الاثنين 15 أيلول (سبتمبر) 2014

بيروت 82... الحرب المنسية

الاثنين 15 أيلول (سبتمبر) 2014 par معن بشور

حين كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات يهم بركوب سفينة (اتلانتي) متوجهاً إلى اليونان في 30 آب 1982، بعد أن خاض معركة مشرفة مع العدو الصهيوني، سأله صحفي أجنبي، إلى أين أنت ذاهب يا أبا عمار؟ أجاب “الختيار” على الفور إلى فلسطين.
ظن الكثيرون أن في رد القائد الفلسطيني الكبير من الأماني أكثر من الوقائع، وان جوابه هو واحد من كلمات “رفع المعنويات” الذي كان يجيدها كل قائد تاريخي يصر على أن يفتح لشعبه دوماً طريق الأمل والتفاؤل...
ولكن وعد أبي عمار لم يكن دون أساس فقد كان إعلاناً صريحاً بأن خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت لا يعني نهاية هذه المقاومة وتصفية قضيتها، فبعد 5 سنوات ونيّف انطلقت انتفاضة الحجارة التي حملته والآلاف من إخوانه إلى فلسطين ومهندسها القائد الشهيد أبو جهاد ليخوض مع شعبه الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى المبارك عام 2000، فتجبر العدو على الاندحار من غزة، ثم ليشهد القطاع المجاهد حصاراً مستمراً وثلاث حروب متتالية كان العدو يخرج منها مرتبكاً مأزوماً بما يجعل من وعد أبو عمار وعدا صادقاً، ومن حلمه بالعودة إلى القدس احتمالاً ليس ببعيد.
ورغم أن العمل الوطني الفلسطيني مرّ خلال العقود الثلاثة بجملة إخفاقات واحباطات وعثرات، أبرزها دون شك اتفاق أوسلو بتداعياته السلبية المستمرة حتى اليوم، لكن أحداً لا يستطيع أن ينكر إن قضية فلسطين تحتل يوماً بعد يوم موقعاً مركزياً في حياة أمتنا، رغم كل ما أحاط ويحيط بها من تخاذل وتواطؤ وتآمر رسمي عربي، واحتراب أهلي عربي أيضا، كما أخذت هذه القضية مكانة متعاظمة في ضمير العالم رغم كل ما أحاط ويحاط بها من تشويه وتضليل وانحياز فاضح ودعم خارجي للكيان الصهيوني.
في هذه المسيرة الحافلة بالكفاح والمقاومة والانتفاضة والتضحية، تبقى الحرب على لبنان، وفي القلب منها معركة بيروت، نقطة مضيئة ومشعة رغم كل محاولات إطفاء شعلتها والتعتيم على انجازاتها لأسباب متعددة ومن جهات مختلفة.
لذلك اخترنا لحديثنا اليوم عنوان “الحرب المنسية” لما لهذا التعبير من دلالات تتصل بالماضي والحاضر والمستقبل.
فهذه الحرب قلّما جرى توثيقها والاحتفاء بها وإعداد البرامج والأفلام والكتب عنها إلاّ فيما ندر، وهذه الحرب غالباً ما تمر دون إحياء لذكراها، عدا احتفالات حزبية متفرقة تكرّم فيها أحزاب وطنية وقومية ثلة من مقاتليها الأبطال، ومقاوميها الشهداء، الذين نحيي ذكراهم اليوم شهيداً شهيداً، والذين لم تتكرم بلديتنا ونواب عاصمتنا بتسمية شارعٍ من شوارعنا باسم أي منهم وهم الذين دافعوا عنها، أو بإطلاق اسم من أسمائهم على ساحة من الساحات التي استشهدوا فيها وهم يمنعون العدو من التقدم إليها.
بل هناك مفارقة مرعبة بين حقائق الحرب الإسرائيلية – اللبنانية الأولى (1982) وبين حجم الاهتمام الإعلامي والسياسي بها وهو ما يتطلب التعمقّ في دراسة أسباب هذا التجاهل والتناسي.... وأحيانا التنصل منها، والتنكر لدروسها ومعانيها وأبرزها دور المقاومة في تحرير الأرض ودور الوحدة في انتصار المقاومة. بل أن هذه الحقائق ما زالت صالحة حتى اليوم لاعانتنا على فهم ما يجري حولنا فندرك نواحي قوتنا لتطويرها ونواحي ضعفنا لنتخلص منها.
