الأحد 29 كانون الأول (ديسمبر) 2013

عرب ما بعد الربيع والنظام العالمي الجائر

الأحد 29 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par د.أحمد القديدي

أعتقد صادقا بأن أخطر سؤال مطروح اليوم على دول ما بعد الثورات العربية وما يعرف بالربيع العربي هو السؤال الذي لم يطرحه أحد من الخبراء أو المسؤولين الجدد العرب إلى اليوم والسبب أننا ضعنا بلا بوصلة في خضم الأحداث الجليلة المتعاقبة والمؤامرات المختلفة التي تحاك ضد كل تغيير حضاري. هذا السؤال هو ما موقفنا بعد الهزات التي عاشتها مجتمعاتنا من النظام الاقتصادي والمالي العالمي الراهن والذي أصيب في مقتل منذ انهارت سنة 2007 مصارف ومؤسسات مالية أميركية أعقبتها إعلانات إفلاس لدول كاملة كما حدث لليونان ثم أعيد النظر في أركان ذلك النظام العالمي الجائر المنعوت ب (بريتن وودس) وراجعت دول الغرب علاقاتها مع دول الجنوب ونحن منها واتضح لبعض الحكومات وأولها دول مجلس التعاون بعد إتفاق إيران مع (الخمسة زائد واحد) بأن واشنطن لا تعبأ بمصالح حلفائها العرب ومن ثم وجب التفكير والتخطيط لإنطلاق العرب من هذه الحقائق لإعادة النظر في علاقاتنا جميعا لا بالولايات المتحدة فحسب بل بالنظام العالمي الراهن بأسره.
غريب كيف بفضل الصبر والاصرار على الحق واستشراف ذكي للمستقبل يبلغ المرء مبتغاه بتحقيق أمل كان بالأمس القريب يعتبر حلما صعب المنال حين يعطيه الزمن الحق فيما استقرأه أو أنذر منه من كوارث ستحل بالعلاقات الدولية و تغير حال العالم. فيدرك الانسان بأن الطريق الصحيح هو طريق المعرفة والايمان أي السير في اتجاه التاريخ حتى ولو كانت الأغلبية ضده.
هذا بصراحة وبدون غرور شعوري هذه الأيام حين أشهد بداية انهيار الرأسمالية الغربية المتغولة التي طالما أدانتها وأدانها معي مثقفون عرب وعجم أخرون من على هذا المنبر الإعلامي على مدى سنوات، لأنني بكل بساطة أعتقد ما يعتقده صديقي عالم الاقتصاد الأميركي ليندن لاروش منذ نصف قرن، من أن العالم لن يتحمل أوزار الظلم الدولي المسلط على أمم الأرض من قبل الأقلية المستفيدة من نظام ( بريتن وودس) المنتهي الصلاحية منذ استقرار العولمة وصعود القوى الجديدة. وسجلت هذه المواقف المتواضعة في المطارحات الفكرية بيني وبين الصديقين لاروش الأميركي وجاك شوميناد المرشح الأسبق لرئاسة جمهورية فرنسا، بعد أن اشتركنا معا في عشرات المؤتمرات والندوات الدولية في عواصم العالم بدءا من مؤتمر واشنطن بفندق ماريوت عام 1984 و انتهاء بندوة كدريتش بألمانيا في أكتوبر 2007 ثم اننا التقينا عديد المرات في بيت لاروش بألمانيا في ضواحي (فيزبادن) و نشرت أحاديثي معه على هذه الصحيفة الغراء.
انني اكتشفت منذ ثلث قرن بأن أول من أنذر الغرب بقرب انهيار النظام النقدي العالمي (بريتن وودس) المؤسس على المضاربات هو عالم الاقتصاد الأميركي ليندن لاروش الذي عمل مستشارا للرئيس ريجان لأنه هو العدو التاريخي لليبرالية المتوحشة القائمة على المضاربات، وأن الاتحاد الأوروبي الحليف الطبيعي للولايات المتحدة هو ذاته دعا الى اعادة النظر جذريا في منظومة (بريتن وودس) الجائرة واقرار نظام ليبرالي عالمي يخضع للأخلاق وتحكمه ضوابط الرقابة والمحاسبة ويعمل في كنف مصالح كل الأمم ولا يسخر حصريا لتكريس هيمنة الغرب بالقوة على مقدرات الشعوب الأخرى مناديا بالإنضمام الى صف التأسيس الاستعجالي لنظام عالمي جديد تماما و نحن كعرب لم نعالج هذا الملف الأساسي ونحن معنيون في مصيرنا بطبيعة الانخراط في النظام العالمي أو التعامل معه وعلى أي أساس؟
وحين نقرأ مواقف المستشارة ميركل مثلا من آليات التضامن المالي الأوروبي ورفضها تمويل المفلسين من أعضاء الإتحاد الأوروبي (راجعوا خطابها الأخير منذ أسبوع في حفل إعادة انتخابها من جديد مستشارة لألمانيا) نتبين بأن مقترحاتها مجرد ترقيع حكومي رسمي ألماني محض للنظام المالي والاقتصادي القائم على ضخ مبالغ خيالية في شرايين المصارف وشركات التأمين والاستثمار المهددة بالافلاس ولم نشاهد بعد عملا حاسما وملزما للدول أو خطة دولية يدعى لسنها قادة العالم بأسرهم بمن فيهم زعماء الصين والهند والبرازيل وروسيا واليابان ونمور آسيا ونأمل أن تنخرط في هذا العمل الكبير دول مجلس التعاون لأنها تشكل مركز ثقل مالي واقتصادي وحضاري وتعتبر قلب الاسلام النابض.
ستدعى الدول قريبا لهبة حضارية جديدة وإعلان موت الليبرالية الطاغية ونواميس السوق المتسيبة مما لا شك سينشأ عنه نمط جديد تماما للعلاقات الدولية والقانون الدولي والأخلاق الدبلوماسية والتجارة العالمية، بعيدا جدا عن الهيمنة السياسية والسيطرة على مناطق النفوذ وتقاسم خيرات الأمم الأخرى تحت تعلات العولمة وبمباركة المؤسسات الدولية التي تدير هذه المظالم وهي البنك الدولي و صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وهي الأدوات الطيعة و الأذرع الطويلة لنظام (بريتن وودس) المنهار على رؤوسنا جميعا.
ولا يحسبن القراء العرب أن هذا الذي يحدث يمس فقط قواعد الأسواق المالية في الغرب! بل يتجاوز ذلك بكثير لأن حكماء الغرب بدأوا يعيدون النظر بقوة في الانحلال الأخلاقي والسقوط الثقافي و ظاهرة فقدان القيم الروحية التي تعاني منها المجتمعات الغربية. وأنا مازلت أعجب من بعض نخبتنا المسلمة التي تعتقد بأن قدر دولنا هو أن نظل أذيالا للغرب نخضع عاجزين لمنظومة مصالحه ونتبنى صاغرين خياراته ولا مفر لنا من الإذعان لا لإملاءاته فحسب بل لثقافته ولغته وسائر شؤون مجتمعاته من منطق الأمم المغلوبة مسلوبة الإرادة طيعة الانقياد للأمم الغالبة. إننا بفضل التحولات المباركة التي عشناها وسبق أن أنضجناها أحوج ما نكون ليقظة الضمائر ونهضة العقول وعودة الوعي بهويتنا وهي الحامية لمصيرنا من كبوة جديدة من كبوات التاريخ فكل مكاسب الحرية والسيادة واستقلال القرار ستظل مهددة بدون تلك الصحوة الحضارية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 44 / 2165272

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2165272 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 2


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010