السبت 17 تموز (يوليو) 2010

الفلسطينيون من «قائمة غولدا» إلى «قائمة شارون» : عندما تتحوَّل السينما إلى شاهد على الجريمة

السبت 17 تموز (يوليو) 2010 par بشار إبراهيم

لم يكن اغتيال الشيخ أحمد ياسين، ومن ثم د. عبد العزيز الرنتيسي، ومَنْ قبلهما، أو بعدهما، سوى التعبير الصارخ عن حقيقة حاول الكثيرون إنكارها، أو التغاضي عنها!.. فعلى الدوام كان لدى قادة «إسرائيل» قوائم مُستهدفة بالقتل، تتضمّن عدداً من الشخصيات الفلسطينية البارزة والفاعلة، في حقل العمل العسكري، بداية، واستطالت، في أوقات تالية، لتضمّ عدداً من الفاعلين في مجالات السياسة، والفكر، والثقافة، والأدب، والإعلام!.. إذ أن ما يسميه «الإسرائيليون» بـ «القتل المبرمج»، المسبق، والذي كان يطارد، ويصطاد، عدداً ممن يسمون نشطاء، في «كتائب شهداء الأقصى»، و«كتائب عز الدين القسام»، و«سرايا الجهاد»، استطاع أن يحظى بتفهّم وغطاء من قبل الإدارة الأمريكية، فأمعنت «إسرائيل» في تنفيذه، حيثما أمكن، ومتى سنحت لها الفرصة!..

وهكذا فإن لذّة القتل ونشوته، والرغبة في تحقيق المزيد من محاولات كسر الفلسطينيين، وثنيهم عن طريق المقاومة، والصمود، دفعت شارون (حينه) إلى إعطاء الأوامر القاطعة بقتل كلّ من يمكن الوصول إليه من القادة السياسيين الفلسطينيين، في حركتي «حماس» أو «الجهاد»، أو في «كتائب الأقصى»، و«الجبهة الشعبية»، و«الجبهة الشعبية / القيادة العامة»، وعلى هذا الأساس تمّ إعداد قائمة الموت التي يمكن ببساطة تسميتها (قائمة شارون). وبلغت الوقاحة أن نشرت بعض الصحف «الإسرائيلية» أوراق لعبة (شدّة) مماثلة لتلك التي نشرها الأمريكيون في العراق، ربما في محاولة من «الإسرائيليين» للإيحاء (بل التأكيد) بأنهم يقفون مع الأمريكيين في الخندق ذاته، ويقاتلون العدو ذاته، مع فارق ربما يكون بسيطاً لدى البعض، وهو أن القائمة الأمريكية معدَّة للاعتقال والمحاكمة، بينما القائمة «الإسرائيلية» للقتل، حصراً.

ثمة قائمة للموت إذاً!..

وهي ليست بدعة أمريكية، يخترعونها في العراق، أوّل مرة، بل إنها سياسة قتل عرفها الفلسطينيون، من قبل، عندما وضعت غولدا مائير قائمة ضمّت العديد من الشخصيات الفلسطينية المطلوب قتلهم، بحجة الانتقام والثأر لعملية ميونيخ عام 1972، وهي القائمة التي باتت تُعرف باسم (قائمة غولدا)، إذ يُروى أنها قامت بتكليف الجنرالين زامير وياريف، من جهاز «الموساد الإسرائيلي»، بمهمة القيام باصطياد فلسطينيين، ترى أنهم يمثّلون خطراً على «إسرائيل»، بما يمتلكونه من قيمة ثقافية فكرية، أو إبداعية أدبية وفنية، وقدرة سياسية وديبلوماسية، أو علاقات واتصالات، يمكن أن تساهم في تعزيز وجود القضية الفلسطينية، على جدول الاهتمام العالمي.

