السبت 17 تموز (يوليو) 2010

قراءة هادئة لمسيرة حقوق الفلسطينيين

السبت 17 تموز (يوليو) 2010 par د. ساري حنفي

تعتبر مسيرة الحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين التي انطلقت في 27 حزيران 2010 معلماً هاماً في حركة نضال الشعب الفلسطيني في لبنان لنيل مطالبه التي تتعلق بحياته اليومية وضد ظلم التمييز السلبي الذي عاناه طيلة سنوات اللجوء في لبنان. ولعل أهمية هذا التحرك انه قد أسس لإرهاصات حركة اجتماعية تتجاوز معانيها خروج الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين الى الشارع في يوم غضب عارم وبهذا الحجم. فالجانب غير المرئي من هذه المسيرة لا يقل أهمية عن المسيرة نفسها. فخلال الأربعة أشهر التحضيرية لهذه المسيرة قد تم اللقاء مع الكثير من الأطراف اللبنانية التي لم يكن إعطاء حقوق للفلسطينيين على أجندتها وذلك إما لأسباب تكتيكية أو شعبوية، أو ببساطة لأن فكرة أن «يعيش الفلسطيني بكرامة حتى العودة» (وهو الشعار الرئيسي للمسيرة) لم تكن ضمن أولوياتهم.

لقد اتسمت هذه الشهور الأربعة، فترة الإعداد للمسيرة، بكونها تجربة خصبة من بناء تحالفات بين مؤسسات المجتمع الأهلي الفلسطيني واللبناني، وخلصت إلى دروس وعبر هي من الأهمية بمكان، وهو ما سأتناوله سريعاً في هذا المقال.

تأسيس الشبكة وبناء التحالفات

بدأت المسيرة بفكرة كنت قد تأثرت فيها عندما كنت طالباً في فرنسا، وهي مسيرة الجيل الثاني من الفرنسيين من الأصول المغاربية (marche des beurs). وفعلاً ناديت لاجتماع لاثنتي عشرة مؤسسة أهلية فلسطينية ولبنانية ولشخصيات اعتبرهم يمثلون أغلب الأطياف السياسية والعمل الحقوقي الفلسطيني واللبناني. وهكذا تشكلت شبكة مسيرة الحقوق، وقد تمسكنا بأن لا يكون لها أي ناطق رسمي حتى نحافظ على فكرة أهمية العمل الجماعي. وفعلاً كانت ولا تزال أهمية هذه الشبكة تكمن في تركيبتها الديموقراطية لاتخاذ القرارات. وقد تطورت الفكرة من مسيرة لمدة يومين من نهر البارد والرشيدية والجبل والبقاع باتجاه البرلمان اللبناني لتصبح مسيرة داخل المدن (وبالتحديد صور، طرابلس، عاليه، شتوره) وبالحافلات باتجاه المسيرة المركزية في بيروت حيث سار القادمون من الشمال من الكرنتينا الى الاسكوا والقادمون من الجنوب من المدينة الرياضية باتجاه الاسكوا. وقد قدر أكثر من مراقب مجموع المتجمهرين في مدنهم وأولئك الذين وصلوا الى بيروت بتسعة آلاف شخص، وهو أكثر من الآلاف الخمسة التي توقعتها الشبكة. شكلت المسيرة حالة إعادة وعي للفلسطيني على أنماط سلمية للنضال الحقوقي. وقد رمى بعض اللبنانيين من بلاكينهم المسيرة بالأرز محبة بجموع المتظاهرين حاملي الأعلام الفلسطينية واللبنانية.

على الرغم من أن فكرة الحقوق المدنية هي فكرة ربما تكون الجامعة فلسطينياً (لتضم المجتمع الأهلي الحقوقي المستقل والقريب من فصائل منظمة التحرير وفصائل التحالف) ولبنانياً (لتضم الجمعيات المستقلة والقريبة من أوساط 8 و14 آذار)، إلا أن الشرخ بين هذه القوى هو أكبر بكثير من أن تجمعهم فكرة نبيلة. وعلى الرغم من انه لا يمكن أحداً أن يدعي أن هذه الشبكة كانت تدعم طرفاً على حساب طرف آخر، إلا أن بعض الأطراف استنكفت وهي التي لم تعتد على العمل ضمن شبكة واسعة، حيث اعتادت على الهيمنة بدل من بناء تحالف واسع.

المجتمع المدني في مقابل الفصائل والأحزاب

من النقد الذي وجه للمسيرة أن «المجتمع المدني يحاول اختطاف القضية السياسية وتحويل قضية الحقوق الى قضية غير سياسية». حجتهم بذلك أننا همشنا الفصائل الفلسطينية. لعل من قرأ كتابي «نشوء النخبة المعولمة الفلسطينية : المانحون والمنظمات الدولية والأهلية» يتبين له أن نقدي الأساسي للكثير من المنظمات الأهلية الفلسطينية يكمن في أنه قد التبس عليها الفارق بين ما هو وطني وسياسي من جهة، وما هو حزبي من جهة أخرى. بالإضافة إلى الفكرة الغريبة القائلة بأن أي ابتعاد عن السياسة هو ابتعاد عن الهم الوطني، واننا ما زلنا حركة تحرر ومقاومة، لا يمكنها أن تفصل السياسي عن الهم اليومي للمواطن أو اللاجئ. إذا كنا كشبكة واعين أن لا يكون هناك فصل بين المدني والسياسي، وعندما وزعت المهام لتعيين منسقي المناطق تم اختيار المنظمات الأهلية القادرة على الحشد والقريبة من الفصائل الفلسطينية واللبنانية بكل أطيافها.

