ما من شيء يغيظ غزة أكثر من هؤلاء الذين تنتسب إليهم، ويدَّعون أنها لهم وهم منها، لكنهم المكتفون الآن بدور المتفرج على ملحمة صمودها وفدائية مواجهتها الراهنة لعدوها وعدوهم، والمنهمكون منذ أيام في تعداد ما يطلق من صواريخ مقاومتها ومستجد مسمياتها وقياسات المدى الذي بلغته استهدافاتها… وما من شيء يقهر القدس أكثر من قومها المكتفين بالترحُّم على أطفالها الذين يحرقون أحياء، أو يحصون المعتاد من المرات التي تهدم فيها بيوتها والمرات التي ينتهك فيها الغزاة ساحات أقصاها ويدوسون على قداستها ويريقون دماء وكرامة مصليها… ولا شيء تزدريه الخليل أكثر من أولئك الذين قد نسوا ما حل بحرمها الإبراهيمي المقسَّم، ولا يتذكَّرونها إلا حين يُفقد مستعمر في أنحائها أو ترتفع وتيرة استباحتها انتقامًا من إبائها وملاحقةً لفدائية مقاومتها… وما ينطبق على غزة والقدس والخليل هو عينه المنطبق على نابلس وجنين وطول كرم والناصرة وعكا وأم الفحم والنقب…
…لطالما ناشدت غزة قومها حقها في نصرتهم لها، ولطالما أسمعتهم، “أريد سيوفكم لا دعاءكم”، وأقله، أن تكفوا عن مشاركة عدوي في حصاري وتجويع أطفالي، ولا من مجيب. وكم تحس غزة بمهانة الاستفراد المديد بها أكثر فأكثر منه حين ترى أشقاءها قد توزَّعوا، ما بين المشيح عن بلواها، والمكتفي بهجاء عدوها، أو المانُّ عليها بمكرمة العودة للتوسط بينها وبين جلَّادها… ولطالما استغاثت القدس بنخوة معتصميهم فلم تجدها إذ لم تجد معتصمًا بينهم، وكم كبَّر خطباء أقصاهم وثالث شريف حرميهم مستجيرًا بإسلامهم فلم يجده إذ لم يجدهم، ولطالما تضرَّجت سفوح جبل الخليل الأشم بدمها ولا من من مغيث لها ولا من مجير…
…واليوم، إذ تواجه غزة بصدرها متسربلةً بدمها ومتدرعةً بإرادتها الحرب الهمجية المشنونة عليها لهبًا وحصارًا، وتهب القدس والخليل والناصرة وباقي شقيقاتهن في وجه الوحشية الغازية الغاصبة المنفلتة، فلا من شيء يغيظهن ويقهرهن ومدعاةً لازدرائهن أكثر من أن لا يسمعن صدىً من حولهن لهذا الذي هن فيه أكثر مما أثاره راهنهن من لغط… أو اندلعت الانتفاضة الثالثة أم لم تندلع بعد أو متى يكون هذا الاندلاع أو المراهنة على اقتربه أو ترجيحًا لتأجيله، وتحديدًا ما يسمعنه من أولئك المنتظرين أن يعوِّض لهم الفلسطينيون وحدهم والمستفرد بهم عن معيب قصورهم وما يداري عورة عجزهم وشنيع قعودهم عن نصرة قضية قضاياهم والبوصلة التي تختزل التأشير على أن تكون هذه الأمة أو لن تكون… طبعًا نحن هنا لسنا في وارد التعرض لسواهم من الآخرين الذين إما هم تواطأوا فصمتوا، أو ممن أشاحوا الوجه واستراحوا، أو من لجأوا إلى اللامبالاة المشينة وركنوا إليها، أو كانوا كما كانت، أو ما اعتدناه منها وستظل فيه، تلك المرحومة غير المأسوف عليها جامعة نبيل العربي، فهؤلاء جميعا” باتوا موضوعيًّا في المقلب الآخر وأصبحوا بالنسبة لمصيرية مثل هذه اللحظة خارج كل حساب….
