الخميس 10 تموز (يوليو) 2014

فلسطين تعود بمقاومتها إلى الواجهة فتربك «إسرائيل» ودعاة التصفية

الخميس 10 تموز (يوليو) 2014 par د. أمين محمد حطيط

لم تنطلق شرارة «الحريق العربي» المسمّى زوراً ربيعاً إلاّ لأجل تصفية القضية الفلسطينية، خدمة لـ«إسرائيل» والمشروع الصهيو ـ أميركي. ورغم أننا لا نغفل مطلقاً حاجة هذا الشعب العربي أو ذاك إلى تطوير دولته وحقه، بل واجبه في السعي الى ذلك، لا يسعنا على الإطلاق تقبّل فكرة هدم الدولة وتشريد أبنائها وتشتيت قدراتهم بذريعة التطوير، فالإصلاح والتطوير هما عمل تراكمي ممنهج ينطلق من الواقع فيحفظ ما فيه من إيجابيات وينظر الى المستقبل ويخطط للانتقال إليه بالتخلي عن سلبيات الحاضر، وهذا لم يحصل في أي بلد من البلدان التي اقتحمتها نيران «الحريق العربي»، بل كان العنف والإرهاب سيّدي ميادينهم وتكاد البحرين وحدها تحتضن حركة شعبية إصلاحية لم تنزلق إلى هذا الواقع.

كانت القضية الفلسطينية الهدف الاستراتيجي الحقيقي لذاك الحريق الذي جعل الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين مادة تلقى للنيران المؤجّجة التي وفّر العرب والمسلمون وقودها من إنسانهم ومالهم وبنيانهم، كذلك أحكام دينهم بعد تحريفها وتزويرها لجعلها في خدمة المحرقة الهائلة التي تضرم بيد غربية صهيو ـ أميركية.

حقق «الحريق العربي» على صعيد القضية الفلسطنية جزءاً كبيراً من أهدافه خلال السنوات الأربع الماضية، إذ تراقصت ألسنة نيرانه على أجساد شعوب المنطقة فشغلت الأمة عن قضيتها الأساسية، وليس افتراء القول بأن ما أصاب جسم المقاومة الفلسطينية من تصدّع بعض أعضائها وترهّلها مهد الطريق الى تجميدها عملياً، حتى امتلك وزير الأوقاف في حركة حماس في غزة «الجرأة « لإصدار فتوى مذهلة اعتبر بموجبها أن «إطلاق الصواريخ من غزة على «إسرائيل» هو إفساد في الأرض». وليس خافياً على أحد سلوك «إسرائيل» في القدس والضفة الغربية الرامي الى تهويد المدينة وتحويل الضفة الى تجمّع واسع للمستوطنات وتحويل أهلها الى «أسرى» للطارئين على أرضهم .

حجب «الحريق العربي» قضية فلسطين على نحو شبه تام، وجاء الانقسام الفلسطيني الداخلي ليعقّد الأمر أكثر ويؤخّر القضية حتى في أعين أصحابها المباشرين أي الفلسطينيين نؤمن بأن كل عربي ومسلم وإنسان حرّ هو من أصحاب القضية الفلسطينية . وحده محور المقاومة رغم عظيم انشغاله بالحرب الدفاعية عن قلعته الوسطى سورية، استمر متمسكا بقضية فلسطين وواضعاً إيّاها في رأس اهتماماته، من دون أن يؤدي ذلك الى التغافل عن مواجهة الخطر الداهم الذي مثّله الإرهابيون الذين ظهروا في سورية، فانتقل العدو بهم من الجبهات على الحدود مع فلسطين الى الداخل في شوارع المدن وأزقة القرى .

أفادت «إسرائيل» من هذا الحجب، فاستغلته معطوفاً على «مسرحية التفاوض» أو ما تسميه أميركا «العملية السلمية للتسوية «، لتسرّع في عمليات التهويد والاستيطان الاستعماري. وبظهور النزعة التكفيرية التي تلتزمها العصابات والفصائل الإرهابية أدوات «الحريق العربي»، وجدت «إسرائيل» فرصتها لإطلاق حلمها التاريخي، مطالبة بإعلان فلسطين «دولة للشعب اليهودي في العالم».

