الثلاثاء 11 شباط (فبراير) 2014

مقولة “الربيع العربي” ومآلها

الثلاثاء 11 شباط (فبراير) 2014 par الحسين الزاوي

ارتبطت مقولة “الربيع” السياسي من الناحية التاريخية بالتصورات التي كانت القوى الغربية تسقطها على الاحتجاجات التي كانت تندلع هنا وهناك، في عواصم بعض الدول المحسوبة على المعسكر الشرقي الذي كان يدور في فلك الاتحاد السوفييتي المنهار، والتي كان من أشهرها ربيع براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا سابقاً، وربيع بكين في الصين الذي تميز باعتصام الطلبة في ساحة “تيان آن مان” . وتمثل مثل هذه التسميات قناعات سياسية بالنسبة إلى النخب الغربية المهيمنة، ويمكن اعتبارها جزءاً من الصراع السياسي الذي كان سائداً خلال الحرب الباردة الذي ما زالت بعض تجلياته قائمة حتى الآن بعناوين وصيغ متعددة؛ أما الاحتجاجات الطلابية الكبرى التي شاهدتها باريس سنة 1968 من القرن الماضي فلم تطلق عليها الأوساط السياسية الغربية مقولة “الربيع” بالرغم من تأثيرها الحاسم على مسار التطورات السياسية في فرنسا لاحقا . والشيء نفسه يمكن أن يقال عن حركات احتجاجية عارمة كانت بعض العواصم الغربية مسرحاً لها والتي كان آخرها حركة “الساخطين” التي انتقلت من “وول ستريت” في نيويورك لتمتد بعد ذلك إلى مناطق أخرى في أوروبا، وتعامل معها الإعلام الغربي باستخفاف كبير، بل وحاول إبرازها على أنها مجرد تحركات معزولة يقوم بها أشخاص مهمّشون .
الآن وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على بداية ما سمي في مستهل الأحداث بالربيع العربي بتأثير من المرجعية الغربية المهيمنة، وبالرغم من الخسائر الفادحة التي خلفتها التوترات المصاحبة له على مستوى الاستقرار الداخلي ومنظومة الأمن القومي العربي المشترك؛ ما زال هناك من يؤمن بإمكانية أن يزهر هذا “الربيع” من جديد، وأن يحقق المعجزات على مستوى بناء دولة المواطنة العربية الجديدة . والغريب في كل ما حدث ويحدث من تطورات، هو أننا وبعد مرور أكثر من قرنين عن بداية مشروع النهضة العربية الحديثة ما زلنا نتعامل مع المفاهيم الإجرائية التي يبدعها الآخر، كأنها مقولات حقيقية تحيل إلى معطيات واقعية بينة في حد ذاتها وليست في حاجة إلى البرهنة على صحتها . إذ إنه وفي غمرة الحماس والعنفوان الجماهيري الذي خلقه الحراك الشعبي في كل من تونس ومصر سقطنا في تأويلات متسرعة لمسار الأحداث، واستعرنا صياغات موروثة عن فترة الحرب الباردة، نعلم جيداً أنه كانت ومازالت تحمل أجندات غير بريئة، وأردنا من ثمة أن نعمم قراءتنا للمشهدين التونسي والمصري، اللذان استطاعا أن يحافظا على جانب سلس من السلم المجتمعي ومؤسسات الدولة الوطنية، على الأحداث الدامية في كل ليبيا وسوريا .
ثم تسرعنا مرة أخرى واعتبرنا أن هدف تحقيق ديمقراطية الواجهة القائمة على مشروعية الصندوق الأسود، تمنحنا رخصة أو صكاً على البياض من أجل التساهل والتسامح مع القوى الشمولية التي لا تحمل مشروعاً ديمقراطياً، وصولاً إلى السماح لها باختطاف الثورة المصرية واختزال قيم الديمقراطية والتعددية والمواطنة التشاركية في عُلبة أو صندوق لا يعلم من قاموا بملء أضلاعه الأخطبوطية نحو أي مصير سيقودهم، وأدى بنا ذلك إلى السماح لهؤلاء اللاعبين الجدد على “رقعة الديمقراطية” بأن يتعاملوا مع هذا التفويض الافتراضي المحدد في صلاحيته والمحدود في فترته الزمنية، كأنه بيعةٌ تبيح لهم التصرف بحرية في مصائر البلاد والعباد .
وحتى لا نخذل أحلامنا وطموحاتنا النرجسية، ما زلنا حتى الآن نسعى إلى إقناع أنفسنا أن التجربة التونسية يمكنها أن تشكل استثناءً لهذه القاعدة من الإخفاق المفجع، وننسى في اللحظة نفسها أن ما حدث في تونس من تطورات ايجابية لا يمكن التنبؤ في اللحظة الراهنة بمساره ونتائجه المستقبلية، من منطلق أن ما جرى- حتى الآن- في جمهورية خير الدين التونسي، كان محصلة لعاملين رئيسيين: أولهما قوة المجتمع المدني التونسي بقيادة النقابات العمالية، واستماتة المرأة التونسية في النضال من أجل الحفاظ على مكتسبات الحداثة والمساواة التي حصلت عليها؛ أما الثاني فيرتبط بالدروس التي استخلصتها “حركة النهضة” التونسية من السقوط المدوي لحركة الإخوان في مصر، الأمر الذي أرغمها على إبداء مرونة يندر أن نجد مثيلاً لها عند الأحزاب والتنظيمات ذات المرجعية الوثوقية . وبالرغم من كل ذلك فإن التحديات المتعلقة بالمشهد التونسي ستكون مرتبطة مستقبلاً بمدى قدرة النخب السياسية في تونس على ترجمة التوافق الدستوري الذي تم تحقيقه إلى توافق مجتمعي حقيقي، يحول دون انفراد أي فصيل سياسي بالسلطة .
إن التعددية المنفتحة والديمقراطية التشاركية القائمة على استقرار المؤسسات الممثلة لكل أطياف المجتمع، لم تكن يوماً ما محصّلة ربيع أو خريف مزعوم، بقدر ما هي نتاج لعقد اجتماعي وسياسي مشترك يتمسك الجميع ببنوده التطبيقية والتوافقية من دون السقوط في أوهام المزايدة اللفظية على دلالات المقولات والمفاهيم وإيحاءاتها المنفتحة على القراءات المتعددة . فقد أكد الكثير من المفكرين الغربيين أن مقولة العقد الاجتماعي وغيرها من المفاهيم السياسية، ليست أكثر من افتراضات خيالية لا وجود لها في الواقع ولا أحد يتعامل معها في الغرب بوصفها حقائق واقعية، لكن الجميع متفق في المقابل على توظيف هذه التشكيلات التخيلية الجميلة بطريقة إجرائية وواعية من أجل بناء حقائق صلبة على أرض الواقع . ومشكلتنا نحن العرب كما قال أحد المحللين الغربيين، هو أننا لا نحسن توظيف أحلامنا وتخيلاتنا الشاعرية، ونتعامل معها بقسوة مفرطة تحولها في غفلة منا إلى كوابيس مخيفة ومدمّرة، لأننا ننسى أن المقولات وجدت أصلاً لتأدية وظائف إجرائية وليس من أجل المزايدة على تأويلاتها النصية . وبذلك تجاوزنا المعاني المجازية للربيع السياسي، وأردنا أن نقطف عنوة وروداً شاحبة تعبّر عن مواقفنا وإراداتنا الأحادية المتصلبة، لنكتشف في النهاية أننا قطفنا أشواك الحقد والكراهية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2165553

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

34 من الزوار الآن

2165553 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 34


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010