الحرب على الإرهاب تؤشر لنظام عالمي مغاير

اندلعت الحرب على الإرهاب في مرحلتها الأولى مع هجوم الولايات المتحدة على أفغانستان انتقاماً لقيام “القاعدة” بتدمير برج التجارة العالمي في نيويورك صباح 11-9-2001 . كرّس مؤتمرا جدة وباريس المنعقدان خلال شهر سبتمبر/أيلول من العام الجاري، المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب المقدّر لها أن تستمر، بحسب تصريحات الرئيس باراك أوباما، أكثر من ثلاث سنوات .
الحرب على الإرهاب حرب عالمية، تخطط دوائر القرار الأمريكية لتضمّ نحو أربعين دولة من شتى أنحاء العالم، وتتركّز، بالدرجة الأولى، على تنظيم “داعش” في العراق، إلاّ أنها قد تستهدف أيضاً مواقعه في سوريا، كما يُستفاد من أقوال وزير الدفاع ورئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ .
تتزامن الحرب على الإرهاب مع الانهيار المتدرج للنظام العالمي الذي كشفته الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة صيف العام ،2007 وبالتالي في أوروبا وسائر أقاليم العالم وما زالت . هنري كيسنجر يعترف في كتابه الجديد “النظام العالمي” (World Order) بهذا الانهيار، ويقول إن نظاماً جديداً ينمو ويتبلور وسط تحديات متنوعة ومتشابكة، وإن أبرز هذه التحديات وأكثرها تعقيداً هي تلك التي تدور في الشرق الأوسط . ويحذر كيسنجر من أنه لن تقوم قائمة لنظام دولي من غير أن يجمع “القوة إلى المشروعية” .
انهيار النظام العربي سبق انهيار النظام العالمي بنحو أربعين عاماً . فقد أدت هزيمة العرب في حرب 1967 إلى اختلال كبير في موازين القوى الإقليمية لمصلحة “إسرائيل”، كما أدى إلى نشوء ظاهرتين متلازمتين: تراجع مطّرد للتيار القومي وبالتالي للدولة الوطنية في الإقليم، وصعود متدرج للتيار الإسلامي بمختلف تلاوينه ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين .
ثابرت الولايات المتحدة على احتضان ورثة التيار القومي الناصري بشخص أنور السادات في مصر وشجعته على الانفتاح على “إسرائيل” ومصالحتها من جهة، كما على الانفتاح على “الإخوان المسلمين” وإشراكهم في الحياة السياسية من جهة أخرى .
في هذه الأثناء قامت الثورة الإسلامية في إيران وانفتحت على قوى المقاومة في التيار الإسلامي المشرقي ولا سيما في فلسطين ولبنان . غير أن نمو قوى المقاومة العربية حجماً وفعالية أثار مخاوف “إسرائيل”، وبالتالي الولايات المتحدة التي تصدّت للمقاومة الصاعدة، وبمضاعفة دعمها السياسي والعسكري ل“إسرائيل” . كما لم تتوانَ عن احتلال العراق العام 2003 في سياق مخطط صهيوني يرمي إلى تفكيك دول الجوار إلى جمهوريات موز هزيلة .
لم تستطع أنظمة حاكمة في أقطار عربية عدّة مواجهة تداعيات انهيار النظام العربي رغم الدعم الأمريكي، فكان أن تصدّعت ثم انهارت نُظُم الحكم في تونس ومصر واليمن، واضطربت سوريا سياسياً وأمنياً، قبل أن تنتهز تنظيمات إسلاموية إرهابية الفرصة المتاحة فتحاول إسقاط نظام الحكم والاستيلاء على السلطة فيها بدعم من الخارج .
ناصرت الولايات المتحدة الإخوان المسلمين وحلفاءهم في تونس وليبيا ومصر، وكان لها دور فاعل في تمكينهم من الاستيلاء على السلطة لمدة عام كامل، قبل أن تتحرك القوات المسلحة، مترسلمةً على السخط الشعبي الجارف المناهض وبدعم بعض دول الخليج، لإزاحتهم وكسر شوكتهم .
