الخميس 12 كانون الأول (ديسمبر) 2013

بكين وواشنطن والنار تحت الرماد

الخميس 12 كانون الأول (ديسمبر) 2013 par علي بدوان

تتميز السياسات الخارجية لجمهورية الصين الشعبية بالهدوء والتروي، وخوض معارك السياسة في ميدان السياسة والعمل الدبلوماسي وحده بنفس طويل وصبور، وعدم الانزلاق أو التعجل في علاج الملفات الشائكة الموضوعة على أجندة المجتمع الدولي بجوانبها المختلفة بما فيها الجانب الاقتصادي خصوصاً في ضوء الأزمات المالية في بعض دول أوروبا (دول منطقة اليورو) والأزمة المالية الكبرى التي عصفت بالولايات المتحدة منذ عدة سنوات. وتواصل بالمقابل تموضعها موقع على الخريطة المركزية للقوة العالمية، دون أن تنتهج مسارات الصعود التي سلكتها قوى سبقتها، بل وتحولت إلى رصيد احتياطي للاستقرار المالي العالمي المحتمل، بل وللحوكمة العالمية.
كما تتميز السياسات الخارجية لجمهورية الصين الشعبية بثوابت عامة، تحكمها المصالح الوطنية الصينية أولاً، كما تحكمها سمة الانشداد لإرث العلاقات بين الصين وأصدقائها ثانياً، كما تحكمها رؤية استراتيجية تقوم على المصالح المشتركة مع بلدان العالم ثالثاً فقد علاقاتها مع العديد من الدول العربية بصورة غير مسبوقة مما يساعد على تعزيز التنمية المستدامة لدى الجانبين، لكنها في الوقت نفسه لا تتدخل في شؤون أي من الدول العربية، وترفض إسقاط أنظمتها عبر التدخل الخارجي.
وتلك السمات أو الثوابت مكّنت بكين من تجنب الانزلاق في متاهات الدبلوماسية الدولية التي تسارعت مفاعيلها في سياق الأزمات العالمية.
فالصين من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتتبنى سياسة براجماتية مع جميع الدول العربية. وقد دعت الأمم المتحدة مراراً إلى إصلاح نظامها الداخلي وأوليات عمل مؤسساتها، لكي تكون قادرة على وقف سياسة العنف، والعمل على حل المشكلات القائمة بالطرق السلمية التي ترفع مكانتها كمنظمة. وكذا الحال بالنسبة للملف النووي الإيراني حيث شكّل الموقف الصيني عاملا مهما في منع حدوث انزلاق كبير في منطقة الخليج والتوصل لاتفاق مجموعة (5 + 1) مع إيران، وبالتالي في وقف التهور في الموقف الأميركي، ووقف سياسات العقوبات التي تنتهجها الولايات في وجه أي دولة تعارضها.
وفي الجانب الآخر من الرؤية الدبلوماسية للسياسة الخارجية الصينية، فإن بكين تدرك ودون أدنى شك بأن صراعها الحقيقي المخفي تحت الطاولة هو مع الولايات المتحدة بشكل رئيسي، التي لا تريد صوتاً عالمياً موازياً أو نداً سياسياً أو اقتصادياً على حد سواء على امتداد المعمورة بأسرها.
فالصين التي تقود اقتصاداً مزدهراً، وتشكّل في الوقت نفسه نداً قوياً للولايات المتحدة، حيث تجري ثورة هادئة في المناطق النائية من الصين بعد أن باتت مناطق شرق الصين الواقعة على بحر الصين مناطق متطورة جداً بالمقارنة مع مناطق الداخل والغرب الصيني. وهنا لا بد من الإشارة بأن النمو المتسارع في عموم الصين مدعوماً بإصلاحات اقتصادية دفع بالصين لتصبح عملاقاً اقتصادياً يمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم الآن.
ويشار إلى أن الصين قامت قبل فترة ليست بالبعيدة بإطلاق صندوقين بقيمة 225 مليار يورو (302 مليار دولار) للاستثمار بكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يؤشر عن النشاط المتنامي لبكين. فقوة الصين لا تتأتى فقط من احتياطيها من العملات الأجنبية وحدها، والبالغة (3.2) تريليونات دولار، بل إنها استمرت في تعزيز المنتديات التي تقيمها مع الاتحاد الأوروبي على مختلف الأصعدة.
وعليه، فإن الجمر المتقد تحت الرماد بين بكين وواشنطن، يغلي على ضوء المنافسه الاقتصادية الصينية لدور الولايات المتحدة الاقتصادي، وتحديداً مع امتلاك بكين لمخزن هائل جداً من العملات الصعبة القادرة على إنقاذ نصف العالم ومنطقة اليورو من أزماتها الاقتصادية المتراكمة ومنها أزمات الرساميل المالية.
وهنا علينا أن لا نهمل باقي الجوانب في ميدان العلاقات الصينية الأميركية، فأحد أوجه الصراع بين بكين وواشنطن، يتبدى في الهجوم العنيف من الثقافة الغربية بميادينها الفكرية والثقافية على الصين على حد تعبير الرئيس الصيني السابق (هوجين تاو) الذي أضاف بأن القوى الدولية المعادية (ويقصد الولايات المتحدة بشكل رئيسي) تكثف المؤامرة الاستراتيجية لتغريب الصين وتقسيمها وتفكيكها على المدى الطويل.
وقد ردت بكين وترد الآن على محاولات الاختراق والتغريب بواسطة أجيال جديدة من وسائل الإعلام المتطورة التي تبث بعدد من اللغات العالمية، وعبر زيادة التبادل الثقافي والمنح الطلابية مع بلدان مختلفة في المعمورة منها بعض البلدان العربية وإيران على سبيل المثال، حيث باتت أعداد الطلاب الأجانب في الجامعات الصينية تقارب نحو نصف مليون طالب يدرسون في مختلف الإختصاصات العلمية والأدبية، وأداب اللغة الصينية.
وعلى سبيل المثال، أعلنت بكين قبل عدة أعوام عن عزمها إنفاق مليارات الدولارات لتطوير وسائل إعلام عالمية عملاقة لتنافس كبرى المنابر العالمية، فيما استثمرت نحو (8,9) مليار دولار في أعمال الدعاية الخارجية بما في ذلك قناة شينخوا للأخبار وصحيفة الشعب اليومية ومطبوعاتها الواسعة في مختلف أقاليم ومدن الصين ومواقعها الإلكترونية باللغات المختلفة ومنها اللغة العربية. فالصين تتبنى فلسفة (عولمة أكثر إنسانية).
وفي المقابل، إن بعض الارتباكات ما زالت تسجل على أداء الصين بالجانب المتعلق بالمسألة الثقافية والدعاية والإعلام، وهو ما يفترض قيام السلطات المعنية بإيجاد الحلول الناجعة لتلك المشاكل عبر توسيع دائرة حرية العمل الثقافي المدروس، وتفادي استغلال الخارج لأي حدث صيني داخلي يتعلق بهذا الأمر كما حدث أكثر من مرة.
إن الصين التي حققت قفزات هائلة في نموها الاقتصادي ورفع مداخيلها ودخلها القومي، وفي تثبيت حضورها السياسي، باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى هدفاً لموجات الاستهداف من تحت الطاولة من قبل الولايات المتحدة، فيما تقابل بكين السلوك الأميركي إياه بمزيد من الحكمة والاقتدار عبر زيادة دورها الاقتصادي وتطورها المنتج.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2177866

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2177866 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40