الخميس 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2014

أيّ قيم ستحكمنا في المستقبل؟

الخميس 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 par محمد سليم قلالة

لعل التحول الأكبر والأخطر الذي تعرفه بلادنا اليوم هو ذلك الحاصل على مستوى القيم.. بسبب السياسات العامة المتبعة في مختلف القطاعات، وبسبب التبدل المستمر في قواعد ممارسة الوظيفة العامة والمسؤوليات بشكل عام، وبسبب التغير الذي حصل في قواعد الحصول على منصب الشغل، وعلى السكن، والسرير في المستشفى، بل وحتى المقعد البيداغوجي من أجل التعليم وغيرها من الحقوق، حدث انقلاب كبير في مستوى القيم في بلادنا، من شأنه أن يؤدي إلى تفكك في البنية الاجتماعية والسياسية في البلاد إذا لم يتم اعتماد سياسة وطنية شاملة لإعادة ترتيب سلم القيم لدينا الترتيب الصحيح الذي يحميها من أي انزلاق في العقود القادمة.

لقد بدا لي أن هناك مشكلة كبيرة بدأت إشاراتها واضحة منذ نحو عقدين من الزمن، تتمثل في تبدل عميق في مستوى القيم في مجتمعنا، نحو نوع من الفوضى والانكسار واللامنطق؛ أي بدل أن يحدث تطور طبيعي في القيم التي تحكم المجتمع حدثت انكسارات عديدة، عشوائية في كثير من الأحيان، أصبحت تهدد مستقبل التماسك الاجتماعي في بلادنا من خلال إشارات مُقلقة أصبحت تبرز هنا وهناك.

كُلنا نعيش بنوع من الحسرة والألم ذلك التهاوي السريع لقيم كانت جامعة في يوم ما للجزائريين، كالـتآخي، ونبذ الفردانية وتحبيذ الجماعة على الفرد، والتمييز السهل بين الحلال والحرام، والصدع بكلمة الحق، وتقديس العلم، وتقديم الكفاءة، وتوقير المرأة، وعدم طغيان المصالح المادية الضيقة، والنضال انطلاقا من قناعات فكرية محددة إن كانت يسارية أو يمينية أو إسلامية، والنظر إلى الفقر والغنى بمقاييس موضوعية، والاتفاق على حدود دنيا للتوافق الاجتماعي تمنع استخدام العنف أو تمجيده... وغيرها من القيم التي كانت في حدود معينة مشكِّلة للتوازن الطبيعي والاستقرار الذي يعرفه المجتمع.

صحيح لم يكن ذلك مطلقا، كما في كل المجتمعات والحقب التاريخية، ولم نكن نعرف مجتمعا مثاليا، كما هي حالة جميع المجتمعات البشرية، ولكننا كنا نعرف نوعا من التوازن الطبيعي في القيم اتفق بشأنه الناس عبر قرون من الزمن وتوارثوه بطريقة أو بأخرى، وكان ذلك التوازن هو السبب الرئيس في أننا لم نتفكك رغم تلك الضربات العديدة التي تلقاها مجتمعُنا خلال الحقبة الاستعمارية. ذلك الاتفاق الجمعي حول قاعدة القيم المشتركة هو الذي مكَّننا من أن نكون أمة تستطيع أن تفجر ثورة وتتماسك خلالها إلى أن تحقق النصر وتضع نفسها في طريق العودة إلى الذات وإعادة بناء الدولة التي كانت لها جذورٌ عميقة في التاريخ.

كان ذلك منذ أكثر من 50 سنة، ويُفترض أن منظومة القيم في مجتمعنا ستتعزز وتتطور بشكل يسمح لها بمواجهة التحديدات والتهديدات الجديدة التي تنتج عن التحولات الكبيرة التي تحصل في العالم، وبخاصة ضغط العولمة ووسائل الاتصال الحديثة، ويُفترض أن المنظومة السياسية ترعى في المقام الأول هذا التحول حتى لا يؤدي إلى انكسارات جزئية من شأنها أن تهدد كل الكيان الاجتماعي بالانهيار، ويُفترض أن تَدفع هذه المنظومة السياسية المعبَّر عنها في شكل سلطة قائمة وأحزاب وجمعيات مختلفة وحتى شخصيات وطنية لها اتصال بالرأي العام، أن تَدفع باتجاه إعادة صياغة المنظومة التربوية والإعلامية والثقافية، ومنظومة القوانين الضابطة للحياة الاقتصادية وآليات الفرز لانتقاء الكفاءات القيادية لأجل المناصب العليا، بما يُعزز تماسك المجتمع ووحدته وقدرته على مواجهة تلك التهديدات والتحدّيات الجديدة الناتجة عن العولمة.

