الثلاثاء 13 أيار (مايو) 2014

في المعنى الآخر للنكبة

الثلاثاء 13 أيار (مايو) 2014 par أيمن اللبدي

النكبة التي تعرّض لها التراب الفلسطيني، والشعب الفلسطيني، والتاريخ الفلسطيني، نكبة خاصة بكل المقاييس ولم يسبق في التاريخ الحديث أن مرَّ بمثلها جزء آخر من هذا العالم ولا زال يعاني منها حتى الساعة على الإطلاق، بل الحقائق على الأرض والباردة منها تلكم التي لا يصمد أمامها أيُّ منطق في الدنيا مهما كان حذقاً في إخفاء اعوجاجه، تقول أنها خاصة حتى منتهى درجات الخصوصية قطعاً.
الفعل المادي للنكبة المتمثل في حدود الاقتلاع والإقصاء بل وحتى وصولاً إلى التطهير العرقي أو الديني أو المذهبي أو الفكري ومثلها أنماط حروب الإبادة في كل الأحوال ستبقى ضمن مفهوم التماثل في هذا الجانب، وفي النكبات المختلفة التي ضربت بجبروتها وعنفها شعوباً وأناساً هم الضَّحية المؤكدة تحت رحمة هذا الفعل المشبع حتى الثمالة بالغطرسة والعدوان المتجبّر والغرائزيِّ البحت، بقيت كلُّ الحالات موضعية في التاريخ والجغرافيا من جهة، ومستندة لمنظومة بروبوغاندا أرضية بالمطلق، أما نكبة الفلسطيني فهي شيئ آخر.
نعم قامت دول ومؤسسات سياسية كاملة على أساس الدّم والجبروت ومنطق حق القوة الجامد، وأدّت في معظم حالاتها إلى إقصاء شبه كامل للضحية من الجغرافيا والتاريخ، والأمثلة تستحضر الذهن لقيام دول كالولايات المتحدة ومعها أستراليا وربما كندا على أساس إبادة كاملة لجنس وعرق شكلته قبائل الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وقبائل أبوريجينز في استراليا، باعتبارها أكبر الأعراق المستأصلة، ومثل ذلك في عموم أمريكا اللاتينية بما فعله الاستعمار اللاتيني السابق للاستعمار الكولونيالي، ولكن الحال في فلسطين مختلف.
لقد أبيدت القبائل والأعراق في هذا الجزء من العالم وقتل ملايين البشر، وفق منطق العنصرية البغيض سواء أكان ذلك المباشر المحتفي بعبارة إنقاذ الشعوب الأصلية ومساعدتها على التطوّر والمدنية، أو ذلك المختفي تحت شعار الانتداب والشراكة مع المناطق البشرية المستهدفة وهو ذلك الجزء من البروبوغندا الذي تطوّر لاحقا كقناع للكولونيالية، ونشأ عن ذلك إضافة إلى المأساة الإنسانية التي نتجت عن هذه العمليات المنهجية العدوانية الشرسة واقع آخر حاول بعضه لاحقاً أن يخفت من تأنيب الضمير لدى أجياله الجديدة بنوع من العناية الخاصة بمن تبقى من هذه الأعراق ومن نجا من سطوة الدم ، إنها اشبه بقيام هذا الغرب المنافق بتخصيص محميات طبيعية لبعض فصائل الحيوان والنبات حتى لا تنقرض، وهم في تطبيقهم البشري لا يختلفون كثيرا في هذا المفهوم الذي يشكّل في واقع الأمر استمرارا على نحو ما لنظرة الاستعلاء والمكابرة.
عندما رفع النّازي شعاره العنصري البغيض فيما يتعلق بتصنيفات البشر والأعراق، واستهدفها جميعا دون تردّد وبمنتهى الوحشية، فهو قد فعل ذلك بعد أن كانت أوروبا نفسها قد أحرقت نفسها في حرب كونية سبقت فعل النازي وأنتجت مئات ملايين الضحايا، وسواء أكانت هذه الحروب الكونية قد تسلّحت بمنطق العنصرية المكشوف، وهو الذي جاء بدوره رداً على منطق حق القوة الجامد المعتوه، أو كانت تعبيرات عن غرائز العدوان الحيوانية وصفات الطمع والأنانية المطلقة، فإنها جميعا لم تصل إلى الدرجة التي شكّلها التطبيق في فلسطين من حيث درجة الانحطاط الانساني فيها.
