الجمعة 20 حزيران (يونيو) 2014

لن تلوم الضحية نفسها

الجمعة 20 حزيران (يونيو) 2014 par د.احمد جميل عزم

تحدثني سيدة كانت يسارية، ثورية، أيام دراستها الجامعية في بيرزيت في السبعينيات، أنّها اعتقلت أثناء إحدى المُظاهَرات، وجرى وضعها في عربة للجنود الإسرائيليين. وبينما كانت المواجهات تشتد، بدأت تفكر في عواقب الاعتقال. والعاقبة التي فكرت فيها هي لوم أمّها وعقابها، عندما تعرف أنها اعتقلت. بدأت تفكّر في ما الذي ستقوله، وهل ستكون أمها مثل أمهات أخريات يتسامين على الموقف وتقبل جبينها في المحكمة وترفع رأسها بها، أم ستنفذ تهديداتها التي تطلقها كلما شعرت أنّ ابنتها “متورطة” في “التنظيمات”. حسمت الفتاة أمرها، والجنود منشغلون بالمتظاهرين، ويبتعدون عن “جيب” الجيش أمتارا، وقررت الهرب بأقصى طاقتها، استناداً إلى احتمالين: أولهما، أن يطلقوا النار عليها فتستشهد، فتحزن عليها أمها ولكنها لن تؤنبها. وثانيهما، أن تُفلت. وفعلتها وأفلتت.
ضحكتُ وقلت: محمود درويش فكّر بها بطريقة مختلفة؛ لقد قال “وإذا متُ أخجل من دمع أمي”.
نشر وليام ريان كتابه “لوم الضحية” مطلع السبعينيات؛ تناول فيه كيف يقوم البيض الأميركيون باضطهاد الأميركيين السود، ثم يحملونهم وزر سوء أحوالهم، بلوم نمط الحياة العائلية والثقافية عندهم. ويصف ريان في كتابه رسم كاريكاتير، يظهر فيه عضو مجلس شيوخ أميركي يرأس لجنة تحقيق في الحرب العالمية الثانية، ينفجر غاضبا: “ما الذي جاء بميناء بيرل هاربر إلى المحيط الهادئ؟”؛ باعتبار ذلك مثالا “فاقعا” على لوم الضحية، كأن تلوم الشجرة لأنها قابلة للحرق.
بطبيعة الحال، يستخدم المصطلح أكثر ما يستخدم للإشارة إلى ظاهرة لوم الفتاة أو المرأة التي تتعرض للاغتصاب، والقول إن ملابسها أو خروجها وحدها، يجعلانها المذنبة أو شريكة في الجريمة.
أعدّ إدوارد سعيد نهاية السبعينيات، كتابا مع مجموعة من المؤلفين، تحت ذات العنوان تقريبا “لوم الضحية: أبحاث مزيفة والمسألة الفلسطينية”. ومنذ هذا الكتاب، والفلسطينيون لديهم ذخيرة يستخدمونها كلما حاول الإسرائيليون لوم الفلسطينيين لمقتل أولادهم، بأنّ أولادهم رشقوا الجنود بالحجارة، أو تواجدوا في المكان الخطأ.
ما أشار له وليام ريان، هو نوع من غسل الدماغ الذي أريد توصيل الأميركيين الأفارقة له، تماماً مثل القرود الخمسة وقصتهم الشهيرة، عندما حشروا في قفص علق في سقفه موز، فصاروا إذا اقتربوا من الموز جرى رشهم بماء بارد أو ساخن حتى صاروا يخافون الموز. وأُخرِجَ قِردٌ من الخمسة وأدخل قرد جديد، فحاول الاقتراب من الموز فمنعه الأربعة الآخرون، وأخرج ثاني، وجاء جديد وتكررت المحاولة والمنع؛ حتى بات القرود الخمسة الذين جرّبوا الرش خارجاً، وجيء بقرد سادس فمنعه باقي القرود الذين لم يجرب أيّ منهم يوماً الرش (العقاب). هكذا تُصنع “التابوهات”.
الأنكى من لوم الضحية، ومن التابوهات الزائفة، أن تصل الضحية درجة تلوم فيها نفسها، وتعتذر عن كل ما تفعل، حتى لو كان في صلب حقها.
في الصحافة الإسرائيلية، مقالات ترى أنّ القول إنّ المستوطنين الثلاثة الذين اختفوا هذا الأسبوع مذنبون لأنهم “اختطفوا” لتواجدهم في المكان الذي اختطفوا فيه، أو لأنّهم مستوطنون، هو نوع من “لوم الضحية”، ويريد صهاينة حملة عالمية لوقف “الإساءة” للمستوطنين.
في الواقع إنّ المضي في لعبة التشبيهات تجعلنا نرد أنّ هذا الخطاب أشبه بخطاب اللص الذي يرفض أن يدافع صاحب المنزل عن نفسه إلا بشروطه هو.
القول بأن اختفاء، أو اختطاف، المستوطنين من قبل جهة فلسطينية مفترضة، هو الذي جر الدمار على الفلسطينيين، وعدم وصف المستوطنين باسمهم كمستعمرين ومستوطنين وغير شرعيين. واعتبارهم شُباناً مختطفين في عملية، بغض النظر عن النوايا، أشد قسوة من رش قُرود المَوز. إذ يجعل المقاومة والدفاع عن النفس أشبه بـ“التابوه”، ومقدمة للوم الضحية لنفسها، سواء في سجن إداري، أو في حالة رجل دخل الجنود بيته وطردوه أمام أبنائه، وارتدى جندي “بيجامته” ونام في سريره؛ كما يحدث الآن في الخليل! ليست كل أنماط المقاومة صحيحة كل الوقت، ولكن القول إنّ من يدافع عن نفسه هو الذي يجب أن يقيس كل ردود فعله أمر يستعصي على الإدراك، خصوصاً إذا كان العدوان غير متوقف، ولا يوجد من يدافع عنك.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 46 / 2180774

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2180774 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40