وربما كان الحرص على إظهار الربط الجدلي بين المجتمع المدني والفصائل أنها أعطيت في المهرجان المركزي من الاسكوا كلمات لكل الفصائل التي كانت قريبة من المؤسسات المدنية المشاركة، مما أظهر وكأن هذه المسيرة هي مسيرة قد نظمتها الفصائل على حساب منظمات المجتمع المدني وخاصة المنظمات الشعبية والاتحادات الطلابية التي لعبت دوراً رائداً في التعبئة الجماهيرية. وفي هذه المناسبة لا بد لي أن أذكر أنه صار خطأ بإلقاء كلمة للأخ المناضل عزمي بشارة. فمن خلال الاتصالات الأولية معه أوضح انشغاله وعدم قدرته على المجيء. ومن ثم تم الاتفاق على أخذ فقرتين من مقالة له في «السفير». وكنت آنذاك أتحدث معه عن كلمة له (فيها تحيه للمسيرة والفقرتين) بينما كان قد فهم بأن المقصود قراءة الفقرتين فقط. وقد انجلى سوء الفهم ذلك. وأكد عزمي أنه لا مشكلة وأنه يدعم هدف المسيرة.

ثقافة التكسير

ربما يمكن المرء أن يفهم أن هناك شرخاً عميقاً في المجتمع السياسي الفلسطيني منذ انفصال غزة عن الضفة، وانه لم يكن تاريخياً منذ 1982 في لبنان أية نشاط مشترك «ذي معنى» بين فصائل منظمة التحرير وفصائل التحالف، وان ذلك يؤدي الى ثقافة عدم التعاون. ولكن الذي لا يمكن فهمه لماذا تنتشر ثقافة التكسير التي تبنى على ثنائيات : المناضل/العميل، أجندة وطنية/ أجندة خارجية، المتدين/الكافر، الخ... وهكذا فقد أشاعت بعض الأوساط الفلسطينية أن هذه المسيرة قد مولها أبو مازن وأنها تخدم أجندات سياسية غير واضحة.

منذ البدء، كانت أجندة المسيرة واضحة جلية، وهي التي مكنتها من ضم أكثر من مئة مؤسسة فلسطينية ولبنانية. وقد تم تمويلها بـ 38.600 دولار تم الحصول عليها من المجلس الدنماركي للاجئين ومن السفارة النروجية والمساعدات الشعبية النروجية وتبرعات من أعضاء الشبكة بمبالغ تتراوح بين 500 و2000$. ونحن نعتبر أن التمويل من جهة يعني أن هناك تقاطع مصالح مع هذه الجهة وليس تطابقاً في المصالح وهذا مبدأ أساسي في العلوم السياسية. وأنا أعرف شخصياً إشكاليات تمويل المجتمع المدني، بغض النظر عن مصدر التمويل (أكان غربياً أم إيرانياً أم خليجياً أم من رجال أعمال فلسطينيين)، حيث إن أي تمويل يطرح السؤال التالي : لأي درجة يحافظ المتلقي على أجندته وكيف يتفاوض على استقلاليتها. وما تم فعلاً من خلال تمويل هذه المسيرة هو أنه لم يكن هناك أي شرط مرفق بهذا التمويل. وكما تقوم سفيرة النروج باللقاءات الدورية مع حركة «حماس» للتأكيد على اعترافها بهذا الفصيل الفلسطيني المنتخب ديموقراطياً، دعمت نفس السفيرة مسيرة تهدف الى رفع ظلم تاريخي عن الشعب الفلسطيني في لبنان.

يمكن أن أستحضر أمثلة أخرى من ثقافة التكسير التي ترهن الوطنية بطرف ما وتلغيها عن طرف آخر، مثل حملة حماية قرار حق العودة (حملة 194) التي بادر بها مجموعة شبابية في 29 أيار 2010 لكتابة قرار 194 بواسطة الكوفيات في ملعب المدينة الرياضية في بيروت وتم توثيق ذلك في موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأكبر قرار دولي كُتب بالطريقة المذكورة. وقد شكّك بعض الفرقاء الفلسطينيين بالمجموعة وأهدافها.

لقد عانت المؤسسات الأهلية القريبة من الإسلاميين ـ الوطنيين (حماس والجهاد) في فلسطين من قيام بعض الاتجاهات اليسارية والوطنية بعملية إقصائهم من أن يكونوا جزءاً من المجتمع المدني، كون هذا الأخير «هو بالتعريف علماني». والظاهر أنه اليوم يأخذ هؤلاء الإسلاميون ـ الوطنيون ثأرهم بطريقة إقصائية معاكسة معتبرين أن المجتمع المدني غير القريب منهم هو مجتمع مرتهن بالتعريف بأجندات غير وطنية ومشكوك فيه ولا يمكن العمل معه.

أتمنى أخيراً أن تكون هذه المسيرة درساً لنا جميعاً يحفزنا على التأمل في كيفية جعل التنوع السياسي الفلسطيني ظاهرة صحية بحيث تتكاتف الجهود للعمل سوية لإحقاق حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والحقوق المدنية الاجتماعية والاقتصادية، ولكي لا يبقى هذا التنوع رمزاً للشرذمة التكسيرية وبأجندات فصائلية ضيقة. نحن بحاجة الى مسحة من الليبرالية التي بدونها سيضيق صدر بعضنا ببعض وسنصبح فريسة الثنائيات التبسيطية التي تحبط بكل جهد خلاق ومطلوب، كان من كان مبادره.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2180809

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2180809 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40