السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

الدستور الذي يريده المصريون

السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par د. محمد السعيد ادريس

على مدى الأسابيع الماضية، ومنذ بدء “لجنة الخمسين” الدستورية أعمالها، تحولت معظم منتديات الأحزاب والجمعيات إلى ورش عمل للبحث في ماهية هذا الدستور الذي تريده مصر وتطمح إليه . البعض شغلته تفاصيل المسودة الرديئة للتعديلات المطلوبة في دستور 2012 التي أعدتها “لجنة العشرة” وهي اللجنة المصغرة التي اختارها الرئيس المؤقت عدلي منصور للقيام بمهمة مراجعة ذلك الدستور وتقديم مشروع دستور يعرض على لجنة الخمسين لمناقشته وتعديله أو إقراره . لجنة العشرة تلك تكونت من خمسة مستشارين قضائيين وخمسة أساتذة قانون من الجامعات المصرية، تم اختيارهم حسب الأقدمية وليس حسب الكفاءة، اعتقاداً من الرئيس المؤقت، أن رجال القضاء وأساتذة القانون هم أكثر المتخصصين وأبرز الكفاءات في مجال صنع الدساتير، لذلك تم تغييب أساتذة العلوم السياسية والاقتصاد والأدب العربي وخبراء الثقافة وخبراء الاستراتيجية عن هذه اللجنة، وتكرر الخطأ مرة ثانية في اختيار لجنة الخمسين، لذلك جاءت المسودة قاصرة وركيكة الصياغة وقاصرة المعاني والدلالات وتكرر القصور ذاته في مناقشات لجنة الخمسين .

معظم ما طرح وما يطرح مازال شكلياً وكلاسيكياً، وبعيداً تماماً عن فحوى ومضمون ما هو مثار لدى المصريين من أولويات في ظل زخم ثورتين هائلتين فجرهما الشعب المصري في غضون عامين ونصف العام . أسقطت الثورة الأولى (ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2012) نظام الاستبداد والفساد، وأسقطت الثورة الثانية (30 يونيو/ حزيران) نظاماً فاشياً تدثر بلباس الدين استهدف التمكين في حكم مصر على أنقاض كل الثوابت الوطنية والتاريخية والتحالف مع أعداء الأمة لإقامة خلافة دينية إخوانية موهومة .

فتركزت مناقشات لجنة الخمسين حول شكل نظام الحكم، هل يجب أن يكون نظاماً رئاسياً أم برلمانياً مختلفاً وبنسب لم يتفق عليها بين ما هو رئاسي وما هو برلماني، كما تركزت على قضايا كلاسيكية دستورية باتت ثابتة في الفقه الدستوري مثل الفصل بين السلطات، وتركت القضايا الجوهرية التي تعبّر عن مضمون الثورتين وما يريده المصريون منهما .

تجاهلت اللجنة أن الثورتين أسقطتا معاً الدولة التي ظلت تحكم مصر على مدى أربعة عقود كاملة كانت لها معالم محددة بغيضة: كانت دولة “مستبدة وفاسدة” في إدارتها لشؤون المجتمع، عزلت المجتمع نهائياً وأقامت دولة “الشخص” المستبد، حيث تمت شخصنة كل شيء، المؤسسات والسياسات، وجرى الإفراط في الاعتماد على أدوات القمع السلطوية والأجهزة البوليسية والاستخباراتية، فكان الفساد هو المحصلة لاستيلادها . وكانت “دولة رخوة” في علاقاتها بالخارج، كرّست التبعية للغرب وخضعت للهيمنة الأمريكية، ورهنت الإرادة الوطنية لاتفاقية سلام مذلة مع الكيان الصهيوني، وكانت دولة ظالمة في علاقاتها مع شعبها، صادرت حقوقه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بقدر ما اعتدت على حرياته، وصادرت ثرواته الوطنية لمصلحة النظام ومنتسبيه، وكانت أيضاً “دولة فاشلة” بقدر ما كانت عاجزة عن الإنجاز في كل المجالات، في مجالات الأمن الوطني، في العلاقة مع العدو الصهيوني، وفي مجالات الاقتصاد والعلم والصناعة والزراعة، بل والرياضة والثقافة والإعلام، في ظل شيوع دعايات كاذبة ومخادعة عن أوهام قدراتها الريادية . وفضلاً عن هذا فرّطت في قضايا مصر الاستراتيجية وعلاقاتها بأمتها، وأجهضت حلم وحدة الأمة، وأهدرت قضية فلسطين لمصلحة مشروع سلام موهوم مع العدو . وجاءت “دولة الإخوان” لتكمل مسيرة التحول الفاشي الديني، والانحراف في التوجه والأهداف الوطنية، وفرض هيمنة الجماعة وحكم المرشد على أنقاض الدولة المدنية الديمقراطية .

