الخميس 26 كانون الأول (ديسمبر) 2013

سوريا الحضارة والحاضر

الخميس 26 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par علي عقلة عرسان

لسوريا دور ملحوظ في تكوين الهوية الثقافية العربية وفي المحافظة عليها، وجذر الثقافة العربية في سوريا أقدم بكثير مما يُقدَّم إلينا ونحفظه ونحافظ عليه باعتزاز، وأبعد من المعطيات الثقافية التي تبدأ التأريخ للثقافة العربية من المرحلة الجاهلية صاعدة إلى ما طرأ وتطور وتركَّز ونما بعد ذلك في ظل الإسلام عبر عصوره المختلفة. فسوريا التاريخية هي سوريا الطبيعية وهي ليست فقط تلك التي قدمت للعالم أولى مراحل التوطن الحضري وأولى خطوات حضارة المجتمعات الزراعية التي نمت وترعرت في سهل نطوف قرب أريحا في الألف العاشر قبل الميلاد وفي تل حَلف شمال شرق سوريا السياسية اليوم، بل هي أيضاً الكتابة المسمارية مع شقيقها العراق في مرحلة حضارتيه السومرية والأكادية اللتين نشأتا من عناق العرب الآموريين “الغربيين” مع الفرات والعرب الشرقيين ممن جمعَهم حوض حضاري امتدَّ ساحل المتوسط إلى عمق النهرين دجلة والفرات، حيث تواصلُهم مع الثقافة النامية هناك منذ الألف الخامس قبل الميلاد؛ بل هي أيضاً وأيضاً تلك التي تفخر بأنها قدمت للبشرية حضارتي ماري وايبلا 2300 ق. م وقدمت أول مكتبة منظمة في التاريخ “مكتبة إيبلا” التي كان لنصوصها الموروثة تأثير وحضور في التوراة التي تأثر كتابها بذلك الإرث، وأثَّرت بدرجات متفاوتة في ثقافة الغرب.
وقدمت سوريا أول أبجدية في التاريخ من خلال حضارة أوغاريت ـ 1400 ـ 1200 قبل الميلاد، وهي حضارة الفينيقيين الذين هم فرع من العرب الكنعانيين، وقدمت المساهمة الآرامية والسريانية في المعرفة والعمران، وتعتز بأنها ليست ملتقى حضارات الشرق والغرب وبوتقة انصهار وتفاعل، بل هي مهد تلك الحضارات، والموقع الذي شهد نموَّها المعتدَّ به والموثَّق علمياً وتفاعلها الخلاق.
ولم تكن سوريا، في تاريخها الممتد عبر الزمن، تستعير هويتها من الثقافات التي تتواصل معها وتلك التي تتفاعل معها على أرضها، بل كانت تُغني تلك الحضارات وتتغنى بها، وتخوض معها مثاقفة واعية لأهدافها وأغراضها، بثقة واقتدار، وتنصهر عناصر في بوتقتها الحضارية الخاصة القادرة على الصهر والتأثير والتأثر أيضاً.
فالشخصية الثقافية العربية لم توجد أو تتكوَّن في هذا البلد العريق مع مجيء الغساسنة إليه من اليمن بعد انهيار سد مأرب وتوطّنهم في حوران، وإقامتهم مملكتهم العريقة هناك التي تحالفت مع الرومان وتصارعت مع مملكة إخوتهم المناذرة في الحيرة الذين كانوا يتحالفون مع الفرس، وإنما كانت جذور تلك الشخصية الثقافية وتكونت هنا بوضوح في هذه الأرض مع كل ما كوَّن سوريا ومن كوَّنها قبل مرور الفراعنة والفرس واليونانيين والرومان والبيزنطيين بهذه الربوع، وقبل اليهودية والمسيحية بآلاف السنين وأعني العرب الكنعانيين وإخوة لهم في ما بين النهرين.
في دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، توجد معطيات الحضارة والثقافة العربيتين قبل المرحلة الكنعانية التي عمَّت السواحل الشامية بقرون، وفي القدس توجد قلعة اليبوسيين العرب، قلعة صهيون، وهم فخذ من الكنعانيين الأوائل الذين سكنوا بلاد الشام وعمروها ـ وهم الذين بنوا تلك القلعة، “وصهيون هي الأرض المرتفعة باللغة الكنعانية”، وقد أسس اليبوسيون القدس التي حملت أولاً اسم يبوس، حوالي عام 3400 ـ 3200 ق.م أي قبل مجيء موسى واليهودية بنحو ألفين من السنين وقبل قدوم إبراهيم الخليل عليه السلام من أور العراق إلى مدينة الخليل في الشام بما يقارب 1500 سنة .. وفي دمشق توجد حضارة الآراميين، وأينما توجه الإنسان وبحث في سوريا الطبيعية يجد ما يشير إلى حضور متطوِّر للإنسان والحضارة في هذا البلد الذي عُرف ببلاد الشام، قبل أن يقسمه الاستعمار الأوروبي الحديث ـ الفرنسي والإنجليزي ـ إلى أربع دول بموجب معاهدة سايكس ـ بيكو في عام 1916، وقبل أن يدخل ذلك التقسيم حيِّز التنفيذ في عهد عصبة الأمم مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل سقوط السلطنة العثمانية، وخضوع بلاد الشام للاستعمار الغربي المباشر، استعمار فرنسا وبريطانيا، الذي كرَّس التجزئة والجغرافية السياسية القائمة اليوم على أنقاض جغرافية سوريا الطبيعية، وأوجد الكيان الصهيوني، ودولاً عربية تدافع أنظمتها القطرية عن التجزئة والإرث الاستعماري والتبعية بحماسة قل نظيرها، كما تدافع كل الأنظمة العربية عن الجغرافية السياسية التي صنعها الاستعمار .. وهي لا تكتفي بذلك بل تتآمر مع الاستعمار على بعضها بعضاً ويقتل أبناؤها بعضهم بعضاً لتزداد درجة التجزئة والتفتيت والضعف والتنكر للتاريخ العريق وللعقيدة التي ألزمتهم بأمر الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ? وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ? كَذَ?لِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ "آل عمران: 103!؟
ومن سوريا انطلق النداء القائل برفض اتفاق سايكس بيكو وما نتج عنه، وبرفض وعد بلفور وما أسس له وأسس عليه، وهو ما نعاني منه الويلات حتى اليوم، ومن سوريا انطلقت مبادرة إقامة دولة الوحدة، والدعوة للوحدة العربية الشاملة، منطلق التحرير أو مساره الحتمي إلى النهضة والحرية والكرامة.. وسوريا التي قالت وتقول بذلك هي سوريا التي خاضت حرب تشرين المجيدة وحرب الاستنزاف التي تلتها / في عامي 1973 و 1974 / وصمدت للمؤامرات وأشكال الحصار والتهديد، وأسقطت اتفاق 17 أيار وحقنت الدم في لبنان، وخاضت وما زالت تخوض معارك شرسة من أجل الوجود والثوابت والخيارات السياسية الوطنية والقومية، ومن أجل التقدم وحرية الإرادة والقرار في أرض العرب ومن أجل العرب.