تعيد غزة ما قالته وتقوله معها كل أخواتها من النهر إلى البحر، موجِّهةً إياه لأولئك الذين يكتفون بإحصاء عدد صواريخ مقاومتها، التي لم توفر تل أبيب ووصلت إلى حيفا وبئر السبع وزارت ديمونة وعرَّجت على القدس، أو من ديدنهم متابعة مؤشر بورصة جرائم الصهاينة، فيحصون ارتفاعًا فيه على مدار الساعة لعدد من يترجل من الشهداء أو يسقط من الجرحى أو يحل أسيرًا في معتقلات الاحتلال أو منسوب ما قد دُمِّر من البنى والممتلكات، ولا ينفكون ينهالون على الغزاة الآثمين هجاءً… يقلن ويعدن لهم: نريد “سيوفكم لا دعاءكم”…
…ويقلن أيضًا لمنتظري الانتفاضة الثالثة: نعم، لقد رفعت القدس شعار “طفح الكيل”، ليتردد صداه في الضفة الأسيرة، وغزة المحاصرة التي تقاوم وتجوع ولا تأكل بثدييها، والجليل الذي هب والنقب الذي يغلي، أي أن هذه الانتفاضة قادمة قادمة لا ريب، إن آجلًا أو عاجلًا، لكنما، هي وإن توفرت كل الشروط الموضوعية لاندلاعها، فإنه ما زال هناك من العوامل ما يحول دونه، أو يؤجل استحقاقه، أو ما بات يعيقه. وأولها، غياب المشروع الوطني المقاوم المجمع عليه من كافة مناضلي الساحة. وثانيها، انعدام النصير والظهير والمؤازر على الصعيد القومي، هذا الغياب المتأتي عن واقع رسمي هو الأردأ، أو ما نجم عنه من تغييب هو الأقرب إلى الغيبوبة لأمة بكاملها، وفي لحظة هي الأسوأ في تاريخها، بل ولأكثر تحديًا لوجودها وكينونتها برمتهما. وثالثة أثافيها، هو المتمثل في سلطة أوسلوستان، هذه التي لا دور لها سوى كبح مقاومة شعبها بالتنسيق، بل التعاون، الأمني مع عدوه، وموالاة الاستماتة لتأبيد خيارها التفاوضي الانهزامي التصفوي… هذه السلطة التي قامت أصلًا إثر تضحية من تنازلوا عن 78% من فلسطين ليقيموا مسخها وتحت الاحتلال بالانتفاضة الأولى، واستمرت قائمة بفضل غدرهم بالثانية، ولا يرون في هذه الثالثة المنتظرة إلا نهايةً ودفن لها ومعها كارثية نهجهم وعبثية خيارهم التفاوضي.
…لن يكون عدوان “الجرف الصامد” على غزة آخر حروبهم البربرية المستمرة على المقاومة الفلسطينية فيها وفي كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، ولن يتوقف سيل الدم الفلسطيني المسفوح، أو تقوم لهذه الأمة من محيطها إلى خليجها قائمة، ما دام مثل هذا العدو قائم بين ظهرانيها… وعلينا أن لا ننسى: أن كل قطرة دم فلسطينية يسفكها الصهاينة يشاركهم الغرب وما لدى هذه الأمة من امتداداته في سفكها…
السبت 12 تموز (يوليو) 2014
“طفح الكيل”…ولكن؟!
السبت 12 تموز (يوليو) 2014
par
عبداللطيف مهنا
مقالات هذا المؤلف
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
29 /
2165294
ar أقسام منوعات الكلمة الحرة كتّاب إلى الموقف عبداللطيف مهنا ? | OPML ?
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
27 من الزوار الآن
2165294 مشتركو الموقف شكراVisiteurs connectés : 27