الجمعة 25 تموز (يوليو) 2014

الغيتو الصهيوني العالمي في فلسطين

الجمعة 25 تموز (يوليو) 2014 par رغيد الصلح

قدم رون بروزور السفير “الإسرائيلي” قبل أشهر قليلة احتجاجاً عنيفاً ضد تقرير التكامل الإقليمي العربي الذي أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة في مطلع هذا العام . وقد ادعى السفير “الإسرائيلي” في رسالته التي بعث بها إلى الأمين العام للمنظمة الدولية أن التقرير اصطبغ باللاسامية عندما قال إن هتلر أرسل اليهود الألمان إلى ملاذ آمن في فلسطين . والحقيقة أن التقرير لم يقل هذا بالمرة، بل قال إن الصهيونية والنازية تعاونتا على تسفير اليهود الألمان إلى فلسطين . الفرق بين القولين شاسع . فهتلر لم يكن يهمه أمن اليهود وسلامتهم . كان همه الأساسي كعنصري ومعاد للسامية إخراجهم من ألمانيا ومن أوروبا كلها تطبيقاً لفكره النقاء الأوروبي العنصري . بالمقارنة، كان هم الصهيونية الأساسي هو تسفير اليهود من كل أنحاء العالم إلى فلسطين من أجل إقامة كيان استعماري استيطاني لليهود فيها . استطراداً تصورت المنظمات الصهيونية أنه من الممكن التفاهم والتعاون بين حركتين: واحدة تزعم أنها تملك خلاص اليهود عن طريق تحويلهم إلى أمة مستعمرة، وأخرى تعمل على الخلاص منهم!
ارتكب الصهاينة جريمة كبرى بحق اليهود لأنهم تعاونوا مع هتلر سنوات عدة، مع أن عمق العداء النازي لليهود لم يكن سراً، فساهموا في استقرار نظامه وبالتالي في تمكينه من تنفيذ أعمال الإبادة التي نظمها ضد اليهود وضد غيرهم من الجماعات البشرية . لم يعترف الصهاينة حتى هذا التاريخ بهذه الجريمة، ولا قدموا اعتذاراً إلى اليهود لأنهم ارتكبوها، ولا قدموا اعتذاراً إلى الشعوب التي عانت الهتلرية لقيامهم بدور المتعاونين مع هتلر ومع النازية . تعاونهم مع هتلر لم يكن أقل خطورة من تعاون بيتان وحكومة فيشي مع النازيين .
الذين يبررون للصهيونية أفعالها يقولون إن قادتها لم يكونوا يجهلون أن هتلر معاد للصهيونية، ولكنهم لم يتخيلوا أنه سوف يصل في إجرامه إلى حد الأمر بتنفيذ المحرقة . فضلاً عن ذلك، يحاول التبريريون تصوير هذا التعاون بأنه كان سقطة تاريخية فرضتها ظروف قاهرة، وأنها كانت محدودة الأفق، استثنائية الطابع ومؤقته . فالتباعد، بل التضاد في النظرة إلى اليهود كان يملي على الطرفين إبقاء ذلك الاتفاق في حدوده المادية والزمنية الضيقة وألا يحمل أكثر من معناه المباشر . ولكن هذه التبريرات لم تطابق الحقائق التاريخية، فالمنظمات الصهيونية هي التي سعت إلى الاتفاق واستندت في موقفها هذا إلى “التطابق بين القيم التي يعتنقها الطرفان”، وهي التي رغبت في استمراره إلى أبعد مدى زمني ممكن . الأهم من ذلك أن الصلة التي عقدتها مع النازيين لم تكن استثناء، بل كانت معبراً عن نهج متكرر من التعاون والتقارب بين الصهيونية واللاساميين الأوروبيين .
هذا النهج بدأ قبل ظهور النازية والمحرقة، واستمر خلالها كما استمر التعاون بين الصهاينة واللاسامية النازية، وبقي بعدها حتى اليوم حيث نرى اليمين المتطرف يتعاون مع الصهيونية فيعمل الاثنان مع من أجل تخليص أوروبا والغرب من “الخطر العربي- الإسلامي” . وقد أدى نهج التعاون بين الصهاينة واللاساميين إلى انشقاق بين اليهود الأوروبيين وإلى ظهور تيارين رئيسيين بينهم . التيار الأول، هو التيار الصهيوني الذي دعا إلى قيام كيان سياسي صهيوني في فلسطين، والتيار الثاني هو الاندماجي الذي كان يسعى إلى ترسيخ حقوق المواطنة لليهود في الدول حيث يوجد مواطنون يهود .
