؤات الصهيونية التي كانت تعد اليهود بملاذ آمن، ينتقل اليهود إليه من سائر أنحاء العالم ويستقرون فيه ويتمتعون فيه بالحرية والمساواة وبثمار جدهم واجتهادهم؟
يحرص الزعماء “الإسرائيليون” على التأكيد أن “إسرائيل” هي حقاً الملاذ الآمن الموعود، وعلى قيام هذا الملاذ يؤكد صواب التوقعات “الإسرائيلية” وبطلان التنبؤات المتشائمة التي صدرت عن معارضي المشروع الصهيوني . ألا يضم هذا الملجأ قرابة السبعة ملايين من السكان؟ ألا يتمتع هؤلاء بمستوى معيشي مرموق خاصة إذا ما قورنوا بأوضاع سكان المنطقة - ألا ينعم “الإسرائيليون” بأوضاع أمنية مستقرة بالمقارنة مع دول المنطقة وخاصة مع “دول الطوق” المحيطة ب“إسرائيل”؟
في هذه التأكيدات بعض الصحة، ولكن هل تكفي لإضفاء مصداقية حاسمة على المشروع الصهيوني ولتقديم أجوبة مقنعة التساؤلات الكثيرة التي تتناول مصير هذا المشروع؟ إن الأوضاع في “إسرائيل” هي بالمعايير الأمنية والاقتصادية والاجتماعية أفضل من أوضاع دول المنطقة . ولكن هذه المقارنة لا تفضي، بالضرورة، إلى تأكيد صورة الملاذ الآمن، ولا تشجع على تلبية نداء الهجرة إلى “إسرائيل”، بل على العكس، تقدم أسباباً للتردد في الاستجابة إلى هذا النداء حتى ولو اصطبغ بلون الواجب الديني أو الوطني . فمن يضمن ألا ترشح الصراعات في المنطقة العربية إلى داخل الأراضي العربية المحتلة؟
قد تكون المقارنة مفيدة، من وجهة نظر صهيونية، لو أنه لا شأن ل“إسرائيل” باضطرابات المنطقة وصراعاتها، ولا دور لها فيها، أي كما كان وضع سويسرا في المدار الأوروبي خلال الحرب العالمية الثانية . ولكن الوضع “الإسرائيلي” مختلف عن ذلك تماما . فالصراعات التي اجتاحت المنطقتين العربية والشرق أوسطية لها صلة مباشرة بقضية الصراع العربي -“الإسرائيلي” . وسواء تصارع الزعماء العرب والزعماء الإقليميون مع بعضهم بعضاً بسبب الخلاف حول الطريق الأفضل لحماية المنطقة من التوسعية “الإسرائيلية”، كما يفسر هؤلاء الزعماء أسباب صراعاتهم، أو سواء استخدموا الصراع مع “إسرائيل” كحجة لتبرير تدخلهم في شؤون دول المنطقة الأخرى ومحاولاتهم بسط السيطرة عليها، كما يفسرها الزعماء “الإسرائيليون”، فإن قضية فلسطين تبقى في قلب الصراعات في المنطقة . استطراداً فإن “إسرائيل” لا تستطيع الادعاء بأنه لا شأن لها بأوضاع المنطقة، وأنها تقف حيالها كما وقفت سويسرا حيال الحرب العالمية الثانية . الزعماء “الإسرائيليون” يعرفون هذا الواقع ويعرفون أن الصراعات الدامية في الدول المحيطة ب“إسرائيل” لها صلة وثيقة بالقضية الفلسطينية، وأنها، بالتالي، يمكن أن تمتد بسهولة إلى “إسرائيل” .
في عصرنا “المغوغل” يستطيع أي مهاجر محتمل إلى “إسرائيل” أن يطلع على هذا الواقع و أن يتأكد عبر كم لا حصر له من المعلومات، من أن “إسرائيل” ليست بالملاذ الآمن الذي يروج له متعهدو المشروع الصهيوني . إن قرار الهجرة إلى “إسرائيل”، أو بالأحرى من أي بلد إلى بلد آخر من بلدان العالم ليس من القرارات التي يتخذها الناس بسهولة . ومهما كانت دوافع الهجرة الاقتصادية أو السياسية أو العقائدية، فإن المهاجر المحتمل بحاجة إلى أن يطلع على أوضاع بلد الهجرة و أن يتأكد من توفر مجالات العيش الآمن والمستقر فيه .
المهاجر المحتمل إلى “إسرائيل” قد لا يعلم أن زعماء “إسرائيل” بحثوا جديا، في اليوم الثاني من حرب أكتوبر احتمال سقوط الملاذ الآمن، أو احتمال “تدمير” الهيكل الثالث على يد القوات العربية، وأنهم بحثوا أيضاً الخيار النووي، أي التهيئة لاستخدام السلاح الذري ضد العرب فيما لو تمكنت القوات العربية من إلحاق هزيمة ساحقة بالقوات “الإسرائيلية” . وبديهي أن مثل هذا الخيار لو نفذ لكان خياراً شمشونياً أي ينشر الموت بين العرب و“الإسرائيليين” على حد سواء .
سوف يطلع المهاجر إلى الكيان العبري بهذه الحقائق وسوف يصعب عليه الاقتناع من بعدها بأن “إسرائيل” هي ملاذ آمن كما يروج المشروع الصهيوني . المهاجر المحتمل إلى “إسرائيل” سوف يدرك بسهولة أنه إذا ترك بلاده الأصلية وهاجر إلى الأراضي العربية سوف ينتقل إلى منطقة لا ترحب به، ولا تقبل بالمشروع ولا بالكيان الصهيونيين . وسوف يدرك في نهاية المطاف أن بين المنطقة والمشروع الصهيوني ما يشبه العلاقة الديالكتيكية . المنطقة العربية سوف تكون ملاذاً آمناً لمن يأتيها كلاجئ وكإنسان يطلب العيش بكرامة وحرية . ولكنه إذا ما جاءها ومعه مشروع سياسي استعماري استيطاني، وإذا ما جاءها ظاناً أن هذا المشروع سوف يوفر له الأمن والرخاء، فانه مشروعه سوف ينفي عن المنطقة صفة الفضاء الآمن والمستقر، ويحولها إلى ما هو نقيض ذلك تماماً أي إلى منطقة الصراعات الدموية .
إن الأحوال الراهنة في المنطقة تثبت أن معارضي المشروع الصهيوني، مثل مونتيغيو وكيرزون كانوا على حق عندما قالوا إنه سوف يجر اليهود إلى المآسي وإلى المزيد من الآلام والعذاب . كان هؤلاء أكثر حرصاً بما لا يقاس من مؤيدي المشروع الصهيوني الذين كانوا معادين للسامية وكانوا يرغبون في الخلاص من اليهود ومن مطالب المساواة بين الأوروبيين، فجاءت الصهيونية لكي تلبي هذه الرغبة عن طريق تجميع يهود العالم في غيتو دولي في فلسطين .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2180630

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2180630 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40