الأحد 29 حزيران (يونيو) 2014

مَن يرتكب “تشويه صورة مصر”؟

الأحد 29 حزيران (يونيو) 2014 par نزار السهلي

من السخرية أن تذهب الحالة الإعلامية في مصر، بكل ما يحمله هذا البلد العربي من ثقل التاريخ، إلى الكيدية القضائية، في الأحكام القاسية على صحافيين من قناة الجزيرة، ما يمكن حسبانها ممارسة مشينة تلتقي مع ممارسات البلطجة الإعلامية المحمومة في عهد عبد الفتاح السيسي، وهذه مع تلك تنتج عاراً حقيقياً يدفع ثمنه الكتّاب والصحافيون والإعلاميون الشرفاء. وفيما كانت المؤسسات الإعلامية في مصر، على مدى عقود من الاختلاف السياسي بين تيارات متعددة، تخوض حربها المعلنة والخفية مع السلطات المصرية، إلا أن ما يميّز الأحكام الجديدة بحق الإعلاميين هو التقاطع الحادث بين القضاء والعسكر، بشأن مَن اختاروا مهنة الصحافة والإعلام، ورفضوا التحول إلى أدوات دعائية في صفوف العسكر، بعد انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013. 
استهداف الجسم الإعلامي، وتكميم الأفواه، وحجب الحقيقة عن الشارع المصري، عملت عليه سلطة الانقلاب منذ اللحظة الأولى، بعد فضح ممارساتها في قمع ميادين الاعتصام، بعد مناشدة المنظمات الدولية لحماية حرية الصحافيين والإعلاميين من بطش العسكر الذي بات ممنهجاً واستخباراتياً بامتياز، مع اعتقال مراسل قناة الجزيرة، عبد الله الشامي، وأحكام السجن القاسية بحق مراسلي الجزيرة الانكليزية، وتوجيه تهم سخيفة للأسترالي بيتر غريست، والكندي المصري الأصل، محمد عادل فهمي، والمصري باهر محمد، بتقديم الدعم والانضمام إلى تنظيم “إرهابي” (الإخوان المسلمين)، وجاء في بيان الاتهام الذي قدمته النيابة، أنهم بثوا تحقيقات تهدف إلى “تشويه صورة مصر”.
أيّ تفسير غير التفسير الاستخباراتي والقمعي لفرض الرأي الواحد يمكن أن يبرر ليس فقط تكميم الأفواه والمضايقات التي تعرّض ويتعرض لها الذين اختاروا العمل بمهنية، بل حالة الاستهزاء أيضاً، بهذه المهنة من “إمّعاتٍ” ارتضت أن تكون في المقلب الآخر لبروباغاندا السيسي، متطوعة، عن قصد وإصرار، في شعبويةٍ قذرةٍ تذكّرنا بغياب الوعي، أو تغييبه مهنة الصحافي في الميدان أو الأستوديو.
في مصر وخارجها، كان الصحافي والكاتب والإعلامي صاحب دور مميّز في المهنية، وفي تجذير الوعي الجمعي العربي. ولا يفهم المغزى من تقزيم دوره اليوم في عهد السيسي، إلا لتعزيز جيش المتملّقين في المعسكرات المتخاصمة، بإظهار الولاء وتقديم الطاعة بدروس من الردح الإعلامي الذي رافق انقلاب العسكر، حتى تنصيب السيسي، والدفع بمجموعة من الصحافيين والإعلاميين إلى ممارسة الرقابة الذاتية، والتحوّل إلى مجموعة من المدجنين، تخدم أجنداتٍ لا علاقة لها بمهنيتها، ولا حريتها، من قريب ولا من بعيد.
أمامنا حالات كثيرة في المشهد الإعلامي المصري، جرى سردها والحديث عنها تفصيلاً، وأعلن عنها بكل بساطة، منها ظاهرة باسم يوسف، ومنع الكاتب فهمي هويدي من السفر، عدا عن المنع والحجب والاستهداف والاستدعاءات الأمنية، وصولاً إلى اعتقال صحافيين من الجزيرة ومحاكمتهم، واعتقال نشطاء في حركة 6 إبريل ونشطاء في ثورة 25 يناير. وتذكرنا هذه الممارسات بطبيعة الأنظمة القمعية، وتعيدنا إلى المربع الأول في الإشكالية الدائمة بين علاقة الإعلامي بالسياسي، والدوران في فلك السياسي تزخر به شطآن المحيط العربي التي تزبد بأمثلة كثيرة عن ارتزاق الإعلامي على ما يقدمه السياسي من مغريات مادية ومعنوية، وتقديم أدوات دعائية، تخدم ماكينة التضليل التي ترفع من قيمة “العسكري ـ السياسي” إلى مصاف الأنبياء والقديسين، والتعمية عن كل الأخطاء والجرائم التي يقترفها باسم “الشعب والوطن”، ثم توزيع شهادات الخيانة والوطنية على مقاسات الحاكم المتسلّط ومعاييره.
إنه مشهد الثورة المضادة التي تمنع زملاء وكتّاب وصحافيين من التعاطي بقضية تخص زملاء لهم، وتمنعهم من التطرق إلى قضايا تمس جوهر حرياتهم وتعبيرهم المنحصر في جدال عقيم عن الفعل الاعلامي الرسمي، المتخاصم مع جماعة الإخوان المسلمين، والمتحول إلى أدوات تزيد من الترقيع، وتفتح شهية الردح والشماتة، في كثير من أوجهها المطلة على المجتمع المصري.
في الأزمة الطاحنة بين الثورة المضادة في مصر والإعلام النظيف، عبر الزج بالصحافيين والإعلاميين في معسكراتٍ، تتحول مهنة الصحافة إلى مجرد مهنةٍ تردد بيانات السلطة، عندما تمارس دوراً سلطوياً، بلغة إعلامية لتعميق هذا المشهد التراجيدي، لإقصاء الآخر، بعيداً عن أخلاقيات هذه المهنة وشرفها، وهي المُعرّض أصحابها لانتهاكاتٍ لا يمكن السكوت عنها. وعدم السكوت لا يتطلب الاحتماء في معسكر الانقلاب أو “الإخوان”. ونقول ذلك، على الرغم من معرفتنا بالدور الذي يلعبه معسكر عبد الفتاح السيسي، وقضائه المتعسكر لتعميق مشهد “تشويه صورة مصر” الذي صبغه ببيان الاتهام لمَن يعبّر عن حرية الرأي والتعبير بأحكام ضد مَن يحمل قلماً وفكراً، أو ضد مَن ينقل صورة من مشهد جرف وجه مصر وثقافتها، ويرميه في أوبئة التحقير والتشهير، وهو وجه السلطان، لا وجه مصر وإعلامها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165771

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165771 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010