التيار الاندماجي الذي مثله في بريطانيا الوزير ادوين مونيتغيو في حكومة لويد جورج خلال محادثات السلام التي تلت الحرب الكبرى اعتبر أن واجب اليهود هو الالتزام بالمصالح القومية للبلد الذي ينتمون إليه وأن يمحضوا هذا البلد ولاءهم من دون تردد . من هذا المنطلق، عارض مونتيغيو بشدة وعد بلفور ورفض سياسة بريطانيا ووصفها بأنها تستهدف إقامة “غيتو عالمي في فلسطين” . بالمقابل كان هذا التيار ينطلق من أن المشكلة الرئيسية التي ينبغي لليهود أن يتصدوا لها تتلخص في التمييز بين اليهود وغيرهم الذي يمارسه العنصريون، وفي تفشي داء اللاسامية في أوساط أوروبية متنوعة . معالجة هذه المشكلة اقتضت وضع برنامج من أجل تحرير اليهود من الدونية ومن أوضاع المواطنين من الدرجة الثانية، أي تحقيق المساواة التامة بينهم ومعاملة اليهودي كمواطن حر ذي حقوق كاملة غير منقوصة كما ينص عليها القانون .
وتحقيقاً لهذه الغاية انضم اليهود الاندماجيون إلى المنظمات التي تعمل على تحقيق المساواة، وساهموا في نشر المبادئ الليبرالية التي تشدد على حقوق الأفراد خاصة على الحريات الفردية . وكان من المحتم أن يقف هؤلاء اليهود على طرف نقيض من الجماعات العنصرية التي كانت تميز بين المواطنين على أساس الدين أو العنصر . من هذه الناحية كانت المسألة اليهودية تسبب إحراجاً لبعض الجماعات التي كانت تسعى إلى الإفادة من مزايا النظام والأفكار الليبرالية ولكنها كانت، تمارس التمييز الديني والعنصري . فأين كان الصهاينة من هذه الصراعات؟
تمثل التيار الصهيوني في بريطانيا بحاييم وايزمان البيلوروسي الأصل الذي تمكن من عقد صلات قوية مع بعض الزعماء البريطانيين، خاصة أن المشروع الصهيوني الذي كان يسعى إلى تحقيقه تضمن مخرجاً مناسباً لعقدة التناقض بين المعتقدات الليبرالية والعنصرية . فبإرسال اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، تخلو الساحة الأوروبية من “الآخر” اليهودي وتتوفر الظروف الأفضل لتطبيق النقاء القومي/الديني في دول أوروبا وبين اليهود في فلسطين . لقد قدم المشروع الصهيوني حلاً للجماعات والقيادات الأوروبية التي كانت تعتنق نمطاً مرائياً من الليبرالية، إذ تعهدت بإراحتها من مشكلة اليهود ومن وجودهم أصلاً على المسرح الأوروبي، فهل قدمت الصهيونية حلاً لليهود أنفسهم؟
تنطوي التنبؤات التي جاءت في مذكرة قدمها اليهود الاندماجيون إلى مؤتمر للحوار بينهم وبين الصهاينة نظم في لندن على جواب عن هذا السؤال، إذ تضمنت ما يلي:
إذا طبق المشروع الصهيوني فإنه لن يؤدي إلى شحذ المصاعب التي يلاقيها اليهود الذين يعانون الاضطهاد، ولن يهدد الحريات التي حصل عليها اليهود في كافة أنحاء العالم فحسب، ولكن في فلسطين نفسها سوف يحول الدولة اليهودية القائمة على تشوهات دينية ومدنية قروسطية، إلى دولة غير قابلة للاستمرار، وسوف يجر على اليهود وعلى اليهودية الملامة التي لا تنقطع . وكيف تكون شيئا آخر وقد نشأت على أساس قومية سياسية ترتكز على التعصب الديني والعنصرية، وهذا هو المعنى الوحيد للقومية اليهودية .
ما يجري في غزة اليوم يؤكد صواب هذه التوقعات ودقتها . ولا يحتاج المرء إلى تفكير متواصل وعلم غزير حتى يصل إلى هذه الاستنتاجات . إن الكيان العبري لا يملك ما يمنحه لليهود إلا المزيد من الأخطار والمتاعب، ولا يملك ما يعرضه على العرب إلا الفائض من القتل والدمار، ولا يملك ما يهديه إلى الإنسانية إلا مشاهد العدوان والإجرام .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165358

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165358 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010