في سوريا يمكن تلمُّس مقومات الهوية الثقافية العربية الإسلامية بوضوح، لا سيما منذ انتشار الإسلام في هذه الربوع، ولكن معطيات تلك الهوية ومقوماتها جاءت تثبيتاً وتعزيزاً وتنمية وتطويراً كبيراً لجذور الثقافة العربية وجوهرها القديمين، ذينك اللذين بُنيا على أساطير وميثيولوجيا ووثنية أولى سبقت إبراهيم الخليل/ عاش في حوالي 1900 ـ 1850ق. م/ ووجدت في ظلها أولى أساطير الخلق والتكوين والميثولوجيا التي انتقلت منها ومن العراق ومصر إليى اليونان القديمة، ووجدت في تلك الميثولوجيا الآلهة المتعددة الصفات والوظائف، ومن تلك الأساطير: ـ إينوما ايلش Enuma Elish أسطورة التكوين البابلي ـ في أرض العراق ثم الأساطير الكنعانية والفينيقية التي هي كنعانية ساحل بلاد الشام، وفيها وجدت أولى الشرائع البشرية الوضعية “شريعة حمورابي”، ونصوص المعاهدات السياسية ومما عُرف منها في المنطقة معاهدة “لَجَش” مع “أومَّا” السومريتين عام 2470 ق.م ومعاهدة “إيبلا” مع “أبَرقا” التي أتت بعد سابقتها “لجش ـ أومّا” بقرن من الزمن، ونجد في معاهدة “إيبلا – إبرسال” السوريتين تداخل النص التشريعي الذي يشي بشريعة حمورابي مع نص الاتفاق السياسي الملزم للمغلوب.. ثم مرَّ تدرُّج ملامح تلك الهوية وتطور مقوماتها برحلة ذلك الموحِّد الأول في التاريخ إبراهيم بن آزر من أور العراق إلى فلسطين الشام عبر مكَّة التي أقام قواعد البيت الحرام “الكعبة المشرفة” مع ابنه الأكبر أبينا إسماعيل، عليهما السلام، وقد أضاف الموحِّدُ إبراهيم الخليل أبو الحنيفية السمحة إضافاته البينة وجاء بالتوحيد قبل الموحِّد الفرعوني إخناتون بأربعمئة سنة تقريباً، وبقيت تجربته الفذة وعقيدته السمحة والمعاني الروحية لرحلته في عمق الوجدان الجمعي وفي تربة أرض الرسالات الإلهية، منبعاً صافياً للروح ومنارة هادية لها.
وتلت ذلك العصورُ الوثنية الأحدث عهداً، أعني تلك التي بنيت عند العرب على خلفية عميقة لعقيدة إبراهيم الخليل، عقيدة التوحيد، وكانت تغلفها وتقنِّعها وتظهَر على حسابها، وهي وثنيةٌ مستوردةٌ، يونانية ـ رومانية ـ وبيزنطية على الخصوص، جلبها من الشام عمرو بن لحيّ أول من أدخل عبادة الأصنام إلى شبه الجزيرة العربية في فترة متأخرة من الجاهلية الأولى؛ وكانت تلك عقيدة وثنية تتخذ من الآلهة المنقولة إلى أرض توحيد إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل من بلاد الشام وسائل وزلفى تتقرب بها إلى الله سبحانه: أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى? إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ “الزمر: 3 . وكانت العرب تتقرب بها إلى الله الواحد الأحد الذي كان يستقر الإيمان به في الأعماق وإن حجبت تجليه وسطوعه حُجُب منها الجهل، و”يمكن تلمس ملامح ذلك الإيمان في الشعر الجاهلي وفي خطب خطباء الجاهلية الكبار وفي آراء حكمائها“. ولم تكن القبائل العربية تتهيَّب، بسبب الإيمان العفوي بوجود الله الواحد، من أن تأكل أوثانها عندما تجوع، فهي لا تأكل الرب وإنما ما صنعته هيأة مجسمة له ـ الأوثان تماثيل للآلهة مصنوعة من الخشب والتمر ونحوه، والأصنام تماثيل للآلهة مصنوعة من الحجر والمعدن ونحوه ـ ففي ضميرها وفي أعماق وعيها الجماعي الباطن كانت تعيش شيئاً من ملَّةُ إبراهيم حنيفاً مسلماً على نحو ما، وهي الملَّة التي أعادنا إليها الإسلام على يدي رسول الله محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء النص على ذلك بوضوح في القرآن الكريم إذ يقول تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ? هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ? هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَ?ذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ? فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ? فَنِعْمَ الْمَوْلَى? وَنِعْمَ النَّصِيرُ” الحج: 78 . فالإسلام الذي جاء بلسان عربي مبين، ووحي نزل على نبي عربي أمين، ردَّنا إلى ملَّة أبينا العربي إبراهيم الذي بنا وابنُه إسماعيل أول بيت للناس في ـ مكة أو بكَّة ـ وأقام من ذريته بواد غير ذي زرع، ودعا الله أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، فكان له ما دعا به.
