الجمعة 19 أيلول (سبتمبر) 2014

تشطير الدول العربية بين الداخل والخارج

الجمعة 19 أيلول (سبتمبر) 2014 par رغيد الصلح

مع صعود “داعش” واستفحال أمره، تحول إلى كرة نار يتقاذفها فريقان من العاملين في الحقل العام: واحد يركز على العوامل المحلية وراء قيامها . فالحكومات الأوتوقراطية في المنطقة، أوجدت المناخ الملائم لمثل هذه الظاهرة: تركت الأمراض الاجتماعية والسياسية والثقافية تتفاقم، وأغلقت الأبواب أمام التغيير السلمي، ودفعت البائسين إلى حضن الداعشيين . وإلى جانب هذه الحكومات لعب التعصب الديني والمذهبي، دوراً مهماً في تعبيد الطريق أمام “داعش” . التنظيم لم يخترع التعصب، بل دفعه إلى حده الأقصى، وبذلك تحول إلى رمز ووعاء لشتى أنواعه . وكما لعبت العوامل الدينية والإثنية دورها في صعود “داعش”، فقد أسهمت الانقسامات والصراعات الطبقية في هذا الصعود . الفريق الثاني، يقر بأهمية الأسباب الاقتصادية وراء ظاهرة “داعش”، لكنه يرجح المصالح الاقتصادية الأجنبية والغربية بصورة خاصة على المصالح المحلية . كذلك يقّر هذا الفريق بأثر التعصب الإثني والقومي والديني في قيام “داعش” وانتشاره واستفحال أمره، لكنه هنا أيضاً يرجح التعصب في عواصم ودوائر القرار . وهذه العواصم والدوائر ليست موجودة في المنطقة العربية بل خارجها، وفي واشنطن بصورة خاصة .
الحقيقة قد تكون موزعة بين الفريقين، أي أن الأسباب قد تكون داخلية وخارجية، لكن الملاحظ أن عديدين من الفريقين، خاصة من الفريق الأول، يميلون إلى حصر أسباب نشوء الظواهر السلبية في المجتمعات العربية ببيئة واحدة فقط، فإما أن تكون من صنع الخارج وحده، أو من صنع الداخل . فعندما يسعى البعض إلى تسليط الأضواء على علاقة القوى الخارجية بما يجري في المنطقة العربية وبالتراجعات والانهيارات التي تتعرض إليها، يميل دعاة التركيز على تحديد العوامل الداخلية إلى التقليل من الدور الخارجي واتهام الفريق الثاني بأنه من متبني “نظرية المؤامرة” ومن المفروض ألا تكون هذه من التهم . فنظرية المؤامرة هي من الوسائل التي يمكن استخدامها لاكتشاف بواعث السياسات التي يسلكها الكثير من الفاعلين في الداخل والخارج . إلا أنه عندما يوصف أحد التحليلات بأنه مبني على “نظرية المؤامرة”، فمعنى ذلك أنه يفتقر إلى مقومات العلم والواقعية . ولقد بات هذا النهج، أي استخدام “نظرية المؤامرة” بقصد التقليل من محاولات اكتشاف إثر السياسات الخارجية في الواقع العربي، أمراً شائعاً خاصة مع تصاعد الأعراض السلبية في هذا الواقع .
فمن الواضح أن التدخل الخارجي خاصة أيام جورج بوش، أدى إلى احتدام الصراعات الطائفية والإثنية في المنطقة العربية . وقد كشف المسؤولون الأمريكيون أحياناً الأسباب المباشرة لهذه الظاهرة . فعندما حاول بول بريمر، مسؤول سلطة الاحتلال الأمريكي، تفسير سبب حل الجيش العراقي من دون مراعاة الأصول المعمول بها في هذا المجال وبأسلوب أدى إلى فواجع اجتماعية لدى نحو 8% من الشعب العراقي، قال إن القرار اتخذ لأن الاحتلال جاء لكي ينقل القاعدة المجتمعية للنظام ولمؤسساته من فئة من العراقيين إلى فئة أخرى . ما لم يفسره بريمر هو لماذا ينفذ القرار بطريقة أخرى تخفف من آثاره السلبية وتسمح باستيعاب نتائجه من دون شحذ الصراعات الفئوية بين العراقيين .؟
