الثلاثاء 9 أيلول (سبتمبر) 2014

حوار مع السيسي في خطاب الأزمة

الثلاثاء 9 أيلول (سبتمبر) 2014 par فهمي هويدي

حين وجه الرئيس عبدالفتاح السيسي حديثه إلى الأمة هذا الأسبوع، فإنه أهدى إلينا فضيلتين، الأولى فضيلة المكاشفة وملامسة الحقائق، والثانية انه شجعنا على أن نفتح قلوبنا ونبادله المصارحة والمكاشفة.

(1)

حمدتُ له أنه انفعل مثلنا بسبب الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي الذي أصاب الحياة بالشلل في بر مصر لعدة ساعات، فقرر أن يخاطب الناس كي يضعهم في الصورة، مشيراً ضمناً إلى أنه يعيش معاناتهم اليومية وليس معزولا عنها، ووجدتُ في ذلك إجابة على التساؤل، إذا تحدث رئيس الجمهورية عن مشكلة الكهرباء وغير ذلك من المشكلات التي تواجهها الأجهزة التنفيذية، فعن أي شيء يتحدث رئيس الحكومة الذي يُفترض أنه على رأس السلطة التنفيذية؟ إذ لم أجد تفسيراً لذلك سوى أنها لقطة تسجل التفاعل مع الغضب العام، وهو ما يمكن فهمه. أما كيف جاء التعبير عن ذلك الغضب، وهل كان مدروساً على النحو الذي يليق بمقام الرئاسة أم لا، فذلك شيء آخر.
تلك ملاحظة على الشكل، إلا أننا إذا دخلنا في الموضوع، فسنلاحظ لأول وهلة ان خطاب الرئيس اعتمد مدخلا عبَّر فيه عن ان مصر تخوض معركة وجود منذ عدة سنوات لأن هناك من يسعون إلى هدم الدولة، وعقَّب على ذلك بقوله إن العمل جار على قدم وساق كي تقف الدولة على قدميها. وتلك مهمة لا تتم بين يوم وليلة، ولكن إنجازها يحتاج إلى وقت ومثابرة وصبر. وقد اعتبرت جريدة «الأهرام» رسالة معركة الوجود منطلقاً جوهرياً في الخطاب، فأبرزتها في العنوان الرئيسي للصفحة الأولى (عدد الأحد 7/9). وهو ما استوقفني لأني أفهم ان مقتضى معركة الوجود ان تكون مصر في مواجهة تهديد خطر يترتب عليه ان تكون أو لا تكون. وهو ما يستدعي السؤال عما إذا كانت مصر في هذا الموقف حقاً أم لا. في هذا الصدد، ليست غائبة عن ذهني التفرقة بين الدولة والنظام، وأن النظام هو المقصود باعتبار انه بمثابة المؤسسة السياسية التي تحكم الدولة.
إن الحديث عن معركة الوجود يمكن ان يسري على النظام السوري الذي يخوض معركة ضد شعبه منذ أكثر من 3 سنوات، وعلى الحاصل في ليبيا المهددة بالحرب الأهلية، وعلى اليمن التي احتل فيها الحوثيون العاصمة مطالبين بإسقاط الحكومة بينما تتعالى أصوات الانفصال في جنوب البلاد، وقد يسري على النظام السوداني الذي انفصل عنه الجنوب في حين لم يهدأ التمرد في دارفور وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. كما قد يُفهم في العراق الذي انفصل عنه الإقليم الكردي عملياً، ويجري الاستعداد لتمزيق ما تبقى منه بين الشيعة والسنة الذين خرجت جماعة «داعش» من عباءتهم. في تلك النماذج يصح الحديث عن تهديد وجودي لهذه الدولة أو تلك، فهل هذا هو الحاصل في مصر؟
مبلغ علمي أننا لسنا بصدد ما يمكن أن يُعدّ تهديداً وجودياً في الوقت الراهن (وهو تقدير يمكن ان يختلف إذا ما أدى سد النهضة الإثيوبي إلى الانتقاص من حصة مصر من المياه بعد عدة سنوات) ـ وغاية ما يمكن أن يقال إن هناك تحديات جسيمة في سيناء إضافة إلى مشاغبات تحدث في بعض المدن، بما لا يمكن التهوين من شأنه أو تجاهله، لكنه لا يرقى إلى مستوى التهديد الوجودي بأي حال. وإذا صح ذلك التحليل فهو يعني أن التوصيف الذي أعلن يستدعي معركة لا وجود لها ويثير توتراً وقلقاً لا مبرر لهما.

