الجمعة 1 آب (أغسطس) 2014

العدوان على غزة بلغة الأوروبيين

الجمعة 1 آب (أغسطس) 2014 par رغيد الصلح

اعتاد الكثيرون من ناقدي الصهيونية و“إسرائيل” أن يحذروا المجتمع الدولي من هولوكوست قادم إذا لم تتغير سياسة حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والإنسانية، وإذا لم تتغير سياسة معاداة العرب . ولقد دأب الزعماء “الإسرائيليون” على وصف هذه التحذيرات بأنها ضرب من ضروب اللاسامية والعداء لليهود، وعلى التأكيد بأن وجود “إسرائيل” سوف يشكل الجدار الواقي ضد تكرار المحرقة . ولكن عندما ترددت هذه التحذيرات خلال جلسة خاصة عقدتها لجنة شؤون الهجرة والشتات التابعة للكنيست “الإسرائيلي”، لم يستطع النواب “الإسرائيليون” الأعضاء في اللجنة والمؤيدون لحكومة نتنياهو إسكات أصحابها واتهامهم باللاسامية . فالذين أعربوا عن هذه المخاوف هم أعضاء في البرلمانات الأخرى من المتعاطفين مع “إسرائيل” وأكثرهم من اليهود الذين جاؤوا إليها لكي يعبروا عن تأييدهم لها ضد الفلسطينيين والعرب . بالعكس، ذهب البعض من المسؤولين “الإسرائيليين” إلى أبعد مما جاء به الوافدون من الخارج . وكان الأكثر وضوحاً على هذا الصعيد رئيس المؤتمر “الإسرائيلي” اليهودي الذي قال في اجتماع اللجنة إنه منذ المحرقة لم تمر بالعالم مشاهد شبيهة بما يحدث اليوم من تظاهرات حاشدة تتسم “باللاسامية”، وأننا نقف اليوم على عتبة محرقة جديدة .
تتردد اليوم هذه التحذيرات والمخاوف على ألسنة زعماء “إسرائيليين” وغير “إسرائيليين” مؤيدين للصهيونية في معرض بحث العلاقات الأوروبية-“الإسرائيلية” . ولقد دأب “الإسرائيليون” على تعليل الانتقادات الموجهة إلى “إسرائيل”، كما هو الحال إبان العدوان على غزة، بأنها تعبير عن نزعة العداء لليهود، الصريحة أو المستترة، المنتشرة بين الأوروبيين، وأن هذه الانتقادات لا علاقة لها بسياسة “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين أو بجرائم الحرب التي يرتكبها الجيش “الإسرائيلي” . كذلك يعزو الزعماء “الإسرائيليون” تفاقم الانتقادات الأوروبية الموجهة إلى “إسرائيل” إلى الارتفاع المستمر في عدد المهاجرين العرب إلى القارة الأوروبية وبتزايد تأثير الوجود العربي البشري في أوروبا في السياسة التي تتبعها الدول الأوروبية تجاه الصراع العربي-“الإسرائيلي” . فالسياسيون الأوروبيون يحابون العرب الأوروبيين بسكوتهم عن تفشي اللاسامية . فهل تطابق هذه التفسيرات حقيقة المواقف الأوروبية تجاه قضية الشرق الأوسط، وهل تلقي ضوءاً كاشفاً على حوافز السياسات الأوروبية تجاه “إسرائيل”؟
إن الربط بين اللاسامية، من جهة، وبين الموقف الناقد ل“إسرائيل”، من جهة أخرى يصح في تفسير موقف نسبة ضئيلة من مناهضي الصهيونية و“إسرائيل” . أي أنه هناك عدد قليل من اللاساميين الذين يعادون “إسرائيل” بسبب موقفهم من اليهود عموماً . إلا أنه مقابل هؤلاء، يوجد عدد مرموق من السياسيين والشخصيات والجماعات اليهودية الأوروبية التي دأبت على نقد السياسة “الإسرائيلية” مثل برونو كرايسكي، المستشار النمساوي خلال السبعينات إلى درجة أن الصهاينة لم يتورعوا عن وصفه “بكاره نفسه”، لأنه لم ينتقد “إسرائيل” فحسب، بل انتقد الصهيونية أيضاً وبيير مندس فرانس، رئيس الحكومة الفرنسي خلال الخمسينات، الذي أثارت مواقفه الإيجابية من الفلسطينيين حفيظة الصهاينة . ومقابل اللاساميين المعادين ل“إسرائيل” ولليهودية معاً، يبرز موقف الأوروبيين اللاساميين الذين ساندوا الحركة الصهيونية وساعدوها على تحقيق أهدافها .
كذلك يأتي بين هؤلاء من يقف في أقصى اليمين مثل النازيين الذين تعاونوا مع الصهاينة على تسفير يهود ألمان إلى فلسطين، والإيطاليين الفاشست الذين احتضنوا لسنوات أنصار الزعيم الصهيوني فلاديمير جابوتنسكي . كذلك يأتي من بين هؤلاء أيضاً زعماء من اليمين واليسار مثل بلفور صاحب الوعد الشهير إلى الحركة الصهيونية، وونستون تشرشل الذي كان نصيراً متحمساً للصهيونية وساعد على تكوين جيش يهودي قاتل مع الحلفاء ثم تحوّل فيما بعد إلى نواة للجيش “الإسرائيلي”، ولكن تشرشل لم يكن بعيداً عن النزعة اللاسامية كما يقول ريتشارد توي، أستاذ التاريخ في جامعة اكستر البريطانية، في كتابه بعنوان “لويد جورج وتشرشل” .
