الجمعة 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013

العنف لغة وثقافة وسلاح

الجمعة 27 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par د. عصام نعمان

ليس للإرهاب تعريف رسمي موحّد . كل يعرفه على هواه وبما يخدم أغراضه . غير أن للإرهاب لغة واحدة سائدة هي العنف ب“لهجات” متعددة . أسوأ اللهجات العنفُ الأعمى بمفرداته جميعاً .
العنف لغة شائعة بين الدول والتنظيمات والأفراد . عندما تمارس دولةٌ العنف فهو “إرهاب الدولة” . بعض الدول، ك “إسرائيل”، يمارس العنف علناً وبلا هوادة . بعضها الآخر، كأمريكا، يمارسه مباشرةً بطائرات من دون طيار، أو مداورةً بأجهزة استخبارات وتنظيمات إرهابية محترفة تؤجر خدماتها مقابل أجر مادي أو سياسي .
بعض التنظيمات “الدينية” ليس مجرد أداة أو مؤجر خدمات . إنه كيان سياسي له إيديولوجيا وأهداف وأجهزة ونهج في العمل . الأمر نفسه ينطبق على التنظيمات الإرهابية “العلمانية” .
صحيح أن بعضاً من التنظيمات الدينية يؤجر خدماته لدول وحكومات وأحزاب وشركات وأفراد، لكنه يفعل ذلك في إطار التقاء أغراضه، أو عدم تعارضها، مع أغراض الجهة المستأجِرة .
لعل تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش” و“جبهة النصرة” أبرز تنظيمات العنف الأعمى في حاضر عالم العرب . كلاهما ينتمي فكرياً، وإلى حد ما تنظيمياً، إلى “القاعدة” . كما أن كليهما يؤجر خدماته في إطار التقاء الأغراض بين المؤجر والمستأجر .
تلاقت الأغراض، مرحلياً وجزئياً، بين “داعش” و“النصرة” من جهة وأمريكا من جهة أخرى في ساحتي العراق وسوريا . غير أن إفراط كِلا التنظيمين في استخدام العنف الأعمى لأغراضهما الخاصة أدى إلى التفريط بأغراض أمريكا وحلفائها في الساحتين العراقية والسورية ما حملَ واشنطن، بنصيحةٍ من لندن، على إلغاء عقد إيجار الخدمات أو تعليقه في الأقل . أمريكا أوقفت، على ما يبدو، عملية تمويلهما وتسليحهما عبر تركيا . بريطانيا اتخذت قراراً صارماً : مَن يشارك من مواطنيها في مشهدية العنف الأعمى (الإرهاب) في سوريا والعراق يخسر جنسيته .
ربما للرادع المالي والتسليحي، كما للرادع الأخلاقي والقانوني، تأثير في قيادات تنظيمات العنف الأعمى وبعض أعضائها الأقل تعصباً ويأساً، لكن لا تأثير مطلقاً لذينك الرادعين في الأعضاء المعبئين والمغلَقين والمصممين على الشهادة (الانتحار) لما يظنون أنه يصب في هذا الاتجاه .
بيد أن لتنظيمات العنف الأعمى نتاجاً آخر غير القتل والتدمير . إنه الأسلمة بمعنى إكراه غير المسلمين، ولاسيما المسيحيين، على اعتناق الإسلام تحت طائلة القتل أو . . التهجير . هذا ما حدث للمسيحيين السوريين في منطقة القلمون، بلدة معلولا التاريخية تحديداً، وحتى للمسلمين الدروز في منطقة جبل السماق ( 18 قرية) بمحافظة إدلب .
الدروز مسلمون ديناً وعلى المذهب السنّي الحنفي في أحوالهم الشخصية، والتزموا الحياد مذ اندلعت الحرب في سوريا بعد “الربيع العربي” المزعوم . المسيحيون هم، تصنيفاً، من أهل الكتاب وينطبق عليهم، كما يشملهم، مدلول الآية القرآنية الآمرة : “لا إكراه في الدين” . مع ذلك تعرّض الدروز، كما المسيحيون، إلى عقوبتي التكفير والتهجير .