يومها، كان قد جنَّ جنون غولدا مائير، وهي ترى الفلسطينيين ينتشرون في عواصم العالم، خاصة أوروبا الغربية، التي كانت تعتقد أنها مغلقة في وجه الفلسطينيين، فيقوم هؤلاء بالاتصال مع القوى والأحزاب والشخصيات، فضلاً عن الاتصال مع بعض الحكومات الأوروبية الغربية، في محاولة جادّة للحصول على تمثيل رسمي للمنظمة، في باريس وروما وبروكسل وفيينا.. وافتتاح مكاتب لتمثيل المنظمة، واعتماد سفراء للقضية، في عدد من العواصم تلك.. مباشرة، أو من خلال طرق أخرى، غير مباشرة، لكنها تفضي إلى ذات النتيجة.

كان المناخ العام في أوروبا الغربية، على الأقل على مستوى الأحزاب والشخصيات، مؤهلاً يومذاك لتقبّل حديث بعض رجال المنظمة عن القضية الفلسطينية، والاستماع إلى ما يقولونه، ربما تأثراً بما تركته حركة الطلاب عام 1968، أو ما فضحته حرب حزيران (يونيو) 1967، ليس فقط باحتلال «إسرائيل» لأراض واسعة من عدد من البلدان العربية، سيناء مصر، وجولان سوريا، واستكمال احتلال باقي الأراضي الفلسطينية، في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، بل بتهافت الادعاء «الإسرائيلي» عن محيط العداء العربي، والعزم العربي على إلقاء اليهود في البحر.

الفلسطينيون الذين بدوا كأنما هم يراكمون منجزاتهم، ويتقدَّمون خطوات على طريق إثبات وجودهم كشعب وقضية وثورة، والذين أخذوا يستقطبون اهتمام اليسار الأوروبي، ويتوسَّعون في اتصالاتهم إلى ما هو أوسع من هذا اليسار، والذين قصدتهم مجموعات من المصورين والسينمائيين (جان لوك غودار)، والأدباء والكتاب والمثقفين الأوروبيين (جان جينيه).. كان لا بد لغولدا من أن تحاول ما تستطيع لوقف زحفهم هذا، حتى لو كان بالقتل المعلن.. فكان العام 1972 - 1973 ذروة في النيل من الشخصيات الفلسطينية، بل إنه في العام 1973، فقط، اغتال «الإسرائيليون» ثماني شخصيات فلسطينية، في بيروت وقبرص وأثينا وباريس.

في أعوام ذروة القتل تلك، تمّ اغتيال عدد من الأدباء والكتاب والصحافيين : غسان كنفاني/ روائي وقاص وصحافي، كمال ناصر/ شاعر، ومحاولة اغتيال كل من : بسام أبو شريف / صحافي، د. أنيس الصايغ / مدير مركز الأبحاث الفلسطينية.. كما طالت حياة عدد من السياسيين : أبو يوسف النجار/ عضو لجنة مركزية، كمال عدوان/ عضو لجنة مركزية.. (فضلاً عن الشاعر كمال ناصر) في عملية فردان في بيروت، حيث كان قتل هؤلاء غنيمة كبرى يجنيها «الموساد».. وستأتي من بعدهم قائمة..

***

(قائمة غولدا) فيلم فلسطيني فرنسي مشترك، من إخراج إيمانويل فرانسوا، عام 2002، وفيه يتم تناول مصير عدد من تلك الشخصيات الفلسطينية، الذين أعدَّت غولدا مائير قائمة بأسمائهم، واختارتهم للموت، واعتبرت أن ذلك ينبغي أن يتمّ عقاباً وثأراً وانتقاماً لعملية ميونيخ. وهكذا ففي الفترة ما بين عامي 1972 و1993، تم اغتيال ما لا يقل عن ثلاث عشرة شخصية فلسطينية. ومع ذلك فإن الفيلم لا يتخذ الإطار الكرونولوجي (التتابع التاريخي)، لمصير هؤلاء، فقط، بل سيقوم بممارسة عملية تداخل مقصودة فيما بين ضحايا هذه القائمة، المتهمين بعلاقة مع عملية ميونيخ، وضحايا فلسطينيين آخرين، ليسوا على علاقة أبداً بتلك العملية، لكنهم لم يخرجوا عن دائرة الاصطياد «الإسرائيلي»، مما يؤكد أن القتل ذاته كان هو المطلوب.