في ظل هذا المشهد الكئيب الذي يعتبر حقاً «ربيع إسرائيل»، خلافاً لما عاشته «إسرائيل» من تخبط بهزائمها على يد المقاومة ومحورها منذ عام 2000، جاءت عملية أسر ثلاثة مستوطنيين «إسرائيليين» على يد من بقي حتى الآن مجهولاً بالاسم معلوماً بدوافعه وخلفيته لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن العملية، كما لم تتبناها أي جهة جدية يمكن الركون الى إعلانها ، أضاء الأسر شمعة في النفق المظلم الذي أضحت القضية الفلسطنية فيه، خاصة بعد المصالحة الفلسطينية التي عقدت بين السلطة الفلسطينية في رام الله وحركة حماس ذات السلطة الحصرية في غزة، فالمصالحة هذه ورغم إيجابياتها في المبدأ فيها توحيد للكلمة وجمع للشمل فسرت بأنها تخلٍّ عن المقاومة فشكلت صدمة للمؤمنين بها طريقاً فعلياً وحيداً يضمن استنقاذ الحق من يد الصهاينة، وأحدثت صدمة للمقاومين أنفسهم إذ تمت على أساس اتفاقية أوسلو وقادت الى تشكيل حكومة قيل إنها تمثل الجميع بما فيها حماس حكومة تعترف بـ»اسرائيل» وتنبذ العنف أي المقاومة وتؤمن بأن التفاوض والحل السلمي هما السبيلان الوحيدان لتسوية القضية الفلسطينية.

في هذه البيئة القاتمة، لم يكن للمقاومين سوى العودة الى الميدان وبأي طريقة، فكانت عملية أسر المستوطنين رسالة رفض لكل شيء يرتكب ضد فلسطين لتصفية قضيتها: رفض للاستطيان، رفض للتهويد، رفض للتنازل عن البندقية وعن المقاومة ونهجها. أحدثت عملية الأسر انعطافاً استراتيجياً مهماً في مسار تصفية القضية الذي تقوده «إسرائيل» برعاية أميركية وموافقة ومساعدة من «جامعة النعاج العربية « التي يمسك الخليجيون بقرارها .

أسر وضع «إسرائيل» أمام حقائق عملت على حجبها أو تزويرها ففرضت عليها مواجهة واقع لا تشتهيه، فكان الرد «الإسرائيلي» الفوري عسكرياً رسمياً ـ ساهمت السلطة ويا للأسف في جزء منه عبر التنسيق الأمني ـ رداً أحدث مفاعيله في اتجاهين متعاكسين: سلبي لجهة إنزال العقوبات الجماعية بالفلسطينيين في الضفة الغربية عامة وبمنطقة حصول الأسر خاصة، وإيجابي لجهة إحداث صدمة في الوعي لدى المعنيين بالأمر. أما الرد «الإسرائيلي» الثاني فكان على يد المستوطنين رداً وحشياً تمثل بإحراق الفتى الفلسطيني محمد الخضير بعد خطفه من بلدته. وحشية برّرها الغرب بأنها تطبيق لقاعدة «السن بالسن والعين بالعين» على حد ما قالت صحيفة «الإندبنت» البريطانية في رسالة واضحة إلى من لا يزال في حاجة في رسائل ترشده إلى حقيقة الغرب في نظرته إلى العدالة !

أدت عملية الأسر وما تبعها إلى نفض الغبار عن القضية الفلسطينية الذي تراكم، خاصة في السنتين الأخيرتين، ما فرض على «إسرائيل» تحدّياً ظنت أنها تجاوزته، تمثل في احتمال انطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، واستئناف العمل المقاوم انطلاقاً من غزة. فكانت لهذين الأمرين ـ لمجرد ظهورهما كاحتمال غير مقطوع بتحققه حتى الآن ـ مفاعيل مهمة فرضت نفسها على المشهد المتشكل فوق ركام ما تسبّب به «الحريق العربي» من خسائر من ناحية، معطوفاً على النصر الاستراتيجي الذي سدله محو المقاومة في سورية من ناحية أخرى، في ظل التحوّل الأميركي إلى العراق لإطلاق «نيران الإشغال والتدمير» عوضاً عن «مناورات التغيير» التي أجهضتها سورية.