ما الذي حدث؟

يبدو أننا لم ندرك أن المنظومة السياسة في بلادنا، والمتمثلة بالأساس، في السلطة السياسية، افتقدت هذا البُعد في التطور وتحركت من منطق تسيير الأشياء لا الأفكار، أي معاملة كل أطراف المجتمع بالمنطق الشيئي الذي يخضع للقوانين التي تحكم الأشياء وكأنها من دون قيم تحكمها ولا أفكار يمكن أن توجهها.

ونتجت عن ذلك قواعد جديدة لتعامل المنظومة السياسية مع الناس كأشياء: أنه لا يوجد من بين أفراد المجتمع من يستطيع مقاومة إغراء المال؛ كل شيء يمكن أن يُباع ويُشتَرى بالمال: الذمم، الولاءات، العدالة، الشرف... بل إن المال يستطيع أن يحلل ويحرّم، وهو يتفوق على العلم والكفاءة وعلى كل فكرة يمكن أن يدعي فرد أنه مقتنع بها أو يدافع عنها. بل ويبرر العنف أحيانا ليستمر مسيطراً.

وتجلى ذلك في شكل منظومة سياسية تكاد تقوم برمتها على هذا الأساس مستغلة الريع البترولي ووفرة مالية لم تعرفها البلاد منذ الاستقلال أنتجت من يعتبر نهب المال العام ليس عيبا، وتقاضي أجور بلا عمل أمرا مقبولا، وعدم الالتزام بالقانون مبرّرا، والنجاح في الدراسة من غير تعلم ممكنا... وهكذا على أكثر من صعيد، إلى درجة أن أصبح مقياس النجاح حتى لدى أبسط العمال: عندما لا يشتغل ويتقاضى أجرا عاليا..

هذا الواقع الجديد، ينبغي أن يتم التحكم فيه قبل فوات الأوان، وينبغي إعادة الأمور إلى نصابها بالتدريج قبل أن يصبح المجتمع مستعدا لقبول كل السيناريوهات التي تخدم بعض أفراده وإن كان فيها تحطيم له، كما يحدث الآن في أكثر من بلد عربي: “انتصارات” شبه يومية لقوى أصبحت ترمز للانتقام من المنظومة السياسية القائمة وتستخدم أشكالا من العنف والإرهاب لم يسبق للمجتمعات العربية أن عرفتها.

نحن لسنا بمنأى عن هذا في ظل التحولات القيمية المضطربة التي تعرفها بلادنا، ومن ثم فإن تصحيح هذا الاضطراب ينبغي أن يتم ضمن رؤية مستقبلية واضحة ومحددة لإعادة تصحيح القيم بما يمكنها من مواكبة التطورات الحاصلة في المجتمع وفي العالم.

والبداية تكون من تفعيل ما بقي من عناصر حية لهذه القيم في مجتمعنا، إذ أننا لم نبلغ بعد درجة الانهيار التام، وإن بدا ذلك على مستوى القمة.

على مستوى القاعدة ولدى كثير من الشرائح الاجتماعية مازالت هناك مقاومة نشطة للتصدي الحاصل على صعيد انهيار القيم. هناك عائلات مازالت تدافع على رصيدها، وهناك أفراد مازالوا متمسكين بقناعاتهم الراسخة في سيادة قيم العمل والوفاء والإخلاص للوطن ونبذ الرضوخ لسلطان المال أو المنصب، وتأكيدهم باستمرار على سلوك التضامن والتآخي واعتبار المادة وسيلة لا غاية في الحياة، بل هناك منظومات عائلية معزولة أحيانا ما زالت تحافظ على ذلك.

هذا الرصيد المتبقي، مهما كان ضئيلا، هو الذي ينبغي الانطلاق منه لإعادة تصحيح القيم ومنع المجتمع في السير نحو محطة الانكسار.

لقد عرفت بلادنا الكثير من محطات المد والجزر في هذا المجال، ونحن نعيش اليوم حالة من الانهيار الواضح في القيم على أكثر من صعيد، إلا أن ذلك لا يعني انعدام القدرة على إعادة الانطلاق من جديد لمواصلة إعادة بناء الدولة الوطنية التي حررها الآباء والأجداد وفق منظومة قيم متماسكة ومعبرة عن حقيقة الجزائري العميقة، لا عن حقيقة أفراد لم نعد نشعر أنهم ينتمون إلى قيم هذا الشعب الراسخة، بل تنتابنا شكوك أنهم في مهمة لتحطيم هذه القيم.

هوامش:

* كل شيء يمكن أن يُباع ويُشتَرى بالمال: الذمم، الولاءات، العدالة، الشرف... بل إن المال يستطيع أن يحلل ويحرّم، وهو يتفوق على العلم والكفاءة وعلى كل فكرة يمكن أن يدعي فرد أنه مقتنع بها أو يدافع عنها. بل ويبرر العنف أحيانا ليستمر مسيطراً.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 26 / 2177506

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع سليم قلالة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2177506 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40