أول الحقائق إن الحرب الإسرائيلية - اللبنانية، وأبرز معالمها معركة بيروت 1982، كانت الحرب الأطول في صراعنا المستمر مع العدو، فلقد بدأت مع القصف الصهيوني على مدينة بيروت الرياضية في 4 حزيران 1982 ولم تتوقف إلاّ في 21 آب/أغسطس من العام ذاته مع بدء مغادرة مقاتلي الثورة الفلسطينية وجنود الجيش العربي السوري وضباطه مدينة بيروت، أي أنها حرب استمرت، ومعها حصار بيروت، براً وبحراً وجواً، على مدى 88 يوماً، لتبدأ منذ ذاك المقاومة الوطنية والإسلامية التي حررت العاصمة، كما حررت معظم الجنوب والجبل والبقاع الغربي.
ورغم أن تلك الحرب كانت الأطول زمناً بين كل الحروب مع العدو الإسرائيلي، ورغم أن العدو نفسه يطلق عليها اسم “الحرب الإسرائيلية – اللبنانية الأولى” باعتبار أن الثانية وقعت عام 2006، إلاّ أن البعض، عن قصد أو غير قصد، يصّر على تسميتها “اجتياحاً” ليوحي وكأنها كانت حرباً عاصفة استمرت لأيام أو ربما لساعات وحققت أهدافها وانتهت، وهذا التوصيف لحرب 1982 ينطوي على مخاطر أبرزها التقليل من أهميتها وتصويرها مجرد حرب عابرة، فيما هي حرب أسست وبالمقاييس الموضوعية لكثير من المراحل اللاحقة في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق وغيرها من دول المنطقة.
ثاني هذه الحقائق إن عدونا قد حشد لهذه الحرب المنسية من الجيوش والسلاح والعتاد ضعف ما حشده في العديد من الحروب الأخرى، (مئة ألف جندي و 1200 آلية عسكرية ومئات الطلعات الجوية)، وانه قد خسر في هذه الحرب واحداً من اكبر جنرالاته يكوتئيل آدم، نائب رئيس الأركان، والآلاف من جنوده مما دفع بالجنرال آلي حيفا قائد اللواء المدرع إلى الاستقالة رافضاً احتلال العاصمة بيروت لما يتسبب ذلك من تكاليف بشرية باهظة.
ثالث هذه الحقائق أن عدد شهداء هذه الحرب من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، ومعظمهم من المدنيين، قد بلغ أكثر من 15 ألف شهيداً، حسب الإحصاءات الرسمية اللبنانية (دون أن نحَسب شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا وعددهم لا يقل عن ثلاثة الآلاف) وهو ما يجعلها من أكثر الحروب مع العدو من حيث كلفتها البشرية الباهظة.
لا بل تقول إحصاءات نشرتها جريدة “النهار” إن عدد القتلى من المدنيين والعسكريين اللبنانيين قد بلغ 17825، يضاف إليهم 2000 سوري، فيما خسر العدو فيها 650 عسكريا و6 أسرى بادلتهم قيادة منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد بجميع الأسرى في معتقل أنصار وعددهم خمسة آلاف.
رابع هذه الحقائق أن تلك الحرب بكل المكونات المشاركة فيها كانت حرباً عربية قومية شاملة، فلقد شارك فيها وبكل بسالة مقاتلو الحركة الوطنية والشعبية اللبنانية، ورجال المقاومة الفلسطينية، وأبطال الجيش العربي السوري، ومتطوعون مصريون وعراقيون ويمنيون ومغاربة وجزائريون وتونسيون وخليجيون بالإضافة إلى متطوعين من أحرار العالم، فكانت بيروت ساحة قتال جامعة لكل مكونات الأمة والإقليم والعالم.
يومها كان المتطوعون يتداعون لمواجهة أعداء الأمة وللجهاد في سبيل القدس ومقدساتها لا لقتل أبناء الأمة تحت شتى المبررات والأعذار.