فرض المشهد الجديد على «إسرائيل» النزول إلى الميدان مباشرة ومغادرة مقصورة التفرج على المذابح التي ترتكب في حق العرب والمسلمين بأيدي العصابات الإرهابية المسيّرة أميركياً خدمة للمشروع الصهيو ـ أميركي، العصابات التي ترى هذه المذابح ذات أولوية لا يتقدم عليها شيء «داعش» تقول لا يمكن قتال «إسرائيل» والشيعة في ظهرنا، ويقصدون أن «إسرائيل» أمر مؤجل إلى ما بعد المواجهات «الداعشية» ضدّ الشيعة وهم يعلمون أن قدرتهم على الحسم في هذه المواجهات المعدومة، ما يعني أن قتال «إسرائيل» لن يحصل . مشهد فرض على «إسرائيل» الاختيار بين العمل العسكري الواسع واقتحام غزة، أو الاكتفاء بالضربات الانتقائية الاستنزافية التي لا يمكن أن تشكل انقلاباً في المشهد لمصلحتها، بل قد تنتهي إلى خسارة استراتيجية محتمة تبدأ في فلسطين لتشمل المشهد الإقليمي كلّه.

أحرجت «إسرائيل» إذن بما فرضته المقاومة عليها وأحرج معها دعاة التصفية كلهم، ورغم تصاعد الأصوات التي تدفع نتنياهو إلى غزة لاحتلالها، لا نثمّن عالياً مثل هذا الاحتمال، فتكون المقاومة ربحت الجولة على أكثر من صعيد، خاصة أن الاستنزاف البديل يكوي الجانبين، وإذا تورطت «إسرائيل» في غزة مجدداً وهذا مستبعد كما ذكرنا، فإن ربح المقاومة سيكون ذا حجم لا يستهان به، أما الانتفاضة التي نستبعد حصولها حتى الآن بسبب الدور الذي تقوم به السلطة والواقع الذي أحدثته «إسرائيل» في الضفة الغربية، فإننا نرى رغم هذا الاستبعاد أهمية للأمر لمجرد التلويح به، خاصة إذا توقفنا عند الحراك الفلسطيني داخل الأرض المحتلة عام 1948، وهواجس «إسرائيل» منه.

هذا كله يؤكد ثابتة واحدة هي أن المقاومة وحدها الطريق الصحيح لإنقاذ الأمة وحقوقها، وبها يكون التحرير عبر جمع الكلمة وإسقاط التباينات الداخلية، ففي عملية أسر واحدة أسقطت المقاومة الكثير مما جمعته «إسرائيل» في سنوات «الحريق العربي» الأربع، والمواجهة الآن بين العدوان «الإسرائيلي» بـ»الصخرة الصلبة» بحسب التسمية «الإسرائيلية» والدفاع الفلسطيني بـ»البنيان المرصوص» بحسب تسمية المقاومة، هي مواجهة لتصويب المسار والتأكيد على أن فلسطين هي الميدان الصحيح الأول لاستعادة الحقوق. أما الميادين التي افتتحت خارجها فهي ميادين تضليل وخداع يعمل فيها إرهابيون منافقون يدعون الإصلاح الكاذب وينشئون الدول الوهمية على أنقاض حقوق المواطنين وكراماتهم، ويشيعون الفوضى الأميركية الهدّامة، ويضرمون النار في كل ما لا تريده «إسرائيل» وأميركا ويغرقون الشرق في حروب لا تتوقف.

إن المقاومة ضد «إسرائيل» اليوم وعلى الأرض الفلسطينية تتكامل مع المقاومة ضدّ التكفيريين الإرهابيين التي تخاض منذ أربع سنوات في سورية، والآن في العراق، ويبدو أن مصر دخلتها أيضاً، وبهذه المقاومة تستعيد القضية الفلسطينية بريقها وتوضع الأمور في نصابها، وبها يكون الرد الصحيح على العدوان المتمثل بـ»الحريق العربي»، ومهما يكن ما آلت إليه نتائج المواجهة اليوم فإنها ستنعكس إيجابياً لمصلحة القضية الأم.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2165760

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165760 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010