الخميس 7 آب (أغسطس) 2014

دول على أريكة طبيب نفسي

الخميس 7 آب (أغسطس) 2014 par جميل مطر

قرأت تصريحاً لديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا عن أحداث غزة، فكان طبيعياً ومعتاداً أن تثار مشاعر كثيرة في داخلي . أثيرت وتداخلت وكان أبرزها قرف وغضب ورغبة في شماتة ولو مسحة منها . ازداد القرف والغضب عندما قارنت ما صرح به وبخاصة رده على زعيم المعارضة إيد ميليباند بمواقف وتصريحات رؤساء حكومات في بوليفيا وفنزويلا والبرازيل والارجنتين وشيلي وغيرها . تدلنا الخبرة التاريخية على أن بعض زعماء الغرب وربما منهم كاميرون ونتنياهو وقادة في الكونغرس الأمريكي عادوا ينظرون إلى كثير من حكام الدول الفقيرة والملونة نظرة استعلاء عنصري .
لم يخفف من مشاعر القرف والغضب حقيقة مدوية وهي أن بعض العرب، لم يتخذوا مواقف أفضل كثيراً من موقف كاميرون وباراك أوباما وأولاند وهم من أبرز زعماء العالم الحر ومن دعاة احترام حقوق الإنسان وحماية النساء والأطفال في أوقات الأزمات والحروب .
تفهمت بالألم الشديد بعض المواقف العربية من حرب غزة، ولكنني لم أتفهم إطلاقاً مواقف كاميرون وأوباما وأولاند، دعاة الحرية والعدالة والتقدم .
لم يسأل حكام كثيرون أنفسهم عن ذنب شعب غزة حتى إن كرهوا حكومته وأرادوا لها الهزيمة . لم يفكروا طويلا لأنهم اصطنعوا الاعتقاد بأن شعب غزة توحد مع حكومته كما “توحدت” شعوبهم معهم . حرصوا حرصاً متناهياً على أن يسارعوا بإعادة توجيه الانتقادات لسياساتهم لتصب كراهية متبادلة بين الشعوب، بعد أن يكون الإعلام الرديء قد نجح في تصوير الأخطاء التي يرتكبونها أوزارا تتحملها الشعوب .
اللورد كاميرون ليس استثناء . ولن يبرد من ثورة غضبي عليه ما أعلمه من أنه ومستقبل بلاده في حال لا يحسدان عليها . تذكرت مقالاً في صحيفة أمريكية، نشر قبل شهر أو أكثر، يصف فيه كاتبه بريطانيا كمريض مستلق على أريكة في عيادة طبيب نفساني . الحالة مستعصية، كما يبدو على سمات المريض ورد فعل الطبيب، فالمريض يعاني “أزمة هوية حادة”، تسببت في انهيار عصبي شديد . ظهر أخطر عرض من أعراض هذه الحالة عندما أعلن أليكس سالموند، رئيس الحزب القومي الاسكتلندي، صاحب الأغلبية في البرلمان المحلي في عام 2011 عن نية حكومته إجراء استفتاء في عام 2014 للشعب الاسكتلندي على مشروع الانفصال عن المملكة المتحدة وإعلان استقلال اسكتلندا دولة أوروبية حرة .
كان للإعلان في وقتها دلالة، بل دلالات كثيرة مهمة، كما كان لتحديد تاريخ الاستفتاء سنة 2014 مغزى كبير . ففي هذا العام يحتفل الشعب الاسكتلندي بالذكرى السبعمئة لانتصار عسكري تحقق بقيادة البطل الاسكتلندي روبرت ذا بروس، على جيش إدوارد الثاني ملك إنجلترا . بمعنى آخر، استمر العنصر القومي في العلاقة بين اسكتلندا وإنجلترا حياً وفاعلاً لأكثر من سبعة قرون، وها هو الآن يقرر من جديد مصير المملكة المتحدة كدولة متعددة الكيانات . الشعوب أحياناً تعود إلى الماضي، تحن إلى أمجادها وتفضلها على نعم أخرى مادية ومعنوية .
لا شماتة . صحيح أن عدداً متزايداً من دول العالم العربي يتعرض الآن لأزمات هوية متعددة، ففي كل دولة عربية شجرة أزمات مستمرة النمو . صحيح أيضا أن أعراض بعض هذه الأزمات حرجة إلى درجة تكاد تهدد وجود دول وتثير في دول أخرى انهيارات عصبية وتشنجات هوية لا تنقطع . إلا أنه يبقى صحيحاً أيضاً أن الداء يتطور أو يتدهور بسرعة ليصير وباء، لا يميز بين دول نامية ودول متقدمة، أو بين شرق وغرب، أو بين شمال وجنوب . هناك أزمات هوية، بعضها شديد التعقيد، وبعضها شديد الالتهاب، يكاد لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات .
لا شك عندي أن الاستفتاء المزمع إجراؤه في اسكتلندا بعد نحو 40 يوماً، يؤكد في حد ذاته ودون انتظار لنتائجه، عمق أزمة الهوية في بريطانيا . وهو على حال ليس العارض الوحيد، إذ واجهت بريطانيا أزمة هوية اخرى مع الاتحاد الأوروبي على امتداد عضويتها فيه . والآن يضيف اللورد كاميرون تعقيداً إضافياً عندما يعلن نيته إجراء استفتاء على استمرار عضوية بريطانيا في الاتحاد . إذا لم يلب الاتحاد شروط بريطانيا، وأهمها ضرورة إبطاء مسيرة الوحدة الأوروبية ووقف القيود على سيادة وسلطات الدول الأعضاء لمصلحة سلطة المفوضية في بروكسل .
