الخميس 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2013

مفاجآت في الشرق الأوسط

الخميس 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2013 par جميل مطر

انتهت، أو كادت تنتهي، الأيام الأهم في افتتاح الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة وسط اعتقاد دولي سائد بأنها ستندرج في قائمة الدورات الأهم في تاريخ المنظمة الدولية . تأتي الأهمية ليس من كون القرارات الصادرة عنها ذات قيمة أو أهمية للسلام والرخاء الدوليين، ولكن لأنها الدورة التي يتكرس أثناء انعقادها موقع جديد، وربما دور جديد للولايات المتحدة الأمريكية . وقد يشهد العالم في فترة انعقادها بوادر وضع تصنيف مختلف لقوى النظام الدولي، كما أنه قد يجري في الوقت نفسه “تأليف” معنى استراتيجي وثقافي جديد لإقليم الشرق الأوسط . رأيت ما يشبه الإجماع بين دبلوماسيين وإعلاميين راقبوا الأجواء الاحتفالية المعتادة في مثل هذا الوقت من كل عام . أجمعوا على أن أجواء هذه الدورة غير مألوفة بالنسبة إلى المواظبين من بينهم على حضور خطب رؤساء الوفود والاستماع إلى أحاديثهم في الدهاليز واللقاءات .

هنا يتوقف الاتفاق والإجماع ليبدأ الاختلاف في المعلومات والرأي حول الأسباب الجوهرية التي أطلقت شرارة التغيير في ملامح هذه الدورة وسلوك بعض رؤساء الوفود . اختلفوا حول سرعة تبلور الآثار المحتملة للتغيرات المفاجئة في تصرفات دول بعينها ومردود هذه الآثار على توازن جديد للقوى في دور التكوين في منطقة شرق آسيا، وعلى توازن آخر للقوى في منطقة الأطلسي يكاد يشرف على نهايته . كذلك اختلف الرأي بشدة حول مردود هذه الآثار على حال الفوضى الناشبة في شبكة التفاعلات في منطقة الشرق الأوسط . بمعنى آخر، اختلفت الآراء وتباينت حول المستقبل وما يحمله من مفاجآت للسلام العالمي والشرق الأوسط بالذات، وتوافقت على أننا بصدد سنة حافلة بالتحولات الكبرى في مختلف القضايا وبخاصة القضايا المتعلقة بالأمن والسلم الدوليين، وبصدد صدامات حادة بين رؤى متناقضة لمستقبل الشرق الأوسط .

تعددت اجتهادات المتخصصين في مراكز العصف الفكري لوضع قائمة بأهم تطورات الأسابيع الأخيرة التي أدت مجتمعة أو مجزأة إلى صنع صورة للحالة الدولية مغايرة لآخر صورة بقيت معنا حتى أسابيع قليلة مضت .

تكاد أغلبية الاجتهادات تتفق على أن التقارب الروسي الأمريكي حول الأزمة السورية كان المفجر الأول للتغيير الذي دخل على صورة الدبلوماسية الدولية . أستطيع من موقعي في هذه المنطقة شديدة الاضطراب أن أفهم دوافع الانبهار، رضاء أو رفضاً، بهذا التقارب، خاصة أن الطرفين كانا دخلا منذ سنوات في مرحلة من العناد على مستوى العلاقات بين الدولتين كما على المستوى الشخصي في القيادة السياسية . جاءت فترة ذهب فيها معلقون أوروبيون كبار إلى حد تحميل هذا العناد المتبادل بين واشنطن وموسكو مسؤولية أزمات دولية متفاقمة، مثل الأزمة السورية والسباق على أوكرانيا والنزاع حول جورجيا .

