الأحد 29 حزيران (يونيو) 2014

رشيد الصلح… المتجذر بين ناسه

الأحد 29 حزيران (يونيو) 2014 par معن بشور

لم يكن رشيد الصلح – رحمه الله- مجرد رئيس للوزراء مرتين، ونائباً ثلاث مرات، وقاضياً لسنوات، ومحامياً لعقود، بل كان بشكل خاص ظاهرة شعبية ووطنية لا يمكن القفز فوقها إذا ما درسنا تاريخ لبنان المعاصر، وخصوصاً عاصمته.
فمن الصعب أن تجد سياسياً صبوراً مثابراً حريصاً على خدمة كل مواطن يراجعه وكأنه الشعب كله، وعلى حضور كل مناسبة اجتماعية وكأنها شغله الشاغل، بل كان يقول لي “إن مساعدة الناس هي رسالتي ، وسعادتهم هي غايتي وراحتى في آن….”
كنت أظن ان وراء اندفاعه لخدمة الناس دافع انتخابي لأكتشف انه لا يسأل من يراجعه عن هويته ومنطقته بل وبلاده، فلا فرق عنده بين بيروتي ينتخب في دائرته وبيروتي لا ينتخب، وبين لبناني من هذه الطائفة والمنطقة او تلك، بل بين لبناني وغير لبناني، فكثيراً ما تجد منزله ممتلئاً بأصحاب الحاجات من سوريين او فلسطينيين او مصريين او سودانيين.. كان يترجم عروبته عملاً للناس وانسانيته خدمة للمحتاجين، دون ان يحاضر عنهما او يخطب بهما. …
كنت دائماً أسأل نفسي من اين يأتي هذا الرجل بالوقت الذي يبدأ معه في السادسة صباحاً باستقبال اصحاب الحاجة.ولا ينتهي حتى منتصف الليل حيث يمضي سهرته في لقاء اجتماعي ، فيما يقضي بقية النهار بين مكتبه وزيارة الناس والسير في شوارع بيروت دون حراسة ، وحضور كل مناسبة وطنية او قومية، ودون حسابات كالتي كثيرا ما تكبل السياسيين المرتعشين من غضب هذه الدولة او ذاك الجهاز…
شجاعته لم تكن استعراضية، رغم ان من فجروا يوماً سيارته وسيارة ابن عمه الرئيس الراحل تقي الدين الصلح، ظنوا انه سيغادر بيروت أو ينكفأ داخلها، فلم يفعل هذه أو تلك، بل عاش مدينته بكل آلامها وجراحها ومعاناتها كما عاش الحصار الصهيوني الظالم بكل أيامه الثمانين وهو الحصار الذي حوله صمود بيروت بأمثاله إلى أسطورة في الصراع مع العدو لم يعرف بعدها انتصاراً واحداً بل عرف بداية لمقاومة لم تتوقف حتى الساعة، ولم تنحصر بلبنان وحده….
البعض أساء فهم شخصيته فظنوا تواضعه ضعفاً، وبساطته وهناً، وهدوءه تردداً، وطيبته سذاجة، حتى إذا ما تعرض لامتحان صعب ظهر على حقيقته حازما جسوراً صلباً، كما رأيناه مثلاً حين اتخذ قراره بإزالة “دولة المطلوبين” الشهيرة في طرابلس في أوائل عام 1975 ، وحين رمى استقالته من رئاسة الوزراء بوجه من أراد معاقبته على موقفه الوطني المصّر على تسمية الأشياء بمسمياتها اثر مجزرة البوسطة الشهيرة في عين الرمانة في 13 نيسان 1975.
قلة كان يدركون ان وراء هذه الشخصية، القريبة الى كل من عرفها، دهاء سياسي خطير كان يرتكز على تكتيك بالغ الدقة وهو “ان لا تظهر قوتك كلها كي لا تسمح لمنافسك او خصمك ان يواجهك بقوة اكبر…”
خلال انتخابات بيروت عام 1972، وكان الرئيس صائب سلام رئيساً للوزراء وكان رشيد الصلح – رحمه الله – من ابرز معارضيه في العاصمة، رفض الصلح ان يقيم مهرجاناً انتخابياً او حتى حفلات انتخابية رغم ان تأييده يومها كان عارماً، وحين سألته يومها عن سبب رفضه لاقامة هذه المهرجانات كان يجيب “الكثير من ابناء بيروت موظفون في الدولة واجهزتها، او ان لهم ابن او اخ او قريب في وظيفة حكومية ، فلماذا احرجهم بحضور مهرجان انتخابي فيأتي في اليوم التالي من يحاسبهم على الحضور، ألم يجعل المشترع الاقتراع سرياً فلماذا نجعل التأييد علنا… وحين بدأت نتائج التصويت تظهر كانت ارقام المرشح رشيد الصلح تكتسح معظم اقلام الاقتراع.
وحين كنت أسأله عن سبب عدم بذله جهداً للظهور كثيراً بوسائل الإعلام، كان له جواب يحمل الكثير من الحكمة والخبرة، الإعلام ضرورة، ولكن كل ظهور إعلامي للسياسي يجب أن يكون بقدر كي لا يصبح الظهور غاية بحد ذاتها بكل ما يقود إليه حب الظهور من أخطاء، وأحيانا خطايا، حين يضطر السياسي إلى التحريض على أنواعه لكي يبقى محتلاً الشاشات وصدارة الصحف.
كان وطنيا لبنانيا بوضوح، حريصا على استقلال الوطن واستقلالية الموقف، وكان قومياً عربياً، مدركاً لعظمة قائد كجمال عبد الناصر، أميناً على تراثه، وفياً لمبادئه.. وحين وجّه المؤتمر القومي العربي الدعوة إليه لحضور دورة له في القاهرة عام 1997، كان أول المستجيبين، بعد أن كان أول المرحبين بتأسيسه، ومسهلاً انعقاده في بيروت في أيامه الأولى يوم تعذر انعقاده في عواصم عربية عدة آنذاك..
ويوم أُتهم الراحل الدكتور خالد جمال الناصر بتأسيس تنظيم ثورة مصر مع البطل الراحل ايضا محمود نور الدين، وهو تنظيم وقف وراء عمليات تستهدف الصهاينة في مصر في اواسط الستينات كان رشيد الصلح في طليعة المتجاوبين مع نداء التضامن مع ثورة مصر ورموزها ، والامر ذاته حصل يوم اقمنا مهرجان التضامن مع الجندي المصري الشهيد سليمان خاطر الذي اطلق النار على جنود صهاينة في سيناء، وذلك في نادي خريجي جامعة بيروت العربية، لم يتردد الصلح في أن يكون أول المتحدثين في مهرجان معاكس للمناخ الرسمي العربي آنذاك.
وحين أصدر مجلس الامن قراراً بفرض مناطق حظر جوي داخل العراق، تمهيداً لمشاريع تقسيمه التي تبدو اليوم اكثر وضوحاً ، كان رشيد الصلح أول مسؤول عربي – وربما الوحيد الذي اعترض على هذا القرار الخطير وتردد يومها ان اعتراضه آنذاك عجل في الضغط لاخراجه من رئاسة الحكومة…
أمضى رشيد الصلح سنوات عمره المديد مع رفيقة عمره السيدة الفاضلة عائدة شاتيلا في بيت مفتوح لكل الناس، كما في حضور دائم في كل بيوت الناس… فانغرست جذوره في ارض ناسه، وارتفعت هامته في سماء وطنه ، رحمه لله



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2165306

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2165306 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010