الثلاثاء 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

أزمة الجامعات المصرية بين الاحتواء والمواجهة

الثلاثاء 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par فهمي هويدي

إذا أدى الصدام الذي شهدته الجامعات المصرية هذا الأسبوع إلى تشديد الإجراءات الأمنية وتوسيع نطاق الاعتقالات بين الطلاب، فإن ذلك سيكون خطوة باتجاه إذكاء الحريق لا إطفائه.
(1)
الشرطة دفعت بأربع مدرعات وناقلتي جنود، وإذا توافر لها الغطاء الجوي المناسب فسوف يتم تحرير الجامعة بنجاح. هذا التعليق المسكون بالسخرية المرّة والمبالغة يختزل المشهد في جامعة القاهرة يوم الأحد الماضي (10/12)، وهو ليس لي، لكني وقعت عليه أثناء مطالعتي للتغريدات التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي يومذاك، والتي سجلت سيلا من التعليقات والملاحظات على اشتباكات أعداد من طلاب الجامعات مع عناصر الشركة الأمنية التي كُلفت بحراسة مداخلها. وهو ما أدى إلى تدمير اجهزتها وإشاعة الفوضى في نظام الدخول إلى الحرم الجامعي، وانتهى بتظاهر الطلاب ضد الإجراءات الأمنية والوضع القائم، كما أسفر عن إلقاء القبض على بعضهم.
ما جرى يثير العديد من الأسئلة حول احتمالات العام الجامعي الجديد وكيفية تجنب السيناريو الأسوأ خلاله، إلا أني وجدت صعوبة في الإجابة عن تلك الأسئلة قبل تحديد المشكلة والتعرف على عناصرها. ذلك أني لاحظت في التغطية الاعلامية أن أصابع الاتهام سارعت بالإشارة إلى «الإخوان» باعتبارهم وراء العنف الذي حدث في الجامعات، وهو التقليد الذي اصبح مستقراً في خطابنا الاعلامي والسياسي، والذي اعتبرهم مصدر كل شر يحدث في مصر (والعالم العربي أيضاً)، حتى في حالات العنف التي اعلنت جهات اخرى مسؤوليتها عنها. يشهد بذلك ما حدث في تفجير مديريتي أمن الدقهلية والقاهرة، حين أعلن مجلس الوزراء رسمياً عن اتهام «الاخوان» فيها، وقرر المجلس اعتبار الجماعة إرهابية في اعقاب الحادث الأول، ثم فوجئنا بأن جماعة «أنصار بيت المقدس» بثت شريطاً في وقت لاحق سجلت فيه قيامها بالتفجيرين.
برغم ان ذلك الخطاب وصم الجمـاعة ولطخ سجلها بالأوحال والدماء، إلا أنه وفر لها في الوقت ذاته دعاية لا بأس بها حين صورها باعتـبارها قوة عظمى لها أذرعها الطويلة المنتشرة في مخـتلف أنحاء مصر. كما انها من الصلابـة والمنعة بحيث ظلت قواعدها متماسكة وقادرة على إثارة القلق وإزعاج السلطة، برغم مضي 15 شهراً لم تتوقف خلالها جهود اقتلاعها واستئصالها من الواقع المصري.
هذه المبالغة في قوة «الإخوان» إذا كانت محل شك في مجمل الواقع المصري، إلا أنها تصبح خطأ فادحاً حين يتعلق الأمر بالجامعات، ذلك ان أي باحث على صلة بالملف يعرف ان نسبة «الاخوان» بين شباب الجامعات أقل منها بكثير خارجها. لذلك أكرر ان الادِّعاء بأن الإخوان وراء ما جرى ويجري في المحيط الجامعي هو بداية الخطأ في تشخيص المشكلة التي هي اصلا مع عموم الشباب في مصر، وغاية ما يمكن أن يقال ان «الاخوان» في الجامعات هم جزء من اولئك الشباب وليسوا الكل بأي حال.