لعل ما غمض في كلام بريمر هو أن إدارة بوش، خاصة من كان فيها من المحافظين الجدد مثل دوغلاس فيث الذي لعب دوراً أساسياً في إصدار قرار حل الجيش العراقي، لم تكن في وارد الحد من مضاعفات القرارات التي أصدرتها على الوحدة الوطنية العراقية . هذا ما نجده مؤخراً في حوار أجرته مجلة بروسبيكت الصادرة في لندن (أغسطس/آب 2014) مع ريتشارد بيرل، أبرز منظري واستراتيجيي المحافظين الجدد، وتضمن نقداً قوياً لإدارة أوباما، بل ولحكومات الغرب بصورة عامة، وذلك في معرض مناقشة مسؤولية صعود “داعش” والظواهر المشابهة له .
يبرز بيرل في هذا الحوار كداعية صريح إلى تشطير الدول العربية وإلى تشجيع الحركات والاتجاهات الانفصالية فيها . فهو يجد أن الغرب يرتكب خطأ رئيسياً بسبب المبالغة في تعليق الأهمية على الوحدة الترابية للدول العربية . ويزيد في خطأ هذا الموقف الغربي، حسب رأيه، أن الغرب يتمسك بهذا النهج، بينما تجتاح المنطقة والعالم عموماً الحركات الانفصالية، كما تجتاح السيول والأعاصير الأراضي المفتوحة“. وبالمقابل يرى بيرل أن الغرب يغرق في محاولات فرض التوحد على شعوب مختلفة تمتلك مصالح متباعدة وتعتنق مبادئ ومفاهيم متباينة، وتتطلع الى تحقيق آمال خاصة بها” . هذا الخطأ هو الذي أدى إلى حروب البلقان ولولاه لكان الصراع على تلك المنطقة أقل حدة وضراوة .
الآن تكرر الولايات المتحدة هذا الخطأ، إذ تحاول إنقاذ الدولة العراقية من التفكك . في هذا السياق يرتدي بيرل ثياب المدافعين عن - الأطراف أي الأقاليم الانفصالية - ضد المركز- التوحيدي أو الاتحادي - ودعاة تكريس استقلال الأقاليم عن العاصمة من دون وضع سقف محدد لهذا الاستقلال .
لتصحيح هذا الخطأ يقول بيرل إنه اتخذ موقفاً شخصياً ضد الإدارة الأمريكية إذ إن الموفدين الأمريكيين إلى بغداد كانوا يتوسلون إلى الزعماء الأكراد بالموافقة على وضع “البيشمركه” تحت امرة القيادة العراقية وكجزء من الجيش العراقي في حربه ضد “داعش”، وذلك من أجل تنمية قدرات الجيش وتعزيز الحملة ضد “داعش”، إلا أنه نصح هو شخصياً الزعماء الأكراد خلال زيارته الأخير لاربيل بقوله لهم: إنهم سيرتكبون “حماقة كبرى” لو وافقوا على النصيحة الأمريكية .
موقف بيرل يدلنا على ثلاث حقائق مهمة:
1-حماس المحافظين الجدد لتقسيم العراق وتشطير الدول العربية الرئيسية، وأن هذا الموقف اتخذ من قبل جماعة لعبت دوراً غير مسبوق أيام جورج بوش وإبان الحملة العسكرية ضد العراق .
2- ان هذه الجماعة لم يعد لها التأثير نفسه اليوم، ولكنها لم توقف نشاطها ورموزها لا يتوانون عن تحدي السياسات الأمريكية الرسمية .
3- إنه ليس هناك من سبب لصعود هذه الجماعة مرة أخرى في سلم السياسة الأمريكية .
قد يجد الباحثون عن الأسباب الداخلية لتشطير الدول العربية الترابية في هذه الاستنتاجات، سبباً لتذكر نظرية المؤامرة . لا بأس في ذلك . المهم ألا ينقطع النقاش والبحث عن أسباب التردي العربي، أجنبية كانت أم محلية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 27 / 2166009

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع وفاء الموقف  متابعة نشاط الموقع رغيد الصلح   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2166009 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010