*والإسلام الذي ترسخ واستُكمِل رسالته باستكمال الوحي والسنة المطهرة في وصية النبي العربي في حَجَّة الوداع، أعاد صوغ الشخصية الثقافية العربية وعزَّز مرتكزاتها التي من أبرزها: اللغة بما حملت، والدين بمنظومات قيمه وحِكَمه وأحكامه وأبعاده الروحية، والعادات والتقاليد والسمات والملامح القومية العامة للأمة، وما يقيم قوام الناس وحياتهم وأهدافهم في ظلها على أرض ارتبطت بالهوية وارتبطت الهوية بها.. ودعا الإسلام المسلمين إلى أن ينشروا عقيدتهم في الناس كافة بالحُسنى، فهي رسالة للعالمين. وحين تشرَّف العرب والعربية بحمل هذه الرسالة التي أقرت بعض ما كان عليه العرب من عادات وعلاقات ومعطى ثقافي وإنساني وحقاني وروحاني لا يتعارض مع الإسلام، حملوا ثقافة تتسامى بالرسالة ورسالة تعزز الثقافة وتدعو إلى اجتثاث ما ساء أو خبُث أو ضر من سلوك واعتقاد وعمل وعادة وعِلم ـ فلا بارك الله في علم لا ينفع الناس ـ ومضى أولئك العرب بمقومات قيمهم وتاريخهم وقوميتهم والعقيدة التي تشرفوا بحملها والدعوة إليها في مشارق الأرض ومغاربها.. مضوا وهم على بينة من أمرٍ هو في غاية الأهمية لمفهوم الانتماء والانتساب والمكانة وما يرفع شأن فرد أو أمَّة أو يخفض من شأنهما. و ها هي بعض المصادر والأسس والمعايير والأحكام تؤكد لمن اتبعها أنه لن يضل أبداً، ولن يقع في التعصب والغلو والمحظور والمحذور إن هو أجاد الفهم والتفسير والربط والتنفيذ والاقتداء، وتمسك بالكتاب والسنة:
ـ قال الله تعالى : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َـ الزخرف: 3
ـ وقال أيضاً: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ـ الحجرات: 13
ـ وقال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح : [ أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد، ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي. ] ومن الواضح هنا أنه يخص المسلمين كافة في تحقق هذه الصفة والمكانة، حتى لا يكون تمميز عرقي. وفي هذه المراجع ـ المعايير نقرأ ونستقرئ ما يلي:
* إن الإسلام لم يلغ الانتماء لقبيلة أو لأمَّة ـ شعب ـ ومن ثمَّ لم ينكر الانتماء القومي أو يتنكَّر له، ولكنه جعله مرجعاً للتعارف والتمايز فقط وليس للتميّز العنصري والتعالي والاستكبار؛ وجعل التقوى هي معيار القيمة وميزان الفضل، وهي التي يكرِّم الله بها عبداً على عبد، ويرفع شخصاً فوق شخص درجة أو درجات. / انظر الآية 13 السابقة من سورة : الحجرات /
* وإن الإسلام الذي أعلن فضل العربية: اللغة التي نزل بها القرآن، لغة أهل الجنة كما جاء في الحديث الشريف، وهي التي تشكل المقومِّ الثقافي الرئيسي لشخصية الرسول العربي ولشخصية أمَّة العرب، أعطى شرف الانتماء إلى العروبة من خلال الثقافة وليس من خلال صفاء الدم والعرق والعصبيات القبلية والقومية / الحديث/ فمن يتكلم العربية من المسلمين يحمل حِمْلها ويتشرب مضمونها، وهو مضمون في مجمله: عقائدي ـ ثقافي ـ معرفي ـ خُلُقي ـ حضاري وإنساني عام؛ وكل من يود أن يَحْسُنَ إسلامه من المسلمين يرغب رغبة صادقة في أن يعرف لغة القرآن، لغة الحديث والفقه والسُّنَّة، وحين يصل المسلم إلى ذلك المستوى من المعرفة يصل إلى درجة التماهي التام مع العربي في المكونات الثقافية والوجدانية العامة التي تحملها اللغة وتغرسها وتكوِّنها وتنميها، ويصبح هو العربي ثقافة وعقيدة ومعرفة بما تحمل اللغة وما يكوِّن الوجدان والقيم وعناصر الحِكمة والحكم والاحتكام في العقيدة ـ الأمة، أو في الثقافة الأمة والحضارة الأمة، من دون أن يفقد خصوصيته القومية ولغته وثقافته ومعطاه الحضاري، ويشارك أعراق المسلمين كافة في صنع الحضارة الإسلامية.