(2)

حين دعا الرئيس عبدالفتاح السيسي جريدة «الأهرام» في شهر أيلول الماضي إلى تبني فكرة اجراء حوار مع الشباب حول رؤيتهم للمستقبل ودورهم في المشاركة السياسية، لم يكن ذلك من قبيل المصادفة، ولكن كان تعبيراً عن الشعور بالحاجة إلى التواصل مع الشباب ومد الجسور معهم. ولا يحتاج المرء لأن يبذل جهداً كي يرى في الدعوة إدراكاً لحقيقة الأزمة التي لاحت بوادرها أثناء حملة ترشح الفريق السيسي للرئاسة في شهر نيسان الماضي، التي التقى خلالها ممثلين لقطاعات عدة لم يكن الشباب من بينها، لحسابات أمنية في الأغلب. شواهد الأزمة تعددت بعد ذلك وبرزت في مناسبات عدة كان من بينها غياب الشباب عن الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية، وأصبحت أشد بروزاً بعد صدور قانون التظاهر، وفى مناسبة الذكرى الثالثة لثورة «25 يناير الماضي» وصلت الأزمة إلى الذروة. حينما تعالت أصوات التجريح الاعلامي لثورة 25 يناير واتُهم الشباب الذين حملوها بأنهم مرتزقة وإرهابيون وعملاء، كما وصفت الثورة ذاتها بأنها مؤامرة دُبرت لإسقاط الدولة المصرية.
لا يقف الأمر عند حد التراشق وتبادل التجريح والاتهامات، وإنما كان للشباب تضحياتهم التي قدموها خلال المواجهات التي حدثت في ظل الوضع الذي قام بعد الثالث من حزيران 2013، وطبقاً للبيانات التي وثقها مرصد «طلاب حرية»، فإن تضحيات شباب الجامعات خلال تلك الفترة كانت على النحو التالي:
معتقلون من بيوتهم وفى التظاهرات: 1812
الذين اعتقلوا في الحرم الجامعي ومحيطه 658
الطالبات المعتقلات 55
المفصولون من الجامعات 502
الذين قتلوا في التظاهرات 208
الذين قتلوا في الحرم الجامعي 19
الطالبات اللاتي قتلن أثناء التظاهرات 6
الذين أطلق سراحهم 625
الذين طعنوا في قرارات فصلهم وقرر القضاء إعادتهم إلى كلياتهم 42.

(3)

هذه الأجواء ألقت بظلالها على بدايات العام الجامعي الجديد، ذلك أن الإجراءات التي سبقت افتتاح العام الدراسي كان واضحاً فيها النَّفَس الأمني، كأنما كانت تجيب على السؤال التالي: كيف يمكن قمع وحصار الاحتجاجات الجامعية؟ تعددت إجابات السؤال، فقد اعلن عن تأجيل بدء الدراسة في الجامعات أكثر من مرة. الأمر الذي أدى إلى تأخير بدء العام الدراسي ثلاثة أسابيع، كما صدر قرار بإلغاء انتخاب القيادات الجامعية (المديرون والعمداء ورؤساء الأقسام) وهو الإنجاز الكبير الذي تحقق بعد «ثورة يناير». ثم جرى تعديل قانون تنظيم الجامعات، بحيث أُعطيَ رئيس الجامعة سلطة فصل الاساتذة من دون عرضهم على مجلس للتأديب، وذلك كله بالمخالفة للدستور والقانون.
شباب الطلاب كان المئات من زملائهم بين قتلى ومعتقلين ومفصولين على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، في حين أعلن نحو 150 منهم الإضراب عن الطعام احتجاجاً على مظلوميتهم، منهم اثنان أو ثلاثة مهددون بالموت. في الوقت ذاته، أعلن عن تجنيد مجموعات ممن سموا بالطلاب الوطنيين للتجسس على زملائهم «المشاغبين»، وهو ما تحدث عنه مسؤولون في وزارة التعليم العالي وصرح به مسؤول كبير في جامعة الأزهر في أحد البرامج التلفزيونية. وتقرر إلغاء أنشطة الأسر الطلابية بدعوى اشتغالها بالسياسة. ومنعت أعداد منهم من الالتحاق بالمدن الجامعية، وتحدثت وسائل الاعلام عن تفتيش غرف الطلاب في تلك المدن، في حين دعا البعض إلى إلغاء تلك المدن بدعوى أنها محاضن للطلاب، بل اقترح أحد المثقفين إغلاق جامعة الأزهر لمدة سنتين تجنباً لوجع الدماغ الذي يسببه طلابها. وحين بدأ العام الدراسي هذا الاسبوع، ألقت الاجهزة الأمنية القبض على العشرات من الطلاب الناشطين (أغلبهم من أعضاء الاتحادات الطلابية) ولم تعرف بعد الاتهامات التي وجهت إليهم. اما باقي الطلاب، فقد طُلب منهم التوقيع على إقرارات بعدم الاشتغال بالسياسة، ومُنحوا بطاقات هوية خاصة تسمح لهم بالدخول بعد التدقيق في تفتيشهم بطبيعة الحال.