في موازاة صعود التيار الإخواني في مصر وتونس وليبيا، كان التيار الإسلامي المقاوم ينهض ويصعد في لبنان وفلسطين . ففي لبنان تمكّنت قوى المقاومة الإسلامية من صدّ عدوان “إسرائيل” الواسع العام 2006 ودحرها لأول مرة منذ قيامها العام 1948 . كما تمكّنت “حماس” و“الجهاد الإسلامي” من دحر العدوان “الإسرائيلي” على غزة العام 2012 والعام 2013 والعام 2014 . وفي الحرب الأخيرة سجلت المقاومة الإسلامية انتصارات استراتيجية لافتة ليس أقلها نجاحها في قصف مواقع العدو على مستوى فلسطين المحتلة كلها من الجنوب إلى الشمال .
إذ يبزغ ببطء نظام عالمي مغاير على أنقاض النظام العربي المنهار، يثور سؤال: ما ملامح هذا النظام الذي يؤكد كيسنجر أن أبرز تحدياته هي تلك التي تواجهه في الشرق الأوسط، أي في عالم الإسلام الممتد من المغرب العربي إلى أصقاع أفغانستان وباكستان، مروراً بوادي النيل وبلاد الشام وبلاد الرافدين وجزيرة العرب وإيران؟
لعل أبرز الملامح المرصودة في هذا المجال مسار الإضعاف المطّرد لبنى الدولة وتفكيكها وإقامة كيانات داخلها، لها بعض صفات الدولة ومقوّماتها، ونجاحها تالياً في الحلول محل الدولة في بعض مناطق إقليمها والنهوض ببعض مهامها . فالانتفاضات الشعبية الفلسطينية المتتالية أدت إلى نشوء منظمة التحرير الفلسطينية . وقد أدى كفاحها إضافة إلى المفاعيل السياسية الناتجة عن اتفاقات أوسلو للعام ،1993 إلى جعلها كياناً سياسياً يحاكي في بعض وجوهه منظومة الدولة المعاصرة . الظاهرة نفسها تكررت في قطاع غزة، حيث أدت سيطرة حركة “حماس” وتنظيمات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها إلى نشوء كيان فلسطيني توأم لكيان رام الله يحاكي في مواصفاته ومؤسساته وممارسته منظومة الدولة المعاصرة .
ظاهرة “الكيانية” تتبدى بشكل واضح في لبنان . فقد أدى انهيار الدولة نتيجَةَ حرب “إسرائيل” عليها العام 1982 وعدم نهوضها بعد جلاء القوات “الإسرائيلية” عن معظم أراضيها إلى نشوء كيان في جنوبي لبنان ناب عن الدولة في مقاومة الاحتلال “الإسرائيلي” لغاية إكراهه على الجلاء العام 2000 . كما تمكّن خلال حرب “إسرائيل” الثانية على لبنان العام 2006 من نقل الحرب إلى أرض العدو، ما أدى إلى دحر العدوان . وإذ أصبح له قوة عسكرية ذات تأثير إقليمي، شارك لاحقاً في الحرب الدائرة في سوريا .
إلى ذلك، لحركة “طالبان” كيان سياسي وعسكري يتحكم في مناطق عدة في أفغانستان، ويقاتل بلا هوادة قوات دولة كبرى . كذلك الأمر في الصومال، حيث لتنظيم “حركة الشباب” كيان عسكري وسياسي يقاتل “الدولة” القائمة والمدعومة من دول كبرى ومتوسطة أمريكية وأوروبية وإسلامية .
هذه الكيانات التي تحاكي في بعض مواصفاتها ومؤسساتها الدولة المعاصرة باتت تشكّل ظاهرة راسخة في حاضر العلاقات الدولية وتترك آثارها في قواعد القانون الدولي وأحكامه . فدول العالم، كما المنظمات والمؤسسات الدولية، السياسية والعسكرية والإنسانية، تجد نفسها مضطرة إلى التعامل مع هذه الكيانات وتقيم معها علاقات وتعقد اتفاقات . إن اتفاق التهدئة الأخير بين حركة “حماس” وحليفاتها و“إسرائيل”، مثال ساطع على اضطرار مجتمع الدول إلى تسويغ عقد اتفاقات مع بعض هذه الكيانات في ظروف استثنائية . ظاهرة الكيانات المتنامية في العالم المعاصر، وفي غمرة الحرب العالمية على الإرهاب، ستترك آثارها في القانون الدولي العام وستؤدي إلى تطوير بعض قواعده وأحكامه . من يدري، فقد يتسع مسار التطوير والتعديل لدرجة قد يتفرّع عن مجتمع الدول والكيانات في النظام العالمي المغاير مصطلح القانون الكياني العام ...