(2)

برغم أن التشخيص الذي تحدث عن التهديد الوجودي لم يكن صائباً، إلا أن التفاصيل التي ذكرت عن المعركة التي تخوضها مصر تكفلت بعملية التصويب. ذلك ان الرئيس لم يتحدث عن تهديد خارجي يستهدف «الوجود» في مصر. وذلك تقدير صحيح، لأن كل الرياح المعاكسة القادمة من الخارج لا تتجاوز حدود المشاحنات التي قد تؤثر على صورة النظام، لكنها لا تهدد وجوده. أما التحديات التي أشار إليها فكانت كلها متعلقة بمشكلات الداخل. وقد ركز الرئيس على ثلاث منها تتعلق بالقصور الحاصل في الخدمات التي تقدم للناس. فقد تحدث عن حاجة مصر إلى ما يعادل 130 مليار جنيه لتحديث منظومة الكهرباء وتوفير احتياجات الناس منها خلال السنوات الخمس المقبلة. ذلك غير 700 مليون دولار مطلوبة سنوياً لتوفير الوقود اللازم لتشغيل محطات الكهرباء.
تحدث الرئيس أيضاً عن مرفق المياه والصرف الصحي، وقال إن في مصر 4500 قرية تتبعها أكثر من 40 ألف ناحية تعاني من نقص خدمات الصرف الصحي. وهذه لا تتوفر إلا لنسبة 20٪ فقط من تلك القرى والنواحي. الأمر الذي يؤثر على الصحة العامة والزراعة والمياه، ويحتاج إلى مليارات أخرى للوفاء بالاحتياجات المطلوبة.
تحدث كذلك عن الخطوات التي تمت لتوفير المدارس، إلا أنه ذكر أن توفير خدمات التعليم على نحو مقبول يتطلب تعيين 51 ألف معلم، ولا بد من توفير الموارد اللازمة للوفاء بأجورهم ورواتهم الشهرية.
الرئيس السيسي كان صادقاً فيما عرضه، ولم يفُته ان ينبه إلى أن التدهور الحاصل ليس مقصوراً على المجالات التي أشار إليها، ولكنه شامل لكل المرافق والخدمات الأخرى. فالمستشفيات وسكك الحديد والمحليات وبقية الخدمات التي يفترض ان تقدم للناس ليست أفضل كثيراً من الكهرباء والصرف الصحي والأبنية المدرسية (لا تسأل عن نوعية التعليم). وذلك جانب واحد من جوانب العبء الثقيل الذي خلَّفته عهود الفساد والاستبداد التي همشت المجتمع وانحازت إلى الأغنياء طول الوقت.

(3)