(4)

لماذا لم يتم التفكير في الأمر بصورة أخرى تنطلق من السعي لاحتواء الشباب والتصالح معهم، وليس حصارهم وقمعهم؟ هذا سؤال افتراضي خطر لي وتصورته حلاً للإشكال، لأنه يستدعي «سيناريو» يختلف تماماً عما نراه على أرض الواقع حالياً. إذ بمقتضاه، مثلا، تسعى السلطة إلى إبطال مفعول اسباب التوتر وامتصاص الغضب الحاصل في الجامعات، كأن يعاد النظر في قانون التظاهر الذي اغضب كل دعاة الحرية في مصر، والشباب في المقدمة منهم، كما يحتكم إلى الدستور والقانون في مراجعة القرارات التي انتهكت استقلال الجامعة واستهدفت قمع الاساتذة وإخضاعهم لسلطات التقارير الأمنية. في الوقت ذاته، تشكل لجنة وطنية تبحث أوضاع الطلاب، تبدأ مهمتها بإطلاق سراح المعتلقين والعفو عن المسجونين وإعادة المفصولين. وحبذا لو وعدت بإجراء تحقيق محايد ونزيه في حوادث قتل الطلاب داخل الحرم الجامعي ومحاسبة المسؤولين عنها من رجال الشرطة، مع الوعد بإعادة النظر في الإجراءات التي اتخذت بحق طلاب المدن الجامعية الذين لا تسمح ظروفهم بالعيش في مساكن مستقلة خارجها. أما الذين ارتكبوا حوادث عنف في الجامعات فينبغي محاسبتهم وعقابهم بمنطق الآباء والمربين وليس بفظاظة وهراوة الجلادين. إذ إن هناك فرقاً بين عقابهم وتأديبهم بالإنذار أو الحرمان المؤقت أو حتى الفصل لعام دراسي، وبين سحقهم وتدمير حياتهم ومستقبلهم بالفصل النهائي وحرمانهم من الالتحاق بأي جامعة أخرى في مصر، إلى جانب سجنهم لسنوات تتراوح بين 10 و15 عاماً.
على صعيد آخر، فليس مبرراً ولا مفهوماً ذلك القلق من الأسر الجامعية، التي هي بالأساس تحت إشراف الاساتذة، ولماذا التعامل معها باعتبارها خلايا نائمة مناهضة للنظام، وليست مختبرات تعلم الطلاب ثقافة الانشغال بالشأن العام، واحترام الاختلاف وتوظيفه لمصلحة ترشيد الرؤى وإثرائها. ثم لماذا لا يفتح الباب لإجراء الانتخابات الطلابية بحرية ونزاهة لتشكيل اتحاداتهم باختلاف مستوياتها، لتصبح تلك الاتحادات صوت الطلاب الذي لا يلجئهم إلى العنف، إلى جانب كونها جسور التفاهم والتصالح بين التيارات المختلفة في الجامعة، أو بين تلك التيارات وبين الإدارة والسلطة.
هذه مجرد أمثلة لكيفية تطبيع العلاقات بين الشباب والسلطة، واحتواء الأولين لكي يأخذوا مكانهم الذي يستحقونه ضمن فصائل العمل الوطني. ولست أشك في أن هناك الكثير الذي يمكن ترشيحه في هذا المسار. إلا أني أزعم أن الأمر ليس سهلا، وإنما هو اعقد وأكبر بكثير مما نتصور، ذلك أن المشكلة ليست فيما ينبغي عمله في هذه الحالة، وإنما هي تكمن في المنطق والعقل اللذين يديران الملف. ذلك أن نهج الاحتواء يتطلب عقلاً سياسياً رشيداً، في حين ان الشواهد تدل على أن العقل الأمني هو الذي يمسك بالملف ويدبر أمره. لذلك، فإننا قبل أن نفكر في الخطوات التي يتعين اتخاذها للاحتواء يجب أن نحسم الاختيار، بحيث نحدد ما إذا كنا ننطلق من الرؤية الأمنية أم المعالجة السياسية، وتلك ليست مشكلة التعامل مع ملف الشباب وحده، ولكنها مشكلة مصر كلها في الوقت الراهن.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2165346

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165346 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010