من ناحية ثالثة استمرت مكانة بريطانيا الدولية تتعرض للانحسار المتوالي مرة بعد مرة . بدأت مراحل الانحسار مع مطلع القرن العشرين والحرب العالمية الأولى، وعالجتها بريطانيا بالاعتماد شبه المطلق على صعود الولايات المتحدة وقوتها ومكانتها، واستطاعت بناء علاقة خاصة بين الدولتين صمدت في وجه النازيين والفاشيين والشيوعيين على امتداد القرن العشرين . المهم في هذا التاريخ الوجيز لانحسار بريطانيا هو أن البريطانيين يشعرون الآن بأنهم يفقدون هذه العلاقة الخاصة التي أمنت لهم مستقبلهم ونموهم الاقتصادي . كانت هذه العلاقة الخاصة جدا آخر ما تبقى لهم من التراث الإمبريالي، إلى حد أن سياسيين بريطانيين لا يخفون الآن قناعتهم أن الصين صارت أهم لأمريكا من بريطانيا كشريك في القيادة .
من ناحية رابعة، لم تقتصر أزمة الهوية المتفاقمة على صعود الروح القومية في اسكتلندا وويلز . تفاقمت لأسباب عديدة مثل ظروف العولمة والتوجه المتصاعد نحو اليمين في سياسات حكومات المملكة المتحدة خلال الأربعين عاماً الماضية، وهو التوجه المتناقض تاريخياً وسياسياً مع المزاج الليبرالي، واليساري أحياناً، للشعب الاسكتلندي . تفاقمت أيضاً حين أصبح هناك في بريطانيا البريطاني الأسود والبريطاني المسلم والبريطاني شرق الأوروبي والبريطاني الهندي . تغيرت بريطانيا مكانة وعقيدة اجتماعية واقتصادية وتغيرت شكلاً وسحنة ولوناً .
لم تكن هذه التحولات غائبة عن النخبة البريطانية الحاكمة . حاولت وبذلت جهوداً كبيرة وتدخلت لإعادة توازن القوى إلى القارة الأوروبية لمصلحتها . امتنعت في حين أو آخر عن مسايرة السياسة الخارجية الأمريكية بحذافيرها، وحاولت الاحتفاظ لنفسها بهامش من حرية القرار في السياسة الدولية، بل راح كاميرون نفسه يدعو إلى إنعاش منظومة “القيم البريطانية” دون أن يعرف تماماً ما يعنيه بالقيم البريطانية، تحدث مثلاً عن الماجنا كارتا كوثيقة تاريخية تجسد هذه القيم، وعندما سئل عن معناها الحرفي اتضح أنه لا يعرف . راحوا أيضاً في لندن يبرزون دور رموز التاج البريطاني مثل الجيش بإشراكه في الاحتفالات القومية وإنعاش الذاكرات التاريخية عن الأمجاد الإمبراطورية .
لا شيء يؤكد أن الاسكتلنديين سوف يقررون يوم 18 سبتمبر المقبل استقلالهم عن المملكة المتحدة، فالناس هناك مازالت حائرة تتنازعها عناصر العاطفة والمنطق . نصف سكان اسكتلندا يعتقدون أنهم سوف يكونون أسعد حالاً إذا وقع الطلاق بينهم والتاج البريطاني . يعتقدون أيضاً أنهم أقرب مزاجاً ورفاهة من الشعوب الاسكندنافية منهم إلى شعب إنجلترا وغيره من شعوب وسط وجنوب أوروبا . آخرون يعرفون عن ثقة أن الاتحاد الأوروبي لن يوافق على انضمامهم قبل مضي وقت طويل، ويدركون تماماً أن أمريكا لن ترحب بانفصالهم والصين رفضت تشجيعهم وألمانيا لا تريد للانفصال أن يقع . أتصور أن ألمانيا لا تتمنى أن ترى بريطانيا أضعف مما هي عليه الآن، فضعفها الحالي صار ملموساً ومؤثراً على نظام توازن القوى الأوروبي، وعلى موقع ألمانيا فيه .
أكاد ألمس تفاصيل وثنايا أزمة الهوية البريطانية في كل مرة أسمع فيها أو أرى طوني بلير . أسمعه مدافعاً عن دوره في حرب العراق ومتبرئاً من الأذى الأخلاقي المريع الذي لحق بسببه بمكانة بريطانيا في العالم . وأراه متنقلاً بين بلاد العالم من دون أي سبب شريف أو مبرر منطقي . أتصوره أحياناً تجسيداً صاعقاً لصورة التصقت بمخيلتنا العربية عن شخص المستعمر البريطاني الذي بفضله المتناغم مع فضل بعض قياداتنا وصلنا إلى ما نحن فيه .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2178056

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178056 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 9


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40