ما عدا هؤلاء فإن الأكثرية من الأوروبيين ينتقدون “إسرائيل” للأسباب نفسها التي حملت الرأي العام الأوروبي على انتقاد نظام الأبارتايد في دولة جنوب إفريقيا، وللأسباب نفسها التي جعلت أكثرية الرأي العام الفرنسي تطالب بإعطاء الجزائر استقلالها وللاعتبارات نفسها التي جعلت أكثرية البريطانيين يعارضون حرب السويس خلال الخمسينات وحرب العراق خلال التسعينات والعقد السابق . فالإمبريالية تخدم مصالح البعض ولكن كلفتها المادية والبشرية والأخلاقية باهظة عند الآخرين، وإذا بات الأوروبيون يتلكأون في دفع هذه الكلفة من أجل إحياء الإمبريالية الأوروبية، فلماذا يقبلون بنمط جديد من الإمبريالية تذهب مغانمها إلى الصهيونية، أما غرمها فيتحمله الأوروبي؟
وكما توجد علاقة بين اللاسامية واشتداد النقد الأوروبي ل“إسرائيل”، ولكنها غير العلاقة التي يتصورها الزعماء “الإسرائيليون”، فإنه توجد علاقة أيضاً بين تنامي الوجود العربي في أوروبا وتحوّل قسم كبير من الرأي العام الأوروبي من مظاهرة “إسرائيل” إلى نقدها وإدانة أعمالها . فلقد كان عدد اليهود في أوروبا ما يفوق الثمانية ملايين قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن هذا العدد انحسر إلى الآن إلى ما يقارب المليون وثلاثمئة ألف يهودي حسب تقدير مجلة الايكونوميست الإنجليزية (28/07/2014) . وهذا الانحسار في العدد لايحسب بالديمغرافيا فحسب وإنما بالسياسة وبالحسابات السياسية والانتخابية ويترجم إلى تراجع في نفوذ الصهيونية التي ترتكز على قاعدتها بين اليهود، أو بالأحرى أقلية منهم تؤيد “إسرائيل” تأييداً مطلقاً . كما يحسب أيضاً بالمعايير الأخلاقية إذ أصبح الرأي العام الأوروبي، بسبب تنامي الوجود العربي في أوروبا وبسبب الثورة في تكنولوجيا الإعلام والاتصالات أكثر اطلاعاً على مجريات الصراع العربي-“الإسرائيلي”، وعلى جرائم الحرب التي يرتكبها “الإسرائيليون” ضد الفلسطينيين والعرب .
بالمقارنة بين غلاة المتعاطفين مع “إسرائيل” بين اليهود الأوروبيين والعرب، فإن الإحصاءات تقول إنه يوجد في فرنسا وحدها ما يقارب الأربعة ملايين من العرب، وإن هذا العدد ينمو باستمرار بحكم التوالد أو الهجرة الشرعية وغير الشرعية . هذه الحسابات جعلت الكاتبة بات يور تضع كتاباً بعنوان “يوريبيا: أرض الإسلام الغرض من هذه الحسابات الديمغرافية هو تحريضي بحت ضد العرب الأوروبيين . فباستثناء يور، لم تتوقع أية جهة عاقلة أن تتحول فرنسا إلى بلد عربي، ولا أن تتعرب أو تتأسلم القارة الأوروبية . ولكن من حق زعماء أوروبا العاقلين، بل من واجبهم، أن يأخذوا بعين الاعتبار العدد النامي من العرب الأوروبيين، وأن يعاملوا هذا”الآخر“وفقاً لمعايير الحرية والمساواة والإخاء، وأن يسهلوا له التحوّل إلى جسر بشري للتعاون والتفاعل الخلاق بين أضلع المتوسط الثلاثة شمالاً وشرقاً وجنوباً . هذا التعاون لا ينتهي في”إسرائيل" ولا يبدأ بها ولا هو في حاجة إلى أن يمر بها .
يستجيب هذا الجسر إلى قيم عربية وأوروبية، وتستجيب المواقف الأوروبية الناقدة والمناهضة للعدوان “الإسرائيلي” على غزه إلى تعاليم الشرعية الدولية، وتستجيب هذه المواقف المشتركة العربية والأوروبية، إذا خرجت إلى النور، إلى مصالح وتطلعات الفريقين . وخلافاً لما يروجه الصهاينة، كما كان النازيون يروجون في الماضي، فإن العدوانية “الإسرائيلية” لن توفر مظلة أمان لأحد . الذي يوفر الأمان لليهود هو تحريرهم من سيطرة الصهيونية كما تحرر الألمان من النازيين والإيطاليين من الفاشيست والأفارقة من نظام الأبارتايد في جنوب إفريقيا وناميبيا وزيمبابوي، ولكي يتحرروا من الخوف ومن المغامرات التي تقودهم إليها الصهيونية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2180708

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2180708 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40