غسان كنفاني، ربما هو الأكثر شهرة بينهم جميعاً، خاصة وأن اغتياله جاء قبل عملية ميونيخ، ولا يستطيع أيّ «إسرائيلي» أن يقدّم مبرراً لقتله. ولعل اغتياله سيبقى فضيحة لـ «إسرائيل»، كلما ذُكر غسان، أو قُرئت له كلمة، من رواية أو قصة أو إحدى دراساته وأبحاثه، أو كلما شُوهد فيلم صيغ عن عمل من أعماله.. وسوف يبقى ذاك اليوم التمّوزي (يوم اغتياله) مناسبة سنوية لاستعادة غسان، الذي يبدو أنه لم يكفّ عن الحضور الملحّ بعد قرابة أربعين سنة من اغتياله، بل لعله أكثر حضوراً مما لو كان بيننا الآن، وهو في السادسة والسبعين من عمره. بينما يبدو أن بسام أبو شريف الذي نجا من محاولة اغتياله، بطرد ملغوم اكتفى بقطف بعض أصابعه، وتشويه ملامح وجهه، قد تكفَّل بالتذكير بقوائم الموت «الإسرائيلية»، التي كان له نصيب النجاة من إحداها.

يمرّ فيلم (قائمة غولدا) على تلك الأرصفة المدمّاة، التي ربما ما زالت آثار الدماء تتسرّب بين شقوق بلاطاتها الباردة، الأرصفة الباريسية الليلية، أرصفة روما، غرف الفنادق، خشبيات أرضيتها، الأسرّة، التي زرع (الموساد) تحتها عبوة ناسفة. الأقمصة النحاسية للرصاصات التي اخترقت الظهر والرأس، وانزرعت في أنحاء متفرقة من أجساد الضحايا.. واستعادة للوثائق البصرية التي سجَّلت ذات يوم حضور تلك الشخصيات التي طواها الموت.

(لا أخشى من الموت.. ولكن دون مجازفة)..

يقول محمود الهمشري ذلك، قبل ثلاثة أيام من مصرعه، في لقاء مع محطة تلفزيونية فرنسية.. كان ممتلئاً بالثقة أنه سيعيش أكثر، ربما ريثما يحقق الأهداف التي نذر وقته وجهده لتحقيقها. أن يجعل فرنسا تصل إلى الدرجة التي تسمح بافتتاح مكتب رسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

لعل الهمشري لم يكن يعرف أن مجرّد وجوده هو مجازفة بحدّ ذاتها. أن يكون فلسطينياً فاعلاً، فذاك يعني تماماً أنه يقف على حافة الموت الذي يترصَّده.. جاءه الموت على هيئة قنبلة تُفجَّر عن بُعد، زرعها «الموساد»، تحت أرضية الغرفة، قبل يومين، أي ربما بعد أقل من 24 ساعة من حديثه للقناة الفرنسية..

وائل زعيتر، ممثل آخر من ممثلي المنظمة، كان نصيبه اثنتي عشرة رصاصة في الظهر. لقد كان مشروعاً لفلسطيني يمتلك علاقات واسعة مع الأحزاب والكثير من الشخصيات الهامة، من طراز ألبرتو مورافيا..

د. باسل الكبيسي، ضحية أخرى، تردَّت بالرصاص القاتل على رصيف ما، في روما، بينما تناثر علي حسن سلامة (أبو حسن سلامة) أشلاء في انفجار سيارة استهدفته، في بيروت.

