الثلاثاء 30 أيلول (سبتمبر) 2014

جورج حبش السؤال الصعب في الايام الصعبة

الثلاثاء 30 أيلول (سبتمبر) 2014 par معن بشور

في حياة الشعوب والامم نوعان من الشهداء، نوع يقدم حياته في لحظة مواجهة مع العدو، او في عملية فدائية ضد محتل، او برصاصة غادرة من عميل، ونوع آخر يهب عمره كله من اجل مبادئ يؤمن بها، وقضية يعيش من أجلها، ومن أجدر من جورج حبش بلقب شهيد فلسطين والعروبة في آن بعد ان نذر حياته كلها من اجل فلسطين التي اعتبر ان الطريق اليها يمر بالوحدة العربية، ومن اجل الوحدة العربية التي آمن انها تبنى في مسيرة النضال من اجل تحرير فلسطين.
ما زالت المعادلة صالحة، رغم كل ما يحاط بنا من خيبات وعثرات ونكسات، فالوحدة طريق فلسطين، تماماً كما فلسطين طريق الوحدة، وهي لم تعد مجرد معادلة فكرية او نظرية، كما اطلقها رواد الفكر القومي العربي المعاصر، بل تأتي كل التطورات اليوم لتثبت ان كل ما تشهده امتنا من فتن وفوضى وتوحش واحتراب وانقسام وتقسيم مرتبط بوضوح بالتآمر لابعادنا عن العروبة كهوية تجمعنا، وعن فلسطين كقضية توحدنا، وذلك عبر فلسطين ولتبرير قيام الكيان العنصري الاستيطاني الاحتلالي الارهابي على ارشها، تماماً كما تشي كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر العدوان تلو العدوان، وعبر الانقسام تلو الانقسام وعبر تغليب المصالح الفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية والقومية العليا…
* * *
لا أعتقد أن إبن اللد، طالب الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت خلال أربعينيات القرن العشرين، كان يدرك أن نكبة بلاده عام 1948 ستدفعه ليؤسس مع رفاق له كوديع حداد وهاني الهندي، واحمد الخطيب، وباسل الكبيسي، ومحسن ابراهيم، ومصطفى بيضون ، واحدة من أهم الحركات القومية العربية المعاصرة التي انتسب اليه مناضلون ومثقفون وناشطون من موريتانيا على كتف المحيط حتى ظفار والبحرين والكويت على سواحل الخليج. وصولا الى اليمن حيث باب المندب بكل دلالاته الاستراتيجية.
كما لا أظن أيضاً ان هذا القائد والرمز القومي الكبير كان يدرك تماماً ان منظمة (أبطال العودة) التي أطلقها في أواسط الستينات مع رفاق له كالشهيد أبو علي مصطفى ، والراحلين أحمد اليماني (أبو ماهر) وعبد الكريم قيس (أبو عدنان)، والشهيدين غيفارا غزة وغسان كنفاني، كواحدة من اوائل المنظمات الفدائية قبيل حرب حزيران 1967، ستتحول بعد فترة وجيزة الى واحدة من أهم المنظمات الفلسطينية (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) التي ملأ صيتها العالم، وانشغل بها القاصي والداني، وباتت حليفة كل ثوار الارض، فيما بقيت هي أمينة على أرض فلسطين، كل الارض، فلم تدخل يوماً في مساومة أو مناقصة أو حتى مزايدة في صراع بات هو الاطول والاخطر والاكثر تعقيداً في عصرنا الحديث.
لكن جورج حبش، بايمان يضاهي ايمان الاولياء، وبثبات قل نظيره، وببساطة نادرة، كان يتقدم من موقع الى موقع، لا يضيره الانتقال من بلد عربي الى آخر، فبلاد العرب كلها وطنه، ولا من سجن الى آخر فالوطن العربي بات سجناً كبيراً يتناوب على حراسته احتلال واستبداد ويتعاونان، ولا ان يمضي ردحاً طويلاً من حياته يعمل “تحت الارض” من اجل تحرير الارض التي نذر العمر من اجلها.
فلهذا الرجل الكبير بالطبع مزايا وطنية وسياسية واخلاقية وشخصية نادرة، جعلت من لحظة الاعلان عن رحيله لحظة صمت والم وحزن لفت عشرات الملايين من ابناء شعبه وامته واحرار العالم، غير ان ميزته الاكبر انه في زمن المتغيرات الكثيرة، بل زمن المتغيرين الاكثر (والقول للاستاذ منح الصلح) بقي جورج حبش حارس الثوابت، حريصاً على المبادىء لا يفرط في حق، ولا يساوم في مبدأ.
على ان ميزته الكبيرة هذه اقترنت بميزة أخرى لا تقل عنها اهمية، بل وترتبط بها، وهي أنه كان معارضاً داخل الساحة الفلسطينية دون انقسام، معترضاً دون انشقاق، لأنه كان يدرك ببساطة ان اقصر الطرق للتفريط بالثوابت هو ان تدفع بشعبك الى مهاوي الانقسام والانشقاق والاحتراب.
هذه المزايا مجتمعة جعلت لجورج حبش مكانة مميزة لدى مؤيديه كما لدى من كانوا يختلفون معه، بل كان كثيرون داخل الساحة الفلسطينية والعربية، وفي مقدمهم الرئيس الراحل ياسر عرفات، ينتظرون كلمة “الحكيم” التي غالباً ما تكون “تشريحاً” دقيقاً للمرض، ومعالجة صريحة لاسباب العلّة.