في فلسطين قامت النكبة على الكذب على الله قبل الكذب على البشر، لقد استقدم المقدّس والميتافزيقي ليخدم بقية سلسلة العنصرية وسلسلة الانحطاط الأخلاقي والإنساني، ولأول مرة في تاريخ البشر تقوم قصة الاختلاق على أساس مادة احتكارية بالكامل لدى المعتدي ولدى المتآمرين مع المعتدي والمشاركين له في عدوانه هذا،في فلسطين قامت أبشع جريمة يرتكبها بشري بالتعاون الشيطاني الشامل بعد جريمة قتل قابيل لهابيل، وقامت أركان هذه الجريمة حتى على غير الأساس الناموسي والشرائعي السائد منذ شرعة حمورابي، فالحركة الصهيونية التي انخرطت بالمطلق في التآمر مع النازي لجهة تسعير البروبوغندا ضد العنصر اليهودي في الحكاية، أدركت أن المطالبة المستقبلية للعين بالعين ستعني عدم مغادرة الجغرافيا لحظة الانتصار للتاريخ والقصاص فيه، ولذا أدخلت قصة الوعد الإلهي السخيف لتضمن الانتقال من الجغرافيا، ولتكمل دورة الأكاذيب أنشأت شعارها، أرض بلا شعب.
هذا العالم الذي صمت على التزوير والكذب وقتل الحقيقة، يدرك تماماً أن كلّ المنظومة التي صمت عنها سابقا ولاحقا، بكل تمظهراتها ونشاطاتها، بما فيها ما قبله من عصي القمع المستقبلي لنفسه تحت حجة معاداة السامية، يدرك أن كلَّ ذلك محض أكاذيب تناسلت من أكبر كذبة في التاريخ على الله لم يجرؤ النازي نفسه وهو يضع أساس نظريته العنصرية التي أنتجت حرباً كونية ثانية، وعشرات الملايين من الضحايا، أن يقترب منها أو أن يقف حتى على أعتابها بالإدعاء على الله والميتفزيقا، بل هو ذهب إلى العلوم البشرية في الأجناس والتطور ليدعم أصل تنظيره، أما هذه الحركة الصهيونية فقد اختارت الذهاب إلى المنتهى الماورائي لكي تنسج كذبتها الأشهر.
هذا العالم المدّعي بالحضارة والمدنية والتطوّر الإنساني، والمدّعي بالرقيّ ونبذ الانعزالية والتفرقة العنصرية والعرقية، هو نفسه الذي يقبل اليوم فكرة وتجسيداً على أساس من ذلك كله، ليس فقط هذا بل ويدع لها مجالاً لتوطّن لحروب كونية على أساس ديني وعقائدي في الوقت الذي يدّعي علمانية تقف صنماً عاجزاً أمام ما اقترفت يداه من دليل مادي حيّ على كذبه ونفاقه وخداعه لنفسه ولمفاهيمه التي يقول بها، والمفاجأة الجديدة أن هذه الدولة الأكبر في العالم والأكثر كذباً في سجلّها الدولي، أي الولايات المتحدة الأمريكية هي نفسها التي تدعو العالم لاعتراف جديد بهذه الجريمة وهذا الكيان على أساس الدين العرقي والعرق الديني وهو ما يترشّح تحت موضوعة يهودية الكيان، فأيّ نفاق وأيُّ سخف هذا؟
في الواقع فإن نكبة فلسطين هي الدليل الثابت على أن هذا العالم بنظامه الحديث مجرّد كذبة كبرى وسيستمر ذلك حتى اعادة الحق إلى نصابه بتصحيح الوضع، ليس فقط بتصفية هذا الكيان في كلّ الأبعاد المادية، وليس فقط عبر التعويض على شعب فلسطين بكل الأبعاد المادية بلا سقف ولا حدود، بل والأهم بالاعتذار عن منظومة الكذب المنهجي التي تبنتها الدول المعتدية والحكومات الاستعمارية والامبريالية طيلة الوقت ضد فلسطين الضحية حتى تاريخ فعل ذلك الواجب الإنساني أمام البشر وأمام الله ، وشطب هذه المنظومة من الأكاذيب التي خلقت نكبة فلسطين.
العامل الأخير الذي شكّل ولا زال يشكّل بعداً آخر في هذه الحكاية المستمرة، هو عامل الانسان الفلسطيني الذي لم ينس ولم يوافق على إدخال مادة النسيان في منظومة حياته التي استطاعت ان تقف من جديد، واستطاعت أن تهضم أكبر صدمة ممكن أن يتعرض لها شعب في التاريخ، واستطاعت أن تخطو على طريق استعادة المصير عبر الثورة والتضحية والكفاح وتناسل الوصايا، الوصايا بفلسطين ولفلسطين هي الجين والمورثة السابع والأربعون في خلايا الفلسطيني، هذا هو بعد النكبة الذي لن يفلح أعداء فلسطين في طمسه أبدا حتى تحقيق العدالة له.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 55 / 2166006

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مستشار التحرير   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2166006 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010