ما هو الانتماء يا تُرى خارج حدود العقيدة واللغة وسلَّم القيم ومبدئيات العدل والحق والإيمان والخصوصيات التي لا تتعارض مع ذلك في النتائج النهائية للسلوك والعمل “التقوى”؟! ومن هم العرب خارج هذا الانتماء، لا سيما وهم أمَّة كُرِّمَت بالإسلام، أي بعقيدة البشر العالمية: الكلية التسامح، كلية التسامي، كلية الشمول لما جاءت به العقائد السماوية من صحيح الهدى وسليم المبادئ ورفيع القيم ومكارم الأخلاق، وهي العقيدة التي تشكل قوام دين المستقبل للناس كافة إذا هم أحسنوا الفهم وأجادوا التطبيق.!؟.
وهذا الربط المحكم بين العروبة والإسلام، بين العربي والمسلم، وبين الثقافة العربية ـ الإسلامية، ومشروعية الانتماء الإنساني العام لقيمهما ومقوماتهما الذي تجسده العربية ومفهوم الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قدمه لمن هو العربي ـ ملغياً بذلك كل صيغة من صيغ التعصب والعنصرية والاستعلاء ـ هذا الربط جعل من مفهوم سوريا العربية ـ المسلمة، لكل من العروبة والإسلام مفهوماً إنسانيًّا حضاريًّا متقدماً شاملاً ومتكاملاً مبنياً على ذلك الترابط العضوي ونابعاً منه، فـ “العروبة جسد والإسلام روح”.. وهل يمكن أن يحيا الجسد بلا روح؟! وإذا قُدِّر له جدلاً أن عاش من دونها، فمن عساه يكون وماذا يكون ذلك الجسد؟! وهل يكون أكثر من كتلة من اللحم المتراكم تتحرك بلا سمات أو غايات أو أهداف؟! وهل بلا روح وهوية وشخصية وأهداف يُعْرَف المرء ويشعر بمعنى للانتماء والعيش وبقيمة للحرية والسعادة، أو بأدنى فهم للكون والخلق والخالق وموقعه من ذلك كله؟! وهل يكون في حال انعدام الهوية والرسالة والقيمة أكثر من معدة تُملأ وتُفرَغ من دون أن تعرف كيف ولماذا؟! وويل لابن آدم عندما يتحول إلى مجرد معدة كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.
“العروبة جسد والإسلام روح” عبارة مكثفة تلخص فهماً وموقفاً وفلسفة وتاريخاً وتقدم معطى حضاريًّا ونضاليًّا وإنسانيًّا في سوريا الحديثة إن هي طبقت ذلك بوهي ونأت بنفسها عن التعصب والتطرف والغلو المميتة لحساسية الضمير وقيم الإيمان وأخلاق الإنسان، كما تشكل منطلق رؤية عميقة للثقافة العربية الإسلامية في المشروع القومي والحضاري للأمة العربية التي كانت تقود وتستحق أن تعود، وتقدِّم توجهاً عصريًّا لها في نهجها الاستراتيجي القومي: التحرري والتحريري الذي كان هاجساً للسوريين قبل الكارثة أو الكوارث المستمرة هذه الأيام في أرض الحضارة الأقدم والرسالات الإلهية.
