الجمعة 8 آب (أغسطس) 2014

أين الاستيطان من المفاوضات؟

الجمعة 8 آب (أغسطس) 2014 par رغيد الصلح

مثلما كانت الحرب غير متكافئة بين جيش “إسرائيل” الذي يصل تعداده إلى 1700000 جندي تحت السلاح، وبين مجموعات من المقاتلين ينتمون إلى المقاومة ولا يتجاوز عددها العشرة آلاف، كذلك فإن “الإسرائيليين” يريدون فرض مواجهة غير متكافئة بينهم وبين الجانب الفلسطيني في مفاوضات القاهرة . فهم يأتون إلى المفاوضات وفي نيتهم، كما أوضح مارك ريجيف الناطق باسم حكومة نتنياهو، المطالبة بتحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، وبنزع سلاح “حماس” بصورة خاصة، إلى جانب المطالب الأخرى التي تصل إلى حد تحويل المنظمات الفلسطينية إلى جماعات سياسية بحتة لا تملك القدرة على مقاومة الاحتلال أو التأثير فيه .
وخلافاً لهذه المقاربة التي تتناول تحديد طبيعة ودور والطاقات المتوفرة لدى الطرف الفلسطيني، فإن ما تردد حول المطالب التي سوف تطرحها الفصائل ينحصر تقريباً بإنهاء الضغوط العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يمارسها المحتل على قطاع غزة . يندرج في إطار هذه المطالب إنهاء الحصار على غزة ووضع حد للتدابير الأمنية والعسكرية ضد غزة، بما في ذلك سحب الدبابات من المناطق القريبة للقطاع وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين ووقف الهجمات الجوية والاغتيالات، أما أكثر المطالب الأخرى فإنها تتسم بالطابع الوظيفي الرامي إلى تحسين الأوضاع المعيشية لأهالي غزة .
إن التركيز على رفع المظالم التي يمارسها الاحتلال على غزة أمر لا يقبل الجدل . فقد استمرت هذه المظالم سنوات كثيرة، وتعرض القطاع وأهله إلى أنواع شتى من الحصار والتضييق . وصمد أهالي غزة صموداً أثار الإعجاب والتعاطف إبان العدوان “الإسرائيلي” الأخير . وكان العدوان موجهاً بالدرجة الأولى، رغم الادعاءات “الإسرائيلية”، ضد المدنيين، مما ضاعف من ضحاياه وأثقاله . فمن الطبيعي أن يعطي المفاوض الفلسطيني أولوية لمطالب أهالي القطاع وأن يبذل كل جهد لإنصافهم . ولكن في الوقت نفسه فإن “حماس” و“الجهاد الإسلامي” وكافة المنظمات الأخرى التي تعمل في القطاع، تعتبر نفسها مؤتمنة على القضية الفلسطينية عموماً، وتخوض من القطاع معركة تحرير فلسطين كلها . لذلك فإنه من الطبيعي ومن المناسب، وقبل أن تبرد حرارة المعركة، وقبل أن ينتقل الاهتمام الدولي والإقليمي من فلسطين إلى غيرها من الأراضي العربية أو الأجنبية، أن يتم إدراج أخطر المطالب الفلسطينية الملحة، أي مطلب وقف الاستيطان “الإسرائيلي” على أجندة المفاضات .
إن المطالبة بإدراج هذا الموضوع على أجندة المفاوضات سوف يثير بالتأكيد حفيظة المفاوض “الإسرائيلي”، فلا يغرب عن البال مدى إصرار حكومة نتنياهو على المضي في سياسة الاستيطان وصولاً إلى تحقيق “إسرائيل” الكبرى . ولا يغيب عن أحد مدى النفوذ الذي يمارسه المستوطنون في الضفة على حكومة نتنياهو، ومدى تأثيرهم في قطاع واسع من الرأي العام “الإسرائيلي” . استطراداً قد يجد البعض من رعاة المفاوضات الإقليميين والدوليين في طرح قضية الاستيطان تهوراً يهدد بتعطيل المفاوضات، وخروجاً عن الواقعية المطلوبة لإنجاح التفاوض . قد يكون في هذا الطرح بعض التصلب لولا الاعتبارات الآتية:
أولاً، إن حركة الاستيطان هي أساس في كل صراع فلسطيني - “إسرائيلي” سواء قل شأنه واقتصر على حادث عرضي وهامشي، أو كبر حجمه كما كانت الحرب الأخيرة . إن “الإسرائيليين” يقولون إن هذا الصراع الأخير بدأ عندما قام “إرهابيون” بخطف المستوطنين الثلاثة وقتلهم . في المقابل يقول الفلسطينيون، وهم على حق في ما يقولونه، إن خطف المستوطنين ما كان ليحدث لولا حركة الاستيطان ومضاعفاتها، ويقولون أيضاً إن لا شيء يؤكد أن المستوطنين الثلاثة خطفوا على يد فلسطينيين .