المطلوب بعد إسقاط هذه الدولة إقامة الدولة البديلة التي يريدها الشعب والدستور هو بوتقة أو وعاء التأسيس لهذه الدولة البديلة، فعلى الدستور أن يضع قواعد ومرتكزات واضحة وأصيلة لدولة القانون والعدل بدلاً من دولة الاستبداد والفساد، وأن يؤسس لدولة قوية بدلاً من الدولة الرخوة . دولة قوية مقتدرة تمتلك استقلالها وإرادتها الوطنية ولا تخضع لتبعية أحد، ولا تعتمد على أحد، وأن يقيم الدولة العادلة التي تقر صراحة كل حقوق الشعب المصري: الحقوق الاجتماعية وفي مقدمتها حق العلاج المجاني، وحق التعليم المجاني، وحق العمل الشريف، وحق السكن اللائق، والحقوق الاقتصادية في تذويب الفوارق بين الطبقات وتمكين كل مواطن من نصيب عادل في الثروة الوطنية، وضرورة تعظيم وتطوير هذه الثروة، والحقوق السياسية، خاصة الحق في السلطة والحكم عبر تداولها السلمي الديمقراطي، ومنع أي احتكار سياسي للسلطة، أو أي احتكار للثروة، ومنع تحكم رأس المال في الحكم، ثم ضرورة إقامة الدولة المنجزة القادرة على القيام بالوظائف الأساسية: الوظيفة الدفاعية الأمنية، والوظيفة التكاملية، والوظيفة التنموية .

وتجاهلت اللجنة أن الأولوية ليست لحسم الخلاف حول شكل الحكم، هل هو رئاسي أو برلماني أو مختلط، بقدر ما يجب أن يكون حول حسم طبيعة الدولة، هل هي دولة دينية يحكمها رجال الدين أم هي دولة عسكرية محكومة من العسكريين، أم هي دولة مدنية ديمقراطية . الخيار الوطني هو للدولة المدنية الديمقراطية من دون أن يعني هذا أن الدولة ضد الدين، أو أن الدولة تعادي العسكريين، ولكن الدين هو هوية الأمة، والجيش هو درعها الحامي، ويجب أن تكون هناك حدود فاصلة في علاقة الجيش بالسياسة ورقابة البرلمان والرئىس على أداء الجيش وميزانيته من دون أي تدخل حزبي في الجيش، والحفاظ عليه كما هو وكما كان دائماً “وعاء خالصاً للوطنية المصرية الحقة” .

وتجاهلت اللجنة أن الدستور الجديد يجب أن تكون له فلسفته الخاصة النابعة من ثورة استهدفت الدفاع عن حرية المواطن وكرامته (ثورة 25 يناير)، وثورة استهدفت تحقيق حرية وكرامة الوطن وعزته (ثورة 30 يونيو)، وأن هذا كله يجب أن يكون محور ارتكاز الدستور الجديد، أي إقامة دولة الحرية والعزة والكرامة، الدولة التي تحقق حرية وعزة وكرامة المواطن، والدولة التي تحقق حرية وعزة وكرامة الوطن .

هذه هي أولويات المصريين الآن ومن أجلها قاموا بثورتين، وبدونها لا يكون هناك أي مردود للثورة، والدستور يجب أن يكون هاجسه هو إقامة دولة الحرية والعزة والكرامة بدلاً من الهاجس الإخواني السلفي الذي تملّك عقول وأفئدة من قاموا بصياغة دستور ،2012 فقد كان هاجس هؤلاء الوحيد هو الشريعة، وما عداها فليس له أي قيمة تذكر، وطالما دوّنوا في الدستور ما يريدون من أمر الشريعة، فبقية المسائل مجرد مسائل هامشية، لا دولة، ولا اقتصاد، ولا استقلال، ولا شيء آخر له أهمية .

ثورة 30 يونيو استعادت ثورة 25 يناير التي اختطفت، والدستور الجديد يجب أن يفرض فلسفته من دون تجاهل لحقيقة شديدة الأهمية وهي أنه لا يكفي أن نضع مرتكزات إقامة الدولة القوية المقتدرة والعادلة دولة الحرية والعزة والكرامة أو نشرع في إقامة هذه الدولة، لكن أيضاً أن نحرص على توفير كل سبل الحماية والدفاع عن هذه الدولة . فمثل هذه الدولة إذا قامت في مصر لن يتركها الصهاينة والأمريكيون وشأنها، سوف يتعاملون معها كمصدر أساسي للتهديد الخطير لوجود الكيان وللمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وفي وطننا العربي على وجه الخصوص، فنكسة يونيو 1967 لم تكن فقط بسبب تقصير عسكري أو سياسي مصري، لكنها كانت مؤامرة متكاملة الأركان، مؤامرة أمريكية “إسرائيلية” لتدمير المشروع النهضوي العروبي لجمال عبدالناصر الذي استهدف إقامة دولة الحرية والعزة والكرامة في مصر لتكون نواة التوحيد العربي وتحرير فلسطين .

أسقط الغرب التجربة النهضوية الأولى التي أسسها محمد علي وفرضوا عليه أن يعود ويتقوقع داخل حدود مصر مكتفياً بتوريث حكمها لذريته، وسعى الغرب والصهاينة لاحتواء التجربة الناصرية في أول عهدها في معاهدة تحالف، وعندما فشلوا قرروا إسقاطها مرة بالعدوان الثلاثي عام ،1956 وأخرى بعدوان يونيو 1967 .

لذلك فإن الدرس المهم هو ضرورة أن يتزامن البناء مع القدرة على الدفاع عنه: تنمية مع أمن ودفاع حقيقيين، عندها تكون الثورة قد نجحت في مصر على كل المتآمرين عليها، وتكون مصر قد وضعت لبنات عودة قوية إلى أحضان العروبة الدافئة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 62 / 2178340

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2178340 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40