خامس هذه الحقائق كانت تلك الحرب، بكل المكونات المشاركة فيها، حرباً لبنانية وطنية حيث حملت السلاح جنباً إلى جنب كل أحزاب الحركة الوطنية وتجمعات القوى الشعبية وجيش لبنان العربي، وكان العروبي ناصرياً أو بعثياً أو قومياً يقاتل إلى جانب الشيوعي والسوري القومي والإسلامي كحركة أمل واتحاد الطلاب المسلمين، وكان مواطنون بسطاء من كل المشارب والبيئات جزءاً لا يتجزأ من تلك المعركة، ويشكّلون بيئة حاضنة للمقاومة المظفرة.
سادس هذه الحقائق لقد أسست تلك الحرب عام 1982 لانطلاق المقاومة الوطنية فالإسلامية التي باتت بشهادة العدو قبل الصديق، احد ابرز ظواهر العقود الثلاث الماضية، وساهمت، وما تزال، في تغيير معادلات في الصراع والمنطقة في آن.
وإذ تُعتبر جذور المقاومة عميقة في التربة الشعبية اللبنانية منذ أواخر الستينات حيث كان للبعثيين والشيوعيين مبادراتهم الرائدة في صمود الجنوب والدفاع عنه في معارك محدودة في حجمها كبيرة في تفاعلاتها، (شبعا، الطيبة، كفركلا، وغيرها)، فإن المقاومة الإسلامية التي ولدت براعمها في تلك الحرب (1982) تحولت مع الأيام إلى ما تحولت عليه من مصدر قلق وخوف غير مسبوق لدى العدو الصهيوني.
سابع الحقائق كشفت تلك الحرب، ولا سيما معركة بيروت، حجم التواطؤ والصمت الرسمي العربي، وحجم التقصير الشعبي العربي حيث كانت أنظار الكثيرين من العرب مشدودة إلى مونديال كرة القدم بعيداً عما يجري في لبنان. تماماً كما كشف التوغل الصهيوني في شوارع العاصمة صبيحة 14 أيلول/سبتمبر 1982 حجم التواطؤ الدولي والتنصل من اتفاقات عقدها المبعوث الأمريكي آنذاك فيليب حبيب ومساعده موريس درايبر، لتنظيم خروج القوات الفلسطينية والسورية من بيروت مقابل إرسال قوات متعددة الجنسية لحماية المخيمات، فإذ بهذه القوات تنسحب قبل ساعات من اغتيال بشير الجميل في 3/9/1982، لتدخل في اليوم التالي القوات الصهيونية إلى بيروت وسط إنكار درايبر المتكرر لرئيس الوزراء آنذاك الراحل شفيق الوزان الذي زاره فجر ذلك اليوم على رأس وفد بيروتي الاستاذ بشارة مرهج وعدنان عيتاني وفؤاد الحلبي لإبلاغه عن التوغل الصهيوني في العاصمة، فكان درايبر يصّر للوزان مراراً على أن تحركات الجيش الصهيوني هي مجرد إعادة تموضع ولا تنطوي على أي عملية عسكرية ضد العاصمة، فكان القرار يومها “إن العار ليس في أن تدخل قوات العدو عاصمتنا ولكن العار كل العار أن لا تجد فيها من يطلق الرصاص عليها”. وهكذا كان فانطلقت الرصاصات الأولى من حي الفاكهاني في الطريق الجديدة وكان أول شهيدين من بيروت من أبناء الطريق الجديدة محمد الصيداني وعصام اليسير اللذين أعلنا بالدم شهادة انطلاق المقاومة الوطنية من قلب عاصمة الوطن.
أما المخيمات التي يفترض بالاتفاق الدولي حمايتها عبر قوات متعددة الجنسية فقد وجدت نفسها في اليومين التاليين لاحتلال العاصمة ذبيحة وحشية الصهاينة وعملائها في واحدة من أكبر مجازر العصر التي لو جرت محاكمة مرتكبيها، لما كان مجرمو الحرب في الكيان الصهيوني يكررون مجازرهم وآخرها مجازر غزة الوحشية.
فكما لم يستطع ما يسمى “بالمجتمع الدولي” على مدى 22 عاماً تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر في آذار /مارس 1978 بسحب قوات العدو المحتلة من جنوب الليطاني، فان كل الاتفاقيات والوعود لم تحم الشعب الفلسطيني ومعه مئات اللبنانيين والسوريين والمصريين في مخيمي صبرا وشاتيلا من مجزرة رهيبة، بما يؤكد أن لا شيء يحمي الشعوب والأوطان إلاّ الاعتماد على ذاتها وسلاحها ووحدتها.