ثم إن الاستيطان اليوم يختلف عما كان عليه بالأمس . كانت الحكومات “الإسرائيلية” تضفي على الاستيطان شرعية كاذبة بقولها إنه من حق “الإسرائيلي” أن يقيم أينما يشاء . ولكن الاستيطان اليوم، وبعد أن بلغ عدد المستوطنين النصف مليون تقريباً خلق الحقائق الديمغرافية الكافية - من وجهة نظره طبعاً - لتهويد الضفة و“تسفير” الفلسطينيين إلى الخارج، ولإدراج كل ذلك في إطار رواية سفيهة عن “التبادل السكاني” العربي “الإسرائيلي” . كل ذلك يسلب شعب فلسطين أي حق من حقوقه التاريخية، ويقذف به مرة أخرى في التيه، ويعرضه لإذلال تاريخي ووطني قل أن عرفه أي شعب من شعوب عالمنا الراهن . فإذا لم تكن مفاوضات القاهرة مناسبة لطرح هذا الموضوع، فمتى يطرح وتفتتح ملفاته وتوضع تحت الأنوار الكاشفة؟
ثانياً، إن خطورة الاستيطان “الإسرائيلي” التي تتجاوز بكثير الاحتلال العسكري البحت، باتت موضوعاً مطروحاً في سائر محافل المجتمع الدولي . إن الخوض فيه يثيرغضبة الحكومة “الإسرائيلية” ويدفعها إلى تحريك أذرعها الدولية ضد الناقدين والمطالبين بوقف الاستيطان . ولكن هذا الإرهاب المعنوي الذي تمارسه حكومة نتنياهو والأحزاب والجماعات المشاركة فيها لم يعد كافياً لإسكات المجتمع الدولي ومنعه من التعرض إلى هذا الموضوع . وعندما نتحدث عن المجتمع الدولي، فإننا لا نقصد الدول المتعاطفة تاريخياً مع العرب والفلسطينيين فحسب، ولكن عن الدول التي تتعاطف مع “إسرائيل” أيضاً . فعندما أعلنت حكومة نتنياهو التعجيل في بناء المستوطنات رداً على قبول فلسطين عضواً في “اليونيسكو”، أعلنت دول الاتحاد الأوروبي عن “خيبة أملها العميقة” من جراء هذا العمل، واعتبرت أنه يتعارض مع مساعي السلام بين العرب و“الإسرائيليين”، وكرر الناطق بلسان البيت الأبيض الموقف نفسه تقريباً، وطالب الأمين العام للأمم المتحدة “الإسرائيليين” بتجميد أعمال الاستيطان فوراً .
لقد عولت حكومة نتنياهو على بقاء هذه المواقف في حيز الإعلانات البحتة من دون أن يتبعها أي عمل ملموس، ولكن خلال هذا العام وبعد أن استمرت “إسرائيل” بأعمال الاستيطان فإن بعض الحكومات الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إسبانيا) أخذت تفقد صبرها، كما أعلن سفير الاتحاد الأوروبي إلى “إسرائيل”، فوجهت وزارات الخارجية فيها رسائل إلى الشركات الأوروبية التي تتعاون مع الشركات “الإسرائيلية” في استغلال الضفة الغربية، تحذرها فيها من مغبة هذا العمل . علاوة على ذلك أشارت وزارات الخارجية إلى أن الحكومات المعنية لا تتحمل نتائج التعاون مع “الإسرائيليين” في مشاريع مخالفة للقوانين الدولية . وأسفرت هذه الرسائل عن تراجع عدد من أهم الشركات الأوروبية عن تعاونها مع الشركات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية .
هل تكفي هذه الإجراءات الدولية لإيقاف حركة الاستيطان؟ كلا، لا تكفي ولكنها ليست خالية من الدلالات أو من التأثير . لقد بدأ العد العكسي لنهاية حكم الأبارتايد في جنوب إفريقيا عندما انتقلت حكومات أطلسية من محاباة ذلك الحكم ومن الدفاع عنه إلى المشاركة في فرض العقوبات الاقتصادية عليه . لم تكن العقوبات كافية لتخليص البشرية من الأبارتايد في جنوب إفريقيا . العامل الأهم تمثل بالضغوط التي مارسها شعب إفريقيا الجنوبية في الداخل . هذه الضغوط التي مارسها الأفارقة في كل مناسبة وفي كل مكان من العالم، اضطرت حلفاءه في الغرب إلى التخلي عنه، وأسهمت في إحكام العزلة على النظام العنصري فذهب من دون رجعة .
هذه التجربة وغيرها من التجارب المماثلة في المنطقة العربية تحث أهل القضية على الاستفادة من كافة المناسبات ومن كل المواقع الدولية والمفاصل التاريخية من أجل تطويق نظام الأبارتايد في “إسرائيل” وإنهائه، فهل تكون مفاوضات القاهرة فصلاً من هذه الفصول؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165320

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165320 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010