هنا في الشرق الأوسط، قمنا من جانبنا حكومات وإعلاماً بتحميل مسؤولية تفاقم الأزمة في سوريا على حالة العناد التي اتسمت بها العلاقات الأمريكية الروسية منذ صعود بوتين إلى السلطة خلفاً لبوريس يلتسين . بينما راح محللون، وبينهم مؤمنون بنظرية “الانحدارية” في المكانة الدولية لأمريكا، يعززون فكرة أن أمريكا إنما صعدت مؤخراً من لهجتها واستراتيجيتها مع سوريا من أجل التوصل مع روسيا إلى نهاية لمرحلة العناد في العلاقات بينهما والانتقال معاً إلى مرحلة تعاون في بعض شؤون الشرق الأوسط .

هؤلاء يجدون أيضاً في التقارب المفاجئ بين أمريكا وإيران ما يؤيد فكرتهم . بعضهم اعتمد على الحالة الاقتصادية التي تكاد تصير مزمنة . اعتمدوا أيضاً على الصعوبات التي تعترض علاقات إدارة باراك أوباما بالكونغرس وأهمها قضية الرعاية الصحية، وبخاصة في ظل التوقع السائد منذ شهور بأن هذه القضية سوف تصل بالدولة الأمريكية إلى حدود الشلل عند مناقشة الميزانية . كان واضحاً منذ وقت غير قصير أنه يصعب في ظروف كهذه أن تستمر حكومة واشنطن في فرض حصار اقتصادي على دولة بحجم وموقع إيران وعلى نظام صمد في وجه ضغوط دولية شديدة ولمدة طويلة .

من ناحية أخرى، لم تتأخر إيران فتضيع على نفسها فرصة أتاحتها ظروف الحالة “النفسية” التي تمر بها الولايات المتحدة نتيجة الأزمات الاقتصادية والاستقطاب الاجتماعي المتزايد وهبوط “المعنويات” . كنت بين الواثقين بأن القيادة الإيرانية تقترب شيئاً فشيئاً من تقديم مبادرات للتقارب مع الولايات المتحدة، إذ كان بين الاتجاهات المتصارعة في طهران اتجاه يعتقد أنه لا يجوز تصعيد المواجهة مع الإدارة الأمريكية في وقت مشحون بالأزمات الداخلية والخارجية في كلا البلدين . لذلك لم يفاجئني فوز روحاني الصاعد بسرعة وبثقة فوق موجات اعتدال . كذلك لم أفاجأ بحملات “التفهم” الإعلامي والشعبي لإشارات يصدرها النظام عن التقارب مع أمريكا .

كانت الحالة الأمريكية فرصة لا تعوض بالنسبة إلى كل من موسكو وإيران . كان كافياً لكل منهما موقف مجلس العموم البريطاني الرافض لتحالف عسكري جديد مع الولايات المتحدة، هذه المرة ضد سوريا . كان كافياً أيضاً الموقف المتردد بوضوح وحسم من جانب المشرعين الأمريكيين ضد مواجهة عسكرية أمريكية جديدة بالشرق الأوسط .

إلى جانب هذين التطورين الأساسيين حدثت تطورات أخرى لا أتردد في التعامل معها كمتغيرات مستقلة ولا أشك للحظة في أن كلاً منها لعب دوراً مهماً في صنع قرارات سياسية اتخذتها طهران وموسكو وواشنطن .

هناك أيضاً العنصر الذي توليه تركيا أهمية خاصة في العراق وهو صعود أكراد سوريا كقوة انفصالية مؤثرة بفعالية في الأزمة السورية، ومثيرة للعديد من التكهنات حول مستقبل الشرق الأوسط . وعلى كل حال لم يكن الجانب الانفعالي وحده العنصر الذي جذب الاهتمام التركي، إذ ظهر للكافة، عرباً وغير عرب، أن الدور الكردي حيوي في أي جهد يهدف لردع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الإرهابية التي غيرت شكل الثورة السورية وطبيعتها، بل ومصيرها .