لقد انتهى ذلك الفصل من الحرب الصهيونية المستمرة على امتنا بخدعة دولية تماماً مثلما بدأ بخدعة يوم “طمأنت” واشنطن وحلفاؤها الأقربون والأبعاد كلا من الحكومتين اللبنانية والسورية ومعهما قيادة منظمة التحرير بأن الحرب الإسرائيلية لن تتجاوز حدود نهر الأولي وأن هدفها هو إبعاد المستعمرات الشمالية عن مدى الصواريخ الفلسطينية، وكأن هناك عملية عسكرية عدوانية يمكن السكوت عنها وأخرى لا يجوز السكوت عليها.
وأذكر يومها انه حين لقائي بالرئيس الشهيد ياسر عرفات صبيحة الأحد في 6/6/1982 في إحدى مقراته السرية، وكان قد عاد للتو من الرياض بعد أن قطع زيارته مع أخبار العدوان، كيف أن أبا عمار كان يؤكد لي، ولكل من التقاه، إن حدود العملية الإسرائيلية لن يتعدى نهر الأولي، وهو ما كان مخالفاً لتقديرنا آنذاك، فقد كنا نعتقد إن العدو سيصل إلى العاصمة وسيسعى إلى تغيير المعادلة السياسية فها، وهكذا كان.
الحقيقة الثامنة: لم تكن حرب 1982 مجرد صمود عسكري وسياسي فحسب، بل كانت تمثل مشهد صمود اجتماعي رائع امتد على مدى أشهر ثلاثة حُرِمَ فيه أهل بيروت من الماء والكهرباء والطعام في أغلبه، وكان عليهم أن يتدبروا أمرهم بالوسائل المتيسرة فيما كان العدو يمنّي النفس بلحظة يرفع فيها أهل بيروت الأعلام البيضاء ويخرجون في مسيرات ضد المدافعين عن وجود الأمة من خلال معركة بيروت.
صحيح أن العديد من السكان اضطر لمغادرة العاصمة تحت وطأة القصف الهمجي الذي وصل إلى حد تدمير أبنية بكاملها على رؤوس سكانها بل تحت وطأة حصار تمويني خانق، فيما على بعد أمتار شرق المتحف أو المرفأ أو المحاور الأخرى كان يتوفر كل شيء، لكن الذين صمدوا في بيروت، مقاتلين ومواطنين، قدموا ملحمة في التكيف مع ظروف مستحيلة، حتى إذا ما أطل “الجنرال رمضان” على بيروت والحرب فيها على أشدّها تحولت فرحة الصائم يومها إلى فرحتين – كما قلت في مقال آنذاك – فرحة بيوم من الصيام وبيوم من الصمود معاً.
وبالمقابل كان احتضان بقية اللبنانيين لأشقائهم دليلاً على الوحدة العميقة بين أبناء الشعب اللبناني خصوصاً إن رفض العدوان على العاصمة لم يقتصر على فئة من اللبنانيين بل شمل أغلبيتهم التي كانت تعبر عن رفضها له بأشكال مختلفة وهو ما أسس لوحدة شعبية لبنانية حقيقية أرعبت الصهاينة فخططوا لاستخدام فريق لبناني في مجزرة صبرا وشاتيلا ومن ثم لإشعال حرب الجبل، ولتحريك كل النعرات الطائفية والمذهبية المستمرة والمتفاقمة حتى الساعة، وهو ما أسميناه يومها “بالعصر الإسرائيلي” الذي أراد العدو إدخال لبنان فيه بعد اضطراره للخروج منه مدحوراً
في تلك اللوحة الاجتماعية الإنسانية الرائعة، كان الأمن الجماعي والفردي مستتباً، فلم يسجل طيلة الأشهر الثلاثة إلا العدد المحدود جداً من التجاوزات، رغم أن كل شيء كان مباحاً حيث لا سلطة قانونية تحاسب، وكنا نقول يومها في الحروب يهرب اللصوص، وبعد ان يحل السلام يزحفون لسرقة الناس ونهب ثرواتهم بالجملة والمفرق.
