الخميس 22 تموز (يوليو) 2010

فـي نقـد الهويـة الفلسطينيـة

الخميس 22 تموز (يوليو) 2010 par سمير الزين

إذا كان تمسك الجماعات المهددة بهويتهــا يزداد بفــعل التــهديد أكثر من الجماعات المستقرة وغير المهددة، فإن هـذا التمسك يبدو ظاهــرة طبيعية لأنه لا يمكن الرد على التهديد سوى بمزيد من إنتاج الروابط المشتركة الموجودة والمتخيلة بين الجماعات المهــددة. ولكن المفارقة تكون أكبر عندما تعرّف الجماعات المهددة نفسها بالسلب، ولا تريد الجماعات الأخرى التي تعيش بين ظهرانيها رؤيتها، وتتعامل معـها كأنها غير موجودة، أو أنها موجودة وتشكل عامل تهديد وزعزعة لاستقرار الجماعات غير المهددة.

أنتج الفلسطينيون هويتهم في ظل هذا الثالوث الذي حاصرهم بعد النكبة، جماعة مهددة، تعرف نفسها بالسلب، تعيش بين جماعات ترفضها أو تشيطنها أو الاثنين معاً. كل ذلك كان بعد فقدانهم الجغرافيا الوطنية التي كان يمكن أن تكون بوتقة إنتاج الهوية، هذه الجغرافيا استولى عليها المشروع الصهيوني وبنى على أنقاضها دولة «إسرائيل». وبذلك فقد الفلسطينيون وعاءهم الجغرافي لصياغة هويتهم المشتركة، وبات عليهم أن يعيدوا بناء هويتهم كجماعة مهددة وهم في الشتات، شتات خارج الوطن وشتات داخل الوطن.

تشكلت الهوية الوطنية الفلسطينية الحديثة بفعل الانقطاع التاريخي الذي ولده فعل النكبة التي حلت بفلسطين أرضاً وشعباً، وبات على الفلسطينيين أن ينتجوا هويتهم الوطنية بعد فقدانهم وطنهم التاريخي، وليس تشكيلها على أرض وطنهم الذي عادة ما يكون الوعاء الذي تنصهر أو تتفتت فيه هذه الهوية، كما جرى في التجارب الوطنية الحديثة، تجارب التحرر من الاستعمار. أي أن الهوية الوطنية الفلسطينية تشكلت بلا وعاء جغرافي موِّحد. هذا لا يعني أن الهوية الفلسطينية لم تكن موحِّدة للتجمعات الفلسطينية رغم افتقادها التواصل الجغرافي، كون هذه التجمعات عاشت في بلدان عربية تفصلها حدود دولية، ووحدتها لا تعني أنها وحدة هوية سليمة بالمعنى التاريخي على الأقل. وأعتقد أن الفلسطينيين بحكم عوامل خارجة عن إرادتهم، وبحكم وقائع تاريخية متداخلة، اضطروا لتشكيل هويتهم بالضد من التاريخ.

نجحوا؟ نعم نجحوا، ولكن المنجزات ضد التاريخ، لا تنجح دائماً، ولا تعيش وقتاً طويلاً، وهي تنجح بفعل عوامل خارجة عنها، أكثر من نجاحها بفعل عوامل تماسك داخلي.

في ظل هذه الوقائع، كان على الفلسطينيين أن يقدموا هويتهم بوصفها القاسم المشترك دون شوائب، شعب استطاع تشكيل هوية موحِّدة في ظل أقسى ظروف التفكك والشتات، لقد بات الفلسطينيون كأفراد، يتعاملون مع هذا المنجز بوصفه معجزة. ولأن الجماعات المهددة تحتاج إلى أسطرة متعالية من أجل إنجاز وحدة هويتها في مواجهة التفكك والشتات، فقد كان المتخيل الفردوسي هو الأساس الذي انبتت عليه الهوية الفلسطينية.

تم التعامل مع هذا الإنجاز بوصفه إنجازاً عظيماً في مواجهة المشروع الصهيوني وفي مواجهة الإلغاء العربي والإقليمي. لكن لم يرغب أحد في أن يرى، أنه ليس هناك هوية موحدة، وأن الهوية، في الوقت ذاته، هويات تحمل التنوع والتناقضات، حتى عندما تعلي ما تريد أن تراه وترفض ما لا تريد أن تراه. في جميع الحالات، عملت هذه النظرة للأسطرة الذاتية على توليد نوع من العنصرية المعكوسة، ولكن هذه المرّة ليس في مواجهة العدو الصهيوني بل في مواجهة الشقيق العربي، بوصف الفلسطينيين شعباً صُنع من نسيج آخر يختلف عن النسيج الذي صُنعت منه الشعوب العربية الأخرى. وهو يختلف عنها جوهرياً، بحكم طبيعته العبقرية التي جعلته يخترع هويته الوطنية من لا شيء، وأعادته «الرقم الصعب» في المنطقة، حسب الصيغة المحببة لياسر عرفات.