وكل عودة واعية إلى التاريخ القديم، تقدِّم لنا عمقاً وأبعاداً واستخلاصات تزيد هذه العبارة قوة واستمراراً من حيث المدلول والأبعاد، وتُمِدُّها بدفق حيوي بلا حدود. فمُذ كانت الشام في ظل الإسلام كانت موقعاً ممتازاً ومتميِّزاً في الحضارة العربية ـ الإسلامية، وحصناً ثقافيًّا ونضاليًّا تحتمي به الأمة وتتحصَّن بقوته ووعيه ومبدئيته لتستعين بذلك على الشدة وكشف الغمَّة، ولتمتلك من بعد ناصية أمرها وقوةً تدفع بها عن نفسها غوائل الأيام وعدوان المعتدين.
ففي العصر الراشدي تمت السيطرة على غطرسة بيزنطة بمعركة اليرموك التي قادت بدورها إلى فتح دمشق وتحرير الشام من حكم البيزنطيين، وفي العصر الأموي بُنِيَت الدولة العربية الإسلامية بالمعنى العميق والدقيق للكلمة، بهوية وشخصية واضحتين ورؤية عميقة ووعي حضاري وتوق للتقدم بأصالة، وانتشر الإسلام في الأرض بما لا نظير لسرعته في التاريخ، ودفعَ العربُ المسلمون البيزنطيين بعيداً وأزالوا تهديدهم، بل وهددوا حصونهم وتجمعاتهم ووجودهم، ودقوا أبواب القسطنطينية وخيموا عند سورها حيث قاتل ودن هناك الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري، وامتدت الدولة من “خيوة” إلى أقاصي إسبانيا.. وكان ذلك انطلاقاً من الشام ومن وعي ثقافي ـ عقائدي واضح وقوي تلتزم به الشام ويؤسس وجودها وانتماءها.
وفي الحروب الصليبية أطلق نور الدين زنكي مشروع المواجهة والتحرير من أرض الشام، ووحَّد صلاح الدين الأيوبي جند مصر والشام وانطلق لتحرير القدس وسائر الأراضي المحتلة على أرض الوحدة الصلبة، ودَحَرَ الصليبيين وأعاد تحرير المحتل من سوريا الطبيعية.. بلاد الشام.
وفي العهد العثماني كانت الشام منبر الفصحى وأرض الدفاع عن اللغة العربية والهوية القومية، وحمت شخصيةَ الأمة العربية وانتماء هذه البلاد ووجهها الثقافي وماضيها الحضاري، وقاومت التتريك، وقدَّمت شهداء على هذه الطريق، وتمكَّنت من تحقيق صحوة قومية تحاول أن تنقذ العروبة والإسلام معاً مما خطط له اليهود الدونما بالتعاون مع الاستشراق الاستعماري الغربي وقوى الغرب المستعمِر المتقدم صناعيًّا التي كانت تسيطر عمليًّا على قرار الباب العالي.
وبعد الحرب العالمية الأولى، وسيطرة الفرنسيين والبريطانيين على بلاد الشام وتقسيمهم لها إلى دول الجغرافية السياسية الأربع التي نعيش في ظلها اليوم، دول معاهدة سايكس ـ بيكو، قاومت سورية كلُّها الاستعمار والمشروعَ الصهيوني الذي كان يحتضنه الاستعمار ويبشر به ويعمل له، وهو المشروع الذي يهدد النبض القومي كله والوعي العربي ـ الإسلامي كله بَلْهَ القضية المركزية، قضية فلسطين، وأبعادها.