ويكفي جورج حبش فخراً، انه كان من القادة النادرين في تاريخنا السياسي والحزبي، الرسمي والشعبي، الذي تنازل طوعاً عن موقعه ايماناً منه بالتداول، بل يكفيه فخراً كذلك ان احد خليفتيه في الامانة العامة للجبهة الشعبية (أبو علي مصطفى) قد استشهد على يد الاحتلال الصهيوني، وان خليفته الآخر (احمد سعدات)، ما زال معتقلاً منذ سنوات في سجون المحتلين.
قد يغيب وجه جورج حبش عن أبناء فلسطين والامة، عن أحرار العالم المنتشرين من اليابان حتى امريكا اللاتينية، لكن احداً لن يستطيع ان يغيّب صورة حبش المناضل والمعلّم والقائد عن ذاكرة فلسطين والامة.
ان نظرة سريعة الى مآل كل المشاريع التي قدمت نفسها بديلاً عن المشروع القومي العربي يؤكد الحاجة الموضوعية لهذا المشروع النهضوي وان كانت الحاجة الموضوعية وحدها لا تكفي اذا لم تقترن بشروط ذاتية وآليات عمل ونضال تحمل هذا المشروع.
فمشروع الكيان القطري يتهاوى اليوم أمام عجز الدولة القطرية عن توفير الامن الوطني والقومي، وصون الاستقلال والسيادة ، وتلبية احتياجات التنمية والعدالة الاجتماعية، وبناء المؤسسات الديمقراطية الحقيقية، بل يبرز بشكل خاص عجز الدولة القطرية عن حماية الوحدة الوطنية بين مكونات مجتمعها.
والمشروع الديني السياسي المجرد من بعده القومي والتقدمي والعصري، ورغم مكانة الدين والايمان في وجدان الافراد وحياة الشعوب، يتهاوى كذلك امام استفحال الموجات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تتحول الى قنابل موقوتة لا تثير حرباً بين الطوائف والاديان والاعراق فحسب، بل داخل كل مكون من هذه المكونات نفسها.
اما نظرية “الاشتراكية في قطر واحد”، او الثورة في “بلد واحد” والتي وقع في أسرها كثيرون من مفكرين ومناضلين وحكام، فقد تهاوت بشكل خاص امام استحالة قيام هذه الاشتراكية القطرية دون قاعدة انتاجية كبرى مستندة الى سوق عربية مشتركة هي أساس اي تكامل اقتصادي عربي يحاكي التكتلات العالمية الكبرى والمنظومات الاقليمية التي تتوالد من حولنا في كل قارات العالم لتعلن استحالة عيش الكيانات الصغيرة بمفردها.
“والليبرالية اللاوطنية الجديدة”، التي يجري تسويقها اليوم باسم “الحرية والديمقراطية، وحقوق الانسان” وكلها مطالب عزيزة في مواجهة الاستبداد والفساد والتبعية، هي الوجه السياسي للرأسمالية المتوحشة التي تكشف الايام عجزها البنيوي وتغوّلها على حقوق الانسان والشعوب، بل يتحول دعاة هذه “الليبرالية المزيفة” الفاقدة لأي انتماء وطني وقومي الى رؤوس جسور ثقافية وسياسية واقتصادية واعلامية للهيمنة الاستعمارية الجديدة.
أما مشروع التسوية السياسية للصراع العربي – الصهيوني، وهي تسوية طالما عارضها جورج حبش ورفاقه ابناء المدرسة القومية، وحذر من تداعياتها الخطيرة ، فاصحابه باتوا اليوم امام حائط مسدود، وافق مسدود، بعد عقود من الرهان عليها، لتعود المقاومة، التي هي في الاساس خيار قومي اصيل، رداً رئيسياً على الاغتصاب والاحتلال والهيمنة، بل لتبرز كواحدة من آليات توحيد الامة في مواجهة كل التحديات.
واذا كانت كل هذه المشاريع قد ازدهرت في العقود الماضية على قاعدة تراجع المشروع القومي العربي، وسقوط معظم حامليه من انظمة ومنظمات في الممارسة العملية ، فان الباب بات مفتوحاً من جديد امام احياء المشروع العروبي الوحدوي الديمقراطي القائم على المواطنة الكاملة التي لا تميّز بين الناس على اساس الدين او العرق او اللون او الجنس، بل القائم على احترام خصوصية الاقطار والجماعات الاثنية، كما على احترام تلك العلاقة المميزة بين العروبة والاسلام، التي يحصّن فيها الاسلام العروبة من الشوفينية والعنصرية، وتحصن فيها العروبة الحركات الاسلامية من مزالق الطائفية والمذهبية، بل تلك العلاقة المميزة بين العروبة والنهضة التي كان للمسيحيين العرب الدور البارز في زرع بذورها وتأسيس اركانها. أليست العروبة هي هوية تنطوي على مشروع نهوض.
لجورج حبش في ذكراه عهد الوفاء والالتزام بالثوابت التي كان حكيم الثورة احد ابرز حرّاسها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 39 / 2165410

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165410 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010