بل في لوحة الصمود الاجتماعي، التي باتت تتكرر في أكثر من مدينة تواجه حصاراً، كنت ترى كتائب العمل التطوعي والاجتماعي والصحي والتمويني والإسعافي والإنمائي تعمل جنباً إلى جنب مع كتائب المقاومة اللبنانية – الفلسطينية المشتركة والجيش العربي السوري، بل أحياناً لم تكن ترى في الشوارع سوى سيارات الإسعاف لجمعيات الدفاع المدني، ولم تكن تسمع إلى جانب أزيز الرصاص سوى صفارات الإنذار وهي تنقل جثة من هنا، وتسعف جريحاً من هناك، وتطفئ حريقاً في بناء لم ينج من الحريق الكبير، وأحيانا تصاب أحداها بقذيفة صهيونية فيستشهد المتطوع أو المسعف ليهرع رفاق له لنقله إلى أحد المستشفيات الميدانية القريبة التي امتلأت بها أحياء العاصمة، كما امتلأت تلك بأطباء وممرضين متطوعين صمدوا في غرف عملياتهم كما يصمد أشجع المقاتلين في خنادقهم.
وفي الشارع أيضا في تلك الحرب، كنت ترى هيئات الإغاثة تتحرك من تجمع للمهجرين داخل العاصمة وبين أحيائها إلى تجمع آخر تحمل له الغذاء والدواء وكل ما يحتاجه.
في تلك الحرب المنسية أدرك الناس كيف يتقدم المجتمع بمنظماته التطوعية في زمن الحروب والأزمات ليملأ فراغاً تتركه الدولة وليعالج مشكلات الناس على أنواعها، طبية أو تموينية أو إنسانية، بما يعزز من وحدة الناس.
وعلى الرغم من أن هذا الجانب من تلك الحرب بقي هو الآخر منسياً إلى حد بعيد، لكنه أسس فيما بعد لظاهرة المنظمات والجمعيات الأهلية ، والتي اتكأ إليها المجتمع اللبناني في الأزمات الدامية التي واجهها بعد عام 1982، وربما حتى الآن، مع الإشارة إلى أن هناك – على ما يبدو – مخطط لإغراق الجمعيات الناشطة فعلاً بجمعيات وهمية أو دكاكين ، تسيء للعمل الاجتماعي، كما تسيء دكاكين السياسة للعمل السياسي، وتتمكن بشطارة وسائلها، وتواطؤ بعض المسؤولين معها، أن تنهب ما تيسر من موارد مخصصة لمثل هذه الجمعيات.
الحقيقة التاسعة لم يكن في حرب 1982، وسائط الاتصال التي تضج بها حياتنا هذه الأيام، فلا مواقع التواصل الاجتماعي على أنواعها كانت موجودة، ولا حتى خدمة الخبر العاجل، أو الفاكس، أو الانترنت وغيرها، كان الاتكال فقط على من صمد من الصحف “كالسفير”، كل صباح، رغم تعذّر حصول المحررين على الأخبار بالسرعة المطلوبة، وكان الاعتماد على من صمد من الإذاعات المحلية (صوت لبنان العربي) و(صوت فلسطين) ما تيسر من الأخبار، وكانت الأيادي تتناقل نشرات مطبوعة على “الستانسل” “كالثبات” و“المعركة” و “رصيف81” بالإضافة إلى “صوت الشغيلة” وكانت أكثر من نشرة وأقل من صحيفة وقد استشهد بعض كتّاب تلك النشرات وهم يوزعونها، على المواقع القتالية والخنادق وكانت تحمل من التوجيهات والنداءات التعبوية أكثر مما تحمل من الأخبار، بالإضافة إلى جرائد حائط كان يكتبها صامدون على جدران المدينة بين كل قذيفة وقذيفة، وهدنة إنسانية وأخرى.
حال التلفزة لم يكن بأحسن من غيرها، فالتلفزيون الرسمي ، وكان وحده موجوداً آنذاك، وربما هذه من حسنات تلك الأيام ولكنه كان يبث من شاشتين إحداهما “غربية” تبث من تلة الخياط، والأخرى “شرقية” تبث من الحازمية، وكل منهما متأثر بالأجواء المحيطة بهما فيما كان وزير الإعلام حينها الأستاذ ميشيل اده يجهدُ نفسه بالتنقل بين مكتب وزارته في الحمرا ومنزله في بعبدا، لكي يحافظ على الحد الأدنى من الخطاب الوطني الجامع، إلى درجه انه حرص من خلال حلقتين تلفزيونتين ظهر بهما وهو يحذر من الخطر الصهيوني وبثت الحلقتان آنذاك من تلفزيون الحازمية فيما كانت دبابات العدو تحيط بالمحطة وترابط على مدخلها من كل جانب فيما اعتبر موقفاً شجاعاً بوجه الاحتلال من رجل أختار منذ فتوته مواجهة الفكر الصهيوني ودحض مقولاته.