واستطاعت سوريا النَّواة الصلبة للشام أن تنجز استقلالها بعد ربع قرن من الاحتلال الفرنسي البغيض الذي كانت سنواته ثوراتٍ وكفاحاً مسلحاً ونضالاً رسميًّا وشعبيًّا عاماً، أدت إلى الاستقلال عام 1946؛ ومنذ عام 1948 وسوريا تدافع عن الثوابت والحقوق القومية العربية والإسلامية في فلسطين، ومنها القدس الشريف بما تمثله للثقافتين العربية والإسلامية وللجذر الثقافي والبشرى العربيين في هذه المنطقة من معطيات حضارية، وتتصدى للمشروع الصهيوني العنصري ـ التوسعي ـ الاستيطاني، وتخوض صراعاً مراً مكلفاً إلى أبعد الحدود، وتدعو للوحدة سبيلاً للقوة والتحرير، وإلى مقاومة أشكال النهب والسيطرة والغزو الاستعماري والصهيوني، سواء أكان ذلك الغزو: ثقافيًّا ـ سياسيًّا، أم اقتصاديًّا واجتماعيًّا، أم عسكريًّا.
وعندما دعت سوريا إلى نهضة قومية وحرية شاملة ووحدة كان كثرة من أبنائها يدركون جيداً أن ذلك أحد أهم مداخل الخلاص القومي، وبداية التأسيس للنهضة العربية الإسلامية؛ وكانت سوريا كلها ترى الخطر الكبير الذي يحمله المشروع الصهيوني على العروبة والإسلام معاً، ثقافيًّا وحضاريًّا وأمنيًّا، وتدرك أن المشروعين، العربي والصهيوني، متناقضان متناحران متضادان ولا يمكن أن يتعايشا أبداً، بل إن تلاقيهما في هذه الأرض معناه استمرار الصراع والتوتر وأشكال الحروب وغياب كل ملمح من ملامح السلام والأمن والاستقرار، لأنه لا مجال للتعايش بين العنصرية الصهيونية وثقافتها التلمودية ـ الاستعمارية التي تعيش حالة مزمنة من التزييف والكذب والخداع، وتبيح استعباد الآخرين واستباحة أرضهم ودمائهم وأملاكهم وأعراضهم، وتقول بإبادتهم كليًّا إذا ما وقفوا في وجه مشروعها الذي يرتدي مسوح “الرب التلمودي العنصري”، ويمتح من تبعية اليهود لتعاليم “يهوة”: إله العشيرة والدم والحقد والخراب والإرهاب والموت.. مشروعها الذي يجسِّد خططها العنصرية الاستعمارية التي تنفذها بتواطؤ مع الغرب الذي يتآكَّله حقد تاريخي قديم على العروبة والإسلام معاً.. وها هي نتائج الحقد والتوسع العنصريين الصهيونيين أمامنا اليوم في آخر جولات المفاوضات العبثية العقيمة برعاية الرئيس أوباما وكيري تتجلى أمامنا غطرسة وتهديداً، وهاهو موشيه بيغي يعلون وزير العدوان الصهيوني يقول اليوم:“إن فكري هو أنه في المكان الذي لا يسكن فيه اليهود لا يكون فيه أمن”.. فتأملوا وتبصروا؟! لقد رأت سوريا ببصيرة ألا مجال للتعايش بين ذلك المشروع الصهيوني العنصري وبين العروبة القائمة على إرث حضاري ـ إنساني عريق، والمستندة إلى تعاليم الإسلام.. دين التسامح المتوجِّه إلى البشرية جمعاء .. الإسلام الذي لا يرى لعربي فضلاً على أعجمي إلا بالتقوى، والذي يقول: “من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً” الآية. وهذا التزام رفيع المستوى حيال البشرية كلها يلتزم به المؤمن المنتمي لحضارة العروبة والإسلام بوصفه من مقومات دينه.. فاسأل عرب اليوم عن العروبة وقيمها، واسأل مسلمي اليوم عن الإسلام وأحكامه، في ضوء العقيدة والانتماء والإخاء.. وفي ضوء ما يجري في سوريا من دماء، واسأل عمَّ يتم من تدمير لعمران الأرض وعمران الأنفس والأخلاق وقيم الناس وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وعن القيم الإنسانية