وسوف تطول قائمة الموت لتطال أبا جهاد (خليل الوزير) وأبا إياد (صلاح خلف) وهما من كانا في قمة الهرم الفلسطيني، سواء في المنظمة أو حركة «فتح»، قبل أن تنتهي إلى اغتيال عاطف بسيسو، الذي يتحدّث عنه الفيلم باعتباره الضحية الثالثة عشرة في (قائمة غولدا)، والشخصية الثامنة التي تُقتل في فرنسا، خلال عشرين عاماً.

ولن ننسى طبعاً الحديث عن اغتيال نعيم خضر، في بروكسل، الذي يمكن أن ينتسب إلى قوائم أخرى، مرادفة ومكمّلة لقائمة غولدا، ومن تلك القوائم ينبغي التذكير بقائمة رابين وشامير وبيريز وباراك ونتنياهو، ومن ضحايا تلك القوائم نذكر الشهيد فتحي الشقاقي، الذي تردّى بالرصاص في مالطا، ويحيى عياش، وعماد عقل، والأخوين عوض الله، وأبو علي مصطفى الذي هوجم ذات صباح في مكتبه في رام الله بصاروخ حربي من طراز (هيل فاير/ نار الجحيم)، وجهاد جبريل بتفجير سيارته في بيروت..

ثمة العديد من قوائم القتل التي تتالى عتاة قادة «إسرائيل»، كلٌّ في وقته، على إعدادها وتنفيذها.. وصولاً إلى (قائمة شارون) التي تتصف بأنها أكثر دموية، وأكثر إمعاناً بالقتل المُعلن، وتحظى بقبول وتبرير من قبل القوة العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية.. وعلى الرغم من أن قائمة الاغتيال نالت من الأستاذ الجامعي د. إبراهيم المقادمة، والمهندس إسماعيل أبو شنب.. وأفلتَ من بين يديها كلٌّ من د. محمود خليل الزهار، وإسماعيل هنية.. وهم من القادة السياسيين (كما في حالة خالد مشعل أيضاً) وممن لم يمارس أي فعل عسكري، أبداً..، فإن السيد بوش، مثلاً، لم يتورَّع أبداً عن اعتبار شارون (رجل سلام)!..

الملفت في (قائمة غولدا) الحقيقية أنها كانت تستهدف الشخصيات الفلسطينية بذاتها، وبشكل مفرد، مخطط ومنظم. وربما باستثناء ابنة أخت الشهيد غسان كنفاني، التي ركبت السيارة معه لحظة الاغتيال، فاستشهدت معه، يمكننا القول إن كافة الشهداء استهدفوا بشكل فردي مباشر، بالرصاص، أو بتفجير السيارة التي يركبها، أو قنبلة تحت السرير، أو تحت أرضية الغرفة. بينما في (قائمة شارون) بلغت الدموية حدّاً أن أضحى القتل يتمّ، حتى لو أدى إلى النيل من سكان البناء، كما في حالة اغتيال صلاح شحادة، أو ركاب سيارة نقل عامة، كما في اغتيال محمود أبو هنود، أو إبادة أسرة كاملة، كما في محاولة قتل حسين أبو كويك، الذي نجا بشخصه لكن قتلت زوجته وأطفاله جميعاً..

يفتح فيلم (قائمة غولدا)، من إخراج إيمانويل فرانسوا، الحديث عن مسلسل الاغتيالات التي أُعدَّت بتخطيط وتنظيم من قبل حكومة تدّعي لنفسها أنها (واحة الديمقراطية) لتنال من أعداء غالبيتهم يخوض نضاله ضدها بالكلمة، أو الموقف السياسي، أو العمل الديبلوماسي، فكان منهم الكاتب والروائي والشاعر والصحافي والمذيع والسفير والطبيب والمهندس والشيخ القعيد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 214 / 2178941

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع خبر  متابعة نشاط الموقع فنون مسرح وسينما   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178941 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40