السبت 30 آب (أغسطس) 2014

القاسم يشاطر غزة صمودها

السبت 30 آب (أغسطس) 2014 par د. عبد العزيز المقالح

لا غرابة أن يموت الشاعر الكبير سميح القاسم في هذه الأيام الحزينة الكئيبة، وأن يجد في الموت قصيدته الأخيرة، وربما شفاءه الأخير، من عذاب رافقه على مدى سبعة عقود منذ طفولته إلى كهولته . والمحزن أن يكون آخر مشهد رأته عيناه، أو رآه قلبه، دخان يتصاعد من قلب غزة، كان دخان الخراب الناتج من انهيار المنازل والمؤسسات التي بنيت بدماء أبناء غزة وعرقهم . كما أن آخر ما تابعه بحزن عميق تعدد “الهدنات” واختراقها من قبل العدو بمبررات واهية أو بلا مبررات . ولعل الذين كانوا إلى جوار سميح القاسم قبل أن يغلق عينيه إلى الأبد، قد استمعوا إليه وهو يردد لنفسه: “يكفي ما رأيت!!” . ولم يكن يظن - مجرد ظن - أن أمته العربية ستقف من هذا العدوان الشرس والأسوأ مكتوفة الأيدي، ولا أن المجتمع الدولي سيتجاهل ما يحدث، وينشغل بموضوع “أوكرانيا” و“داعش” . ولعل أخطر ما آلمه، وهو ما آلم أصحاب الضمائر النقية، أن الدعوات التي ارتفعت من الوطن العربي ومن العالم كانت كلّها تدور حول شجب العدوان والدعوة إلى التهدئة التي تحقق للعدو ما يريده من متابعة القصف، واستمرار الحصار .
مات سميح القاسم ابن الخامسة والسبعين، وهو يمسح آخر الدموع التي تساقطت من عينيه بمناديل الكلمات التي رافقته منذ صباه ومطالع شبابه، فقد تملّكه الشعر منذ وقت مبكر، وها هو قد رافقه إلى اللحظات الأخيرة من عمره الحافل بالإبداع والدفاع عن القضية، قضية بلاده التي كانت محور كل ما كتبه من شعر باستثناءات ذاتية لا تكاد تذكر . وقد لفتت بداياته انتباه الشعراء، ومحبي الشعر في الأقطار العربية، من خلال ما كان يتسلل من قصائد شعراء المقاومة المقيمين في الأرض المحتلة، إذ كان هو ومحمود درويش وتوفيق زيّاد من أشهر تلك الأسماء . وقد تعرفت إليه شاعراً في أواخر الستينات عندما كنت طالباً في جامعة القاهرة . وعندما انتقل الشاعر الكبير محمود درويش من الأرض المحتلة، إلى بيروت كتبت قصيدة أهديتها إلى سميح أطالبه فيها بألا يبرح الأرض، وأن يظل مكانه حتى لا يبتعد الشعر عن تجسيد نبض الداخل بكل توهجه وسخونته .
وقد فوجئت به يقوم بنشر قصيدتي المهداة إليه مع مختارات من قصائدي في مجموعة شعرية طبعها ونشرها في الأرض المحتلة، وبعث لي بنسخة منها عن طريق سفير فلسطين في صنعاء . كما تحدث معي هاتفياً من القاهرة ومن لندن أكثر من مرة، وكان يحلم بزيارة صنعاء والتعرف إلى موطن أجداده القدماء، على حد تعبيره، لكن أمنية سميح لم تتحقق، فقد كان يحمل جواز سفر (إسرائيلياً) شأن كل العرب المقيمين في الأرض المحتلة . وربما كان التخلي عن هذا الجواز يعني التخلي عن الإقامة وعن رائحة الوطن وترابه، وهو ما حرص عليه طوال حياته، ولهذا السبب فقد اقتصرت زياراته خارج الأرض المحتلة على البلدان التي تعترف بالكيان الصهيوني وبجوازات السفر الصادرة عن هذا الكيان .
لن أتحدث عن سميح القاسم شاعراً مقاوماً وشاعراً مبدعاً، فلذلك مجال آخر، لكني مشدود إلى موضوع التزامن بين رحيل هذا الشاعر الكبير، وما تتعرض له غزة من حرب إبادة وخراب، وما يمكن أن يكون قد تركه هذا الواقع الجارح والفاجع في نفس شاعر على درجة عاليه من الحساسية والشعور المرهف . وربما أحس في لحظة يأس معتمة بعدم جدوى ما نهرقه من حبر، وما نبدده من كلمات لا تستطيع أن تسكت صوت الجوع في أحشاء طفل غزاوي، أو تمنع عنه رصاصة حاقدة، أو ترد عن المنزل الذي يسكن فيه قذيفة غادرة . من حقه أن ييأس من جدوى الشعر والنثر، ومن حقنا أن نشاركه في يأسه المبرر وإحباطه المميت، وإن كان الضوء الطالع من آخر النفق، حيث تصمد المقاومة، يصنع مساحة واسعة من الأمل العظيم، ويجعل الفعل كما هو في الواقع يتقدم الكلمة وينتصر لها، وللإنسان من أعداء الحياة ، وأعداء الشعوب، ولنا أن نتيقن أن وراء ليل غزة الذي هو جزء من الليل العربي، ألف شمس وشمس .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 33 / 2165777

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165777 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010