كان الصامدون من الإعلاميين والمصورين الصحفيين، لبنانيين وفلسطينيين وأجانب في بيروت مفخرة شعبهم وأمتهم والعالم، ومن بينهم خرج فيما بعد بعض أشهر الإعلاميين العرب والعالميين، إذ يكفيهم أنهم خريجو حرب بيروت وصمودها وحصارها.
أما عاشر هذه الحقائق، وربما أهمها، هو أن العدو رغم التفوق الكاسح في عديده وعتاده بقي متسمراً على أبواب العاصمة أكثر من شهرين ونصف دون أن يستطيع التقدم على أي محور من محاور القتال سواء في المطار أو الاوزاعي أو الليلكي الحدث، وخصوصاً المتحف حيث بات معروفاً انه بعد يوم كامل من القصف البري والجوي والبحري، لم يستطع التقدم على المحور سوى أمتار قليلة هي اقل من طول دبابة “الميركافا” التي كان يفاخر بها يومذاك. وما جرى من بطولات على ذلك المحور جرى أيضا على المحاور الأخرى، كما في المناطق الأخرى كخلدة وقائد معركتها العقيد الشهيد عبد الله صيام والشقيف ومقاتلوها الذين توزعوا بين شهيد وجريح واسير، ومعركة الأولي والمفقودين الستة فيها، ومخيمات عين الحلوة والمية ومية ومخيمات صور والرشيدية وبرج الشمالي والبص وقائدها الشهيد عزمي الصغير، وكمعركة بحمدون وعين دارة في الجبل، والسلطان يعقوب في البقاع الغربي حيث أوقف الجيش العربي السوري يومها تقدم قوات الاحتلال لقطع طريق بيروت – دمشق.
وحين استطاع العدو استخدام خدعة دولية للتوغل في شوارع العاصمة، بعد انسحاب المقاتلين الفلسطينيين والجنود السوريين والمتطوعين العرب، واجه داخل العاصمة، وفي كل أحيائها بدءاً من الطريق الجديدة مقاومة ضارية ، وعمليات بطولية، كما جرى في جسر سليم سلام وسبيرس والقنطاري وعين المريسة وكورنيش المزرعة والمنارة وتوجتها آنذاك عملية الويمبي وبطلها الشهيد خالد علوان، فاضطر العدو للاندحار بعد أيام وجنوده يصرخون بمكبرات الصوت : يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا... إننا خارجون.
كان الانسحاب غير المشروط من ثاني عاصمة عربية محتلة بعد القدس، أول انتصار حقيقي للمقاومة على المحتل، وتأسيساً لمقاومة شملت كل ارض لبنانية محتلة حتى كان الاندحار الكبير لقوات الاحتلال في 25/5/2000، ومنذ ذلك الانتصار اللبناني والعربي والاندحار الصهيوني، دخل العدو عصر الهزائم ودخلت مقاومتنا العربية، لبنانية وفلسطينية وعراقية عصر الانتصارات. إذ سبقت الغارة الصهيوني على مفاعل تموز النووي في العراق الحرب على لبنان بسنة واحدة.
نعم كانت بيروت أول الانتصارات، وكانت المقاومة هي الطريق لهذه الانتصارات.
أيها الأخوات والإخوة
لعل جملة هذه الحقائق، والحقيقة العاشرة بالذات التي أعلنت بدء عصر الانتصارات العربية والهزائم الإسرائيلية على وجه الخصوص، هي وراء هذا التجاهل أو التناسي لواحدة من أهم معارك العرب في العصر الحديث، كما لواحدة من أهم معارك العصر ذاته.