الكلام بهذه الصورة يقلقنا مرتين. مرة لأنه قلَّب علينا المواجع، وذكَّرنا بمدى تدهور الخدمات الأساسية التي تقدم إلى الناس. وهو قلق يتضاعف حين تنضاف إليه المعلومات المتعلقة بتوقف أكثر من 4000 مصنع عن العمل، وبحوادث الطرق التي صرنا نقرأها كل صباح، إضافة إلى عدم الاستقرار الأمني الذي أساء إلى سمعة البلد وضرب السياحة، فضلا عن الاستقطاب السياسي الذي أشاع الانقسام والكراهية في المجتمع.
المصدر الثاني للقلق أن الرئىس حدثنا عن التحديات والمشكلات الكبرى التي تثقل كاهل السلطة، من دون أن يحدثنا لا عن تصوره للخروج من الأزمة أو أفق الحل في المستقبل القريب أو البعيد.
إن أزمات المجتمع نعرفها ونستشعرها جميعاً. ولسنا بحاجة إلى من يرشدنا إليها، لكن قَدَر السلطة ان تتحمل مسؤولية إدارة تلك الأزمات أو حلها، أو إقناع الناس بأن ثمة أملا في حلها يوماً ما، أما حين يستدعي المسؤول قائمة الأزمات ويقنعنا بخطورتها، ثم يكتفي بذلك ولا يطلعنا على خطته في حلها أو مقترحاته في ذلك، فإنه لن يختلف كثيراً عن الطبيب الذي يشخص المرض ويبلِّغ المريض وأهله بما أصابه، ثم يدير ظهره لهم وينصرف.
لقد قال لي أحد الخبراء المخضرمين انه توقع أن يختم الرئيس السيسي كلمته بإجراءات يعلنها على الملأ لمواجهة التحدي الذي تحدث عنه. توقع مثلا إقالة وزير الكهرباء من منصبه بعد الذي حدث يوم الخميس، أو إصداره قرارات أو توجيهات تساعد على توفير الموارد المطلوبة للنهوض بالخدمات، من قبيل إعلان سياسة التقشف وخفض النفقات في مؤسسات الدولة، أو فرض ضرائب جديدة على بعض الشرائح، أو زيادة الضريبة التصاعدية على الدخل ورفعها بحيث تتجاوز نسبة 25 في المئة المطبقة حالياً، علماً بأن نسبتها تصل في بعض الدول الأوروبية إلى 65 في المئة. منها أيضاً وقف استيراد بعض السلع الكمالية التي تشكل عبئاً غير مبرر على رصيد الخزانة من النقد الأجنبي، أو ضم الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة أو غير ذلك من الإجراءات التي يفترض أن تستدعى لمواجهة الخدمات التي تحدث عنها الرئيس. أما تسليط الأضواء على مشكلات حيوية من قبيل تلك التي ذكرت في الخطاب، ثم السكوت عن الحلول المرجوة أو المقترحة، فهو يعني أن ثمة قصوراً في إعداده وأن التسرع والانفعال أثرا على الرسالة التي وجهها، بحيث غدت مقصورة على التشخيص من دون الإشارة إلى أي علاج يطمئن الرأي العام.

(4)

إذا تصدعت جدران بيتك بحيث صار مرشحاً للسقوط ويواجه بالتالي تحدياً «وجودياً»، فأيهما أولى في هذه الحالة: ان تسارع إلى ترميم البيت أم أن تشرع في إقامة بيت جديد؟ سيكون الحل الأمثل في هذه الحالة أن تقوم بالمهمَّتين في وقت واحد، إذا كان ذلك بمقدورك، ولكن إذا عجزت عن ذلك، فأيهما نختار؟ هذا السؤال يرد في السياق الذي نحن بصدده، حين تواجه السلطة تحديات آنية جسيمة من ذلك القبيل الذي أشار إليه الرئيس، وفي الوقت ذاته نجدها تتجه إلى شق قناة جديدة بالسويس أو استصلاح أربعة ملايين فدان أو إعادة رسم الجغرافيا المصرية بإضافة محافظات جديدة أو غير ذلك من المشروعات الكبيرة والمهمة التي باتت تحتل عناوين الصحف المصرية بين الحين والآخر.
هذه المقابلة تستدعي اسئلة كثيرة حول أولويات المرحلة والجهات التي تتولى دراسة تلك المشروعات وتقررها، والمؤسسات التي تناقش وتراجع وتحاسب على الأداء في مختلف المسارات. كما انها تولد اسئلة أخرى حول مساعدي الرئيس ومستشاريه، وحول دور المجالس المنتخبة والحوار المجتمعي الذي ينبغي أن يكون له حضوره في التقدير وترتيب الأولويات والحساب والمساءلة، وغير ذلك مما تقتضيه الشفافية وحسن التدبير. وفي حدود علمي، فإن أغلب تلك المشروعات الكبيرة التي يجري الحديث عنها لم تكن جديدة، ولكنها أفكار طرحت، لكنها تأجلت بسبب عدم توفر امكانيات التنفيذ. وقال لي أحد الشهود إن فكرة حفر قناة جديدة للسيوس مثلا طرحت على الرئيس الأسبق حسني مبارك وكان رده: دبروا التمويل أولاً ثم تحدثوا في الموضوع.
لست في موقف يسمح لي بالمفاضلة بين الخيارات والأولويات، لكني أتحدث عن الآلية التي يفترض ان يتحقق بها ذلك.
وإذا جاز لي أن ألخص ما خرجت به من كلمة الرئيس السيسي فقد أقول إنه بصَّرنا بالنَفَق الذي نحن فيه، لكنه لم يدلنا على الضوء الذي نهتدي به للخروج منه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165937

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع فهمي هويدي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165937 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010