آثار التكفير والتهجير مقلقة ديمغرافياً وجغرافياً في العراق وسوريا ومصر وإلى حد ما في لبنان . فقد كان في العراق عشيةَ حرب أمريكا العدوانية عليه العام 2003 نحو مليون ونصف المليون مسيحي، لم يبقَ منهم سوى 250 ألفاً، أي أن نحو مليون وسبعمئة ألف قتلوا أو هُجروا أو اكرهوا على اعتناق الإسلام .
كان في سوريا عشية اندلاع “ثورة” الربيع العربي المزعوم نحو مليوني مسيحي، بقي منهم اليوم نحو 500 ألف، بينما جرى تهجير أو أسلمة الآخرين .
كان في مصر عشية ثورة يناير 2011 نحو عشرة ملايين مسيحي قبطي، هاجر أو هُجّر منهم، ولاسيما في ظل حكم الإخوان المسلمين، نحو مليون ومئة وخمسة وعشرين ألفاً .
في لبنان لم يتعرض المسيحيون إلى عمليات تكفير واضطهاد . لكنهم عانوا، شأن المسلمين، من حروب داخلية واضطرابات أمنية متواصلة الأمر الذي حمل الكثير من أهل البلاد على الهجرة طلباً للأمن والأمان والرزق .
لئن دعت واشنطن قادة المنطقة إلى وقف تمويل “داعش” و“النصرة” ووقف تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا، فإن الوجه الآخر للمشكلة لم يحظَ بعد بأي معالجة . فالإرهاب ليس لغةً وسلاحاً فحسب بل هو ثقافة أيضاً . ثقافة الإرهاب، بما فيها ثقافة التكفير، قائمة وناشطة ومنتشرة على مستوى عالم العرب، وما لم يجرِ مغالبتها بثقافة أخرى إنسانية وفاعلة فإن نهج العنف الأعمى والتكفير والتهجير سيبقى سائداً .
ماذا يمكن عمله في هذا المجال ؟
الدين عامل فاعل في الحياة عموماً وفي السياسة خصوصاً . لعله الوسيلة الرئيسة التي استعملها أهل السلطان في الداخل من أجل الضبط والربط وتدويم ثقافة الطاعة والولاء . كما استعملتها قوى الاستعمار والاحتلال والهيمنة الوافدة من الخارج للتفريق بين أبناء الشعب الواحد في الداخل من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية واستغلالها ولترسيخ حكم الوكلاء والحلفاء .
آن الاوان لقيام أعلى المراجع في الأديان جميعاً بعقد مؤتمر لمعالجة ثقافة التكفير والترهيب في العالم أجمع، ولاسيما في عالم العرب . لعل شيخ الأزهر هو المرجعُ الديني الأكبر نفوذاً والأكثر استقلالاً وقبولاً لأخذ زمام المبادرة من أجل الاتصال والتواصل مع سائر المراجع الدينية والقيادات العلمانية بغية عقد مؤتمر جامع وجدّي على مستوى عالم العرب لدرس مسألة ثقافة التكفير والترهيب ولإيجاد المناهج والآليات والوسائل اللازمة لمعالجتها وإزالة آثارها، كما لاقتراح أسس متينة لتوليف ثقافة إنسانية قوامها الحرية والتحرر والتسامح والرحمة والمساواة أمام القانون وفي تكافؤ الفرص .
ثمة حاجة استراتيجية لإشعار القوى الظلامية وناشري ثقافة الجاهلية المعاصرة بأن القوى الحيّة في عالمنا استيقظت ووعت خطورة الأزمة المستفحلة، و أنها في صدد إعداد هجوم حضاري مضاد قوامه ثقافة إنسانية لها طابع وقائي وجراحي في آن .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2165475

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165475 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010