أراد أعداء لبنان والأمة أن يثأروا لخروج جيش الاحتلال من بيروت مدحوراً، فسعوا إلى إدخال المشروع الصهيوني إلى وطننا بل إلى امتنا كلها، مدركين إن العدو عاجز على مواجهة شعبنا المقاوم وجهاً لوجه، فعمد إلى الالتفاف على هذه الانتصارات عبر إثارة كل أنواع العصبيات والغرائز والحساسيات على أنواعها لكي يجهض انتصاراتنا ويحاصر مقاومتنا ويغرق مجتمعاتنا في صراعات أهلية دامية يستنبت كل صراع منها ألف صراع، وكل فتنة ألف فتنة، فلا تضيع بوصلتنا في تحديد العدو فقط، بل تضيع ذاكرتنا عن التقاط المضيء من تاريخنا القديم والوسيط وخصوصاً المعاصر وتبقى سيرة عصبيات تمزق أواصر في المجتمع الواحد، والشعب الواحد، والوطن الواحد.

لم يكن صيف 1982 هو صيف الحصار الوحيد لمدينة بيروت فقد سبقه أكثر من حصار وحصار لعل أبرزها الحصار الذي ضربته جيوش الفرنجة على بيروت عام 1110 ميلادية واستمر11 أسبوعا، ولم ينته إلاّ باتفاقية مع ملك القدس بولدوين، وهو شقيق غود فرويد (جوفراد) ملك القدس قبله، الذي سرعان ما نكث بالاتفاق بعد دخول بيروت، وهروب حاكم المدينة بحراً إلى قبرص وتسليّم نفسه لحاكمها البيزنطي.
بعد الاتفاق مع بولدوين يومها، عاث رجال الأسطول الايطالي فساداً وخراباً في بيروت وأطلقوا العنان لغرائز الحقد والتعصب التي كانت في نفوسهم ضد أهالي بيروت ووضعوا المدينة تحت وطأة مذبحة لم يستثن منها الشيوخ والنساء والأطفال وفي اليوم الثاني للاحتلال أخرج المحتل من أبناء بيروت المسلمين الذين وقعوا تحت يده إلى خارج المدينة وضرب أعناقهم كافة.
بقيت بيروت تتعرض لظلم الفرنجة حتى حررها صلاح الدين الأيوبي عام 1186، وقد تخلل تلك المرحلة مذابح ومجازر لعل أبرزها مذبحة الأمراء البحتريين الذي دعاهم أمير باروت (أي بيروت) غوتييه إلى حفل تزويج احد أبنائه وأنزلهم في بستان ظاهر البلد، بذريعة كثرة الضيوف الإفرنج، ثم سألهم الحضور إلى مجلس خاص قد هيأ لهم فدخل الأمراء البحتريون ومعهم نفر قليل، وكان أخر العهد معهم (والرواية كلها للمؤرخ صالح بن يحيى نقلها عنه الأب اليسوعي لامان).
لم تنعم بيروت بالحرية طويلاً بعد صلاح الدين، فاستعان الفرنجة بطابور خامس من داخل المدينة ودخل إليها الملك الفرنجي أمورين الفرنسي بمساعدة فردريك الألماني بعد أن هرب حاكمها أسامة بن منقذ (وهو غير أسامة بن منقذ الكاتب الفارسي الذي عاش ايام صلاح الدين).
وبعد أن حرر المماليك بيروت 1291، جاء أسطول فيه مراكب كثيرة لاحتلال بيروت، فلما قربوا من البر أرسل الله عليهم ريحاً مخالفة فغرقت بعض السفن وتكسر بعضها حسب المؤرخ صالح بن يحيى.
وفي عام 1334 أغار القرصان الفرنجة على بيروت، ونشبت معركة وحاولوا نصب علمهم على القلعة فتصدى لهم أهل بيروت وقهروهم ورموا العلم، وفي أيام الشيخ الخاصكي، الملقب بملك الأمراء سنة 1403 حضر الفرنجة أيضا إلى بيروت نزلوا غرب البلد، وتمكنوا من الانتشار في بيروت ونهبوا وأشعلوا النار في أسواقها وبيوتها، فتنادى أهل العاصمة وتكاثروا على الفرنج حتى حاصروهم في الأزقة وفتكوا بهم جميعاً، وقرابة العصر حضر متولي البلد يوسف التركماني الكسرواني ، فهرب القسم الأكبر من الإفرنج، فيما قاتل من تبقى منهم ، فقتلوا جميعاً وبنى التركماني فوق مقبرتهم “مسطبة” على باب بيروت بات اسمها اليوم المصيطبة.