بصورة عامة حيث تفترس الوحشية البشرية المثيرة للرعب والاشمئزاز حياة الناس وحاضر سوريا ومستقبلها، واسأل عن القتل على الهوية في حالات وعن المفخخات والمتفجرات والقذائف والبراميل والراجمات وكل أدوات القتل المتداول أداؤها بين أبناء بلد كان يسوده الأمان وتسكنه المحبة.. واسأل عن صِفِّين جديدة عصرية مديدة بتجمعات عربية ـ إسلامية فريدة وغايات أبعد من بعيدة، وكان من الحكمة ألا تكون صفين أصلاً فكيف ونحن نتوارث عللها وعقابيلها؟ وآن لها أن تنتهي لأنها من المهلكات ولأن أوانها فات وفات وفات، ولأن استمرارها فتنة وفجور وخروج على الإسلام ونقض لكل معمار أقامه الرسول الأكرم والصحابة الكرام والتابعون بإخلاص حتى يوم القتل هذا.. ولأن في ذلك ضلالا وتهلكة للحرث والنسل، وضعفا أمام العدو المحتل، وتدميرا للعلاقات والقيم ومقومات العيش المشترك، ولفرص التحرير الواجب، وللحرية المطلوبة بصيغتها الوضعية ومعناها الإنساني ومسؤولياتها الوطنية والقومية وأبعادها الاجتماعية والأخلاقية.. واسأل يا رعاك الله عن مآسٍ لا حصر لها يجرها على سوريا وشعبها سوء الفهم والتقدير والتدبير والتصرف وقصر النظر وجاهلية من نوع مجنون، وممارسات أسست لكوارث من دون أن يرعوي من يقومون بها أو يعوا مخاطرها الشاملة، حيث استطابوها واستحلوها واعتبروها حقاً من حقوقهم؟! لا ندري بأية صفة ولا بأي حق ولا تحت أي مسوِّغ فعلوا ويفعلون ذلك ويمضون في غيهم إلى نهاية النهايات!! واسأل عن مبالغات في الغلو من كل الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية تجاوزت كل حد وأوغلت في الإجرام وسفكت الدم وأباحت ما حرم الله، وألحقت بالشعب السوري الأبي العار حيث أعراض له تستباح، وأطفال هم مستقبله يقتلون، ومخيمات البؤس تنتشر في بوادي القريب والبعيد ويذل فيها أبناء شعب يأنف الذل ويصعب عليه الحال الذي هو فيه وانسداد آفاق أمامه، ويعاف الحياة مع الحاجة والسؤال.. اسأل واسأل واسأل عن سوريا الحضارة والثقافة والتاريخ، سوريا العروبة والإسلام، سوريا الوطنية والقومية العربية، سوريا الشعب الذي نذر نفسه لأمته فكان نصيبه أو صار نصيبه اليوم منها ومن بعض بنيه، تشرا ورعبا وجوعا ودمارا ومنافي وموتا .. اسأل ولا تنس يارعاك الله عن سوريا الحاضر الغارقة في النار والوحل والدم وعن سوريا الحضارة التي يكاد يحجبها الحاضر، وقارن وقارب وسدد الرأي لا الرمية وصب الحق والعدل لا جسداً بريئاً أو قرية وادعة أو حياً أو مدينة أو العمران الحضاري كله في الشام حيث بناء الأوطان وبناء الإنسان تواشجا على مر الزمن فكانت الحضارة التي ترفض عار الحاضر وذله ومره، وتطلع بنفَس إنساني إلى غدٍ سوري أفضل هو بالضرورة عربي وإسلامي وإنساني وسلمي آمن مزهر ومزدهر، وأفضل بكل المقاييس من حاضر ذابحٍ وذبيح وفقاً لقراءة نقدية منهجية مسؤولة للواقع الحاضر في ضوء التاريخ الحضاري الغابر للأمة العربية، وللشام جوهرة العقد على صدر الأمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 380 / 2165400

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ملفات  متابعة نشاط الموقع فكرسياسي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2165400 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010