يتبقى في قائمة المتغيرات التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في الحالة الدولية التي أحاطت بهذه الدورة الأممية متغيران، أحدهما مصري والثاني سوري . أما المتغير المصري فيتعلق بتطورين لعلهما لم يحظيا بالاهتمام الواجب . ففي اجتماع لوزراء الخارجية العرب عقد في القاهرة قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان هدفه غير المعلن الخروج بقرار أو بيان عربي يؤيد التهديد الأمريكي بقصف مواقع في سوريا، حدث أن اتخذ الوفد المصري موقفاً يتوقعه كل من يعرف جيداً درجة الثبات لبعض “أسس وقواعد الدبلوماسية المصرية”، ولا يمكن أن يتوقعه من استولت على قناعاته فكرة أن مصر المأزومة اقتصادياً ومالياً والساعية بكل طاقتها للحصول على معونات خارجية يجب ألا تقف ضد التدخل العسكري في سوريا . أعتقد أن هذا الموقف المصري كان رسالة واضحة إلى الولايات المتحدة تؤكد أن أغلبية الدول العربية لا تؤيد التدخل الأمريكي .

أما التطور الثاني في المتغير المصري فيتعلق بالتصعيد الذي تشهده الحالة الإرهابية في مصر إلى مستوى فاق أسوأ التوقعات الأمريكية، وصار يهدد استقرار مساحة أوسع جداً من الحيز المحدود في سيناء، وكان فيما يبدو مسموحاً به أو على الأقل مسكوتاً عنه من جانب أطراف عدة . هناك مؤشرات الآن على أن الشبكة الارهابية في مصر مدت خيوطاً لتلتقي بخيوط شبكة الساحل في غرب إفريقيا وشبكة الشباب في الصومال وشرق إفريقيا . الخطر يتفاقم ويحتاج صده إلى تعاون صادق بين الولايات المتحدة وكل من روسيا وإيران اللتين أثبتتا جدارة في التعامل مع الأزمة السورية واستحقتا، في نظر واشنطن، أن تشتركا كلاعبين مؤثرين في شؤون المنطقة .

أين سوريا من كل هذه المتغيرات؟ يخطئ من يعتقد أن سوريا كانت على امتداد السنوات الأخيرة مجرد ساحة تتفاعل فيها أزمة سياسية أو حرب أهلية . الواقع الراهن للأزمة المنتهي بالانفراجة الأعظم في العلاقات الدولية بين أمريكا من جهة وروسيا من جهة ثانية وإيران من جهة ثالثة، يؤكد أن سوريا كانت ولاتزال لاعباً رئيساً . فمن دون سوريا ما كان يمكن أن تحقق إيران وجوداً فعالاً في شرق البحر المتوسط وما كان يمكن أن تطالب بمكانة متميزة في المجتمع الإقليمي الخليجي . من دون سوريا ما كان يمكن لإيران وروسيا معاً إقناع عدد غير قليل من الدول باستعدادهما المساهمة في الحرب ضد الإرهاب وبأنهما ساعيتان للتفاهم والعيش في سلام مع جيرانهما وحريصتان على منع وقوع تشرذم طائفي أو مذهبي في المنطقة العربية . هكذا على الأقل بدا الأمر لدول العالم المجتمعة في نيويورك . كذلك يصعب إنكار أن سوريا وأزمتها ساهمتا في نجاح مساعي فلاديمير بوتين ليستعيد لروسيا بعض أدوارها في الشرق الأوسط، أو لينتزعها انتزاعاً من بين أنياب أمريكا من دون الدخول في مواجهة عسكرية معها أو مع حلف الأطلسي .

مرة أخرى، تكشف سوريا عن براعة سياسية نادرة في استدعاء الآخرين لحمايتها ومكافأتها بسخاء . من كان يتوقع قبل عام أو أكثر أنه سوف يرى ويسمع وزير خارجية أمريكي يشيد بنظام الأسد والتزامه الاتفاقات؟ أو يرى ويسمع بشار الأسد يعيد طرح شروطه لحل الأزمة السورية، الحل نفسه والشروط نفسها التي طرحها في البداية وقضى بعدها سنوات ينسج تحالفات خارجية تضمن له تحقيق ما أراد؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165821

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165821 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010