هذه اللمحات من تصدي بيروت للغزاة، والتي كانت تتكرر بشكل أو بآخر في حرب 1982 المنسية، تجددت حين قاوم أهل بيروت مع أهل دمشق وبغداد والقدس الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وحسمت هبتهم مع جميع اللبنانيين في 11 تشرين الثاني 1943 معركة استقلال لبنان بعد أيام على اعتقال قادة الاستقلال.

كي لا تكون هذه الحرب منسية، فمن واجب الجميع في الوطن وخارجها، أن يتحملوا مسؤوليتهم في هذا المجال:
1- نقترح على رئيس الحكومة الأستاذ تمام سلام، بشخصه وبما يمثل خصوصاً في بيروت، أن يشكل لجنة من المؤرخين والإعلاميين والمشاركين في تلك الحقبة من اجل وضع خطة متكاملة لكي تأخذ هذه الحرب ما تستحقه من موقع في ذاكرة الوطن وحياته.
2- نقترح على وزير التربية أن يفرد فصلاً خاصاً في كتابي التاريخ والتربية الوطنية يتناول هذه الحرب المفصلية في حياة لبنان ويعرض تفاصيلها بلغة موضوعية رصينة بعيدة عن الاستغلال السياسي.
3- نتمنى على وسائل الإعلام المرئية منها والمسموعة والمقرؤة أن تسهم في إحياء هذه المناسبة، بما تستحقه من مقالات وشهادات وتوثيق، خصوصاً إن معظم الشهود على تلك المرحلة قد دخل مرحلة الشيخوخة.
4- نتمنى على المنابر والأندية الثقافية في العاصمة وخارجها، أن تعطي هذه المناسبة ما تستحقه من اهتمامها سواء على مستوى المحاضرات والندوات، أو معارض صور (بالتعاون مع نقابة المصورين وقد استبسل بعضهم في تلك الحرب واستشهد) أو معارض تشكيلية أو أمسيات شعرية يشارك فيها شعراء عاشوا تلك الحرب وأبدعوا في أجوائها (وبعضهم ما زال يفيض إبداعا).
5- نقترح على مجلس بلدية بيروت، وعلى رأسه من ينتمي إلى عائلة قدمت احد ابرز شهداء الوطن، أن تطلق أسماء شهداء الدفاع عن بيروت على شوارع وأحياء وساحات المدينة، وأن تقيم نصباً تذكارياً جماعياً لهم في إحدى الساحات التي شهدت عملية نوعية، كساحة الشهيد خالد علوان في الحمرا.
6- نقترح على وزارة الإعلام أن تشرف بنفسها أو بالتعاون مع نقابة أصحاب دور النشر إصدار كتاب موسوعي يوثق يوميات تلك الحرب وتفاصيلها وشهادات بعض من شارك فيها وصور لأبرز معاركها وأثارها.
7- نقترح أن يبادر مجلس النواب، وقد كان رئيسه الأستاذ نبيه بري، أحد أبرز القيادات التي شاركت في تلك المرحلة إلى تنظيم ورشة عمل حول تلك الحرب وحول ما يمكن فعله من اجل تخليدها في الذاكرة والوجدان الوطني اللبناني والعربي والعالمي.
8- نقترح على إدارة تلفزيون لبنان أو غيرها من التلفزيونات ذات الهم الوطني أن تتفاهم مع كبار المخرجين والممثلين على إنتاج مسلسلات من وحي تلك الحرب وبطولاتها ومعانيها.

هذه جملة ملاحظات وأفكار نسوقها عشية الذكرى 32 لحرب منسية، هي من أهم حروبنا مع العدو الصهيوني، وأهم ما فيها أنها حرب وحدّت بيننا فيما تفرض علينا اليوم حروباً تفرّق بيننا، وحرب إعادة الاعتبار للمقاومة خياراً ونهجاً وثقافة وسلاحاً في زمن تتكاثر فيه الحروب والمؤامرات لإسقاط المقاومة فإسقاط الأوطان والمجتمعات بدورها، بل هي حرب تؤكد التكامل بين مراحل كفاحنا فلا يلغي الواحد منّا الآخر، ولا تطغى مرحلة على أخرى، ولا نترك المجال لأعدائنا كي يستفيدوا من أخطائنا وينفذوا من ثغرات كامنة في أدائنا وعلاقاتنا.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 50 / 2165305

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165305 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010