هكذا كانت صورة الفلسطينيين عن أنفسهم، شعب أسطورة، وأن العقبات التي أمامه هي عوامل خارجية معيقة، لو توافرت لهم الظروف المؤاتية، لكانوا غيروا خريطة العالم وليس خريطة المنطقة فحسب، وهو شعار سبق أن رفعوه. طبعاً لا تزال هذه الصورة قائمة في رؤوس الفلسطينيين رغم كل الوقائع العنيدة التي مرت في تاريخهم وتقول غير ذلك. انتظرنا حتى يعود الفلسطينيون لحكم أنفسهم جزئياً، لنكتشف، أو لمن رغب أن يكتشف، إننا شعب مصنوع من نسيج المنطقة الاجتماعي والهوياتي، ولنكتشف أننا في كثير من الحالات، أنتجنا هوية أسوأ من تلك التي أنتجها جيراننا العرب، الذين عشنا بين ظهرانيهم عقوداً زمنية واعتبرنا أنفسنا متفوقين عليهم.

ولأن تشكل الهوية الحديثة للفلسطينيين قامت على أساس متخيل فردوسي متجاوز للواقع القائم، وحتى متجاوز للواقع الممكن، فقد صدم الفلسطينيون عندما انهار هذا الفردوس في المفاوضات التي أسفرت عن اتفاق أوسلو. فقد دخلت المفاوضات بنسب أرض وبخريطة جغرافية عجيبة، لا تمت بأي صلة للخريطة التاريخية التي انبنى عليها الفردوس. وهو ما أعاد الفلسطينيين إلى أرض الواقع محطماً وطنهم المتخيل وفردوسهم المفقود الذي كانوا يأملون استعادته كاملاً في المستقبل، وقالت لهم الوقائع إن المشروع الصهيوني ابتلع أغلب أرضكم الفردوسية، وأصبح التعامل معهم شعباً واحداً، بل بوصفهم تجمعات بشر فائضة عن الحاجة في هذا المكان أو ذاك. ولأن الوطنية الفلسطينية الحديثة كانت نتاج متخيل جمعي ضد التاريخ، أخذت الوطنية الحديثة في التحلل عندما دخلت التجربة حيز الجغرافيا المتاح، وأخذ الشعب الفلسطيني يفقد وحدته، وبالتالي دخلت هويته مرحلة التفكك. وكانت ذروة هذا الاكتشاف الانقسام الدموي على جزء من أرض الوطن، الذي كانت فيه الهويات الجزئية أقوى من الجامع التاريخي للفردوس المتخيل، وهو ما أعطى المؤشر إلى أن الهوية الفلسطينية هي خطاب وهمي مثل كل خطاب هوياتي، بل خطاب ينتمي إلى مجاله العربي بوصف الهوية في العالم العربي «ليست شيئاً آخر غير الزيف والتدجيل وقد رفع إلى بلاغة الأيديولوجيا» على حد تعبير عزيز العظمة. وعندما نشب الصراع الداخلي، أخذت الهويات الجزئية تطفو على السطح. صحيح أنها حاولت أن تخفي نفسها من خلال التبجح بشعارات وطنية، ولكنها كانت آخذة في تصغير الآخر، فالعنف حسب ما يلخص أمارتا صن في كتابه «الهوية والعنف» هو نتاج «للآثار المروعة لتصغير الناس» وهو ما يولد فن بناء الكراهية الذي يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل انتماءات الأخرى، وعندما تُعطى هذه الهوية شكلاً ملائماً ميالاً للقتال، يمكن أيضاً أن تهزم أي تعاطف إنساني أو مشاعر شفقة فطرية قد تكون موجودة في نفوسنا طبيعياً. والنتيجة يمكن أن تكون عنفاً عارماً مصنوعاً داخل الوطن، أو إرهاباً وعنفاً مراوغاً ومدبراً على مستوى كوكبي. كما يشرح صن أيضاً، بهذه الآلية يتم تحويل البشر إلى آلات للقتل، لأن التمترس خلف هوية جزئية واختزال الآخر إلى بعد وحيد وتحشيد الناس خلفها في مواجهة الآخر الداخلي، هو عنوان انسداد تاريخي أنتج عنفاً داخلياً، رفع خلاله الضحايا شارات النصر على جثث ضحايا مثلهم. هذا ما شاهدناه في غزة، في معركة تحريرها من الإخوة الأعداء، ولكننا لا نريد أن نرى ما يقوله هذا المؤشر بوضوح، هو أن فلسطينيين يحملون هوية الغائية ضد فلسطينيين، تختزل الآخر الفلسطيني إلى بعد واحد، ما جعل من الممكن قتله تحت شعارات وطنية، ولكنها في حقيقتها اختزالية لا يمكن أن تنتج سوى العنف، فكانت واحدة من عيوب الهوية العميقة التي لا نريد أن نراها ولا نريد أن نطرحها للنقاش.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165404

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165404 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010