الأربعاء 30 حزيران (يونيو) 2010

الاستشراق توق معرفي أم مشاريع كولونيالية؟

الأربعاء 30 حزيران (يونيو) 2010 par د. يوسف مكي

تشير كلمة الاستشراق إلى علاقة بالشرق، غير أنه كمصطلح كان دائماً فضفاضاً وغير مرتبط بزمان أو مكان . وعلى الرغم من التباين، الحاد في تحديده كمفهوم، فإنه يشير الى أن دراسة الشرق ومعرفته وفهمه هي الجامع المشترك في كل الآراء التي ناقشته وتتبعت معطياته ومجالاته.

وقد عرّف قاموس اكسفورد المستشرق بأنه الذي يتبحر في لغات الشرق وآدابه وعلومه . ويطلق الاستشراق كمفهوم على الاتجاه الفكري الذي يعنى بدراسة الحالة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة، وحضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة .

ويرى إدوارد سعيد في كتابه: “المعرفة، السلطة”، أن الاستشراق يعني عدداً من الأشياء متبادلة الاعتماد . ودلالته أكاديمية، تشمل كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو بحثه، ويسري ذلك على التعامل مع الشرق، سواء في المجالات المختصة بعلمي الإنسان والاجتماع، أكان المعني بذلك مؤرخاً أو فقيه لغة . إن من يتناول الشرق في جوانبه المتعددة والعامة، هو مستشرق، وما يقوم ببحثه هو استشراق . إنه أيضاً يتضمن الموقف التنفيذي السلطوي للاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهدفه الحفاظ على السيطرة الثقافية عن طريق القبول أو الضغط الإقتصادي المباشر من قبل الغرب .

لقد تأثر إدوارد سعيد في تعريفه للاستشراق بالنكبة الفلسطينية، التي كان هو أحد ضحاياها، وبمطالعاته للدراسات العنصرية التي تعاملت مع قضايا الأمة العربية بصور متحيزة . وقد طبعت هذه الرؤية معظم أعماله وفي المقدمة منها كتاب الاستشراق، وكتابه عن المسألة الفلسطينية .

ويقترب أنور عبد الملك في موقفه من الاستشراق من هذه الرؤية، حيث يلاحظ في دراسته: “الفكر العربي في معركة النهضة” أن المستشرقين الذين صحبوا نابليون أثناء الحملة على مصر بهدف دراسة الآثار المصرية لم يطرحوا أنفسهم كعلماء آثار ولغويين فحسب، بل زاوجوا بين السلطات العلمية والسياسية، وتعاونوا مع أهدافها بشكل كامل، وخير دليل على تلك الغايات هو تهريب المسلات وغيرها من الآثار الثمينة إلى الدولة الأم أو المركز .

أما الدكتور عمر فروخ، فيعرف الاستشراق بأنه اشتغال نفر من العملاء الغربيين بأحوال الشرق، وأن ذلك نشأ بعد الحروب الصليبية نتيجة لعوامل سياسية هدفت لتقديم معلومات ومعارف للقوى الاستعمارية الغربية الفتية، عن أحوال الشرقيين، تسهل على رجال السياسة في الغرب تحقيق الاختراق السياسي والعسكري، وتجعل من التعامل مع أمور الناس العملية في الشرق الغني أمراً ممكناً . وأنه أيضاً غاية دينية لخدمة المبشرين في نشر ديانتهم بين الشرقيين من مسلمين وغير مسلمين . أما الذين انطلقوا من إعجاب خالص لمعرفة أدب العرب خاصة، وفلسفة وعلوم العرب فهم قليلون قياساً بالذين رغبوا في الاستشراق اندفاعاً في أهدافهم السياسية والدينية .

ونرى في هذا الصدد ضرورة التمييز في الدراسات الاستشراقية بين الإنجازات التي تحققت في الحقول العلمية البحثية من مخطوطات ونشر ووثائق ومعاجم وفهارس، وتحقيق نصوص وغيرها، وبين الجانب الأيديولوجي الذي يغلب على الدراسات الاستشراقية، والتي ترد في الأطروحات ومناهج البحث عند تناول الدين الاسلامي والقرآن والسنة . إلا أن ذلك لا يعني أن النوع الأول من الدراسات، حتى وإن التزم بمقاييس علمية في التحليل والاستنتاج، بريء تماماً، ولم تقف خلفه غايات سياسية، فليس من شك في أن المستشرق قد انطلق من أرضية ثقافته ووعيه الخاص وأدوات تحليله بما في ذلك النظريات وطرق البحث . إن استنتاجاته هي وليدة بيئته ومتحيزة بالضرورة لصالح المركزية الغربية وغير عادلة، وما يضاعف في طبيعة الإنحياز هو ارتباطه بعصر الإمبريالية والكشوف الجغرافية، والانطلاق من المركزية الأوروبية .

لكن هذا الاستنتاج يجب ألا يغيب عنا حقيقة أن كثيراً من النقد الذي نمارسه نحن بحق الاستشراق يتم بمعايير ذاتية، وبإسقاط واقعنا وظروفنا المحلية والقومية على تلك الأنشطة، ومن هنا فإن القراءة تكون في الغالب هي قراءة الأنا للآخر . والأنا هنا ليست كتلة هلامية أو ساكنة .

إن النزاهة تقتضي منا التسليم بأنه كان هناك دائماً متخصصون ودارسون أجانب أعطوا من جهدهم اهتماماً كبيراً بالشرق منذ وقت مبكر، إلا أنه كظاهرة أدبية وثقافية بأبعاد سياسية، برز بوضوح مع الهجمة الاستعمارية التقليدية على المنطقة العربية . وفي هذا الاتجاه، فإن كثيراً من الدراسات التي قامت بعملية رصد واستقصاء للحركة الاستشراقية، تشير إلى أن تلك الحركة كانت في معظمها جزءاً من المقدمات التي هيأت لاحتلال الوطن العربي، لكن ذلك لا يعني عدم وجود مستشرقين متعاطفين مع حق شعوب هذه المنطقة في الحرية وتقرير المصير . لقد كان هناك منصفون، درسوا التاريخ والثقافة والآداب العربية، بتأن وروية وقدموا دراسات ثمينة، ما زالت حتى يومنا هذا تعتبر أحد مصادر المعرفة والتاريخ عن المشرق العربي .

إن معظم الذين تناولوا ظاهرة الاستشراق يعتقدون أنها تزامنت مع الهيمنة والاهتمام بالبلدان المكتشفة كموضوع له سحر التاريخ، وله أيضاً عمقه الاقتصادي والاستراتيجي القابل للاستثمار . وهكذا يمكن القول إن الامتداد والتوسع أديا إلى انتشار الظاهرة كجزء من عملية الكشف التي تمثل مقدمات أولية وأساسية لتحقيق عملية الإختراق بأبعادها المختلفة . وفي هذا الصدد يشير مكسيم رودنسون إلى أن المستشرقين يبدأون بدراسة اللغات وجميع المواد تحت دوافع أيديولوجية كاملة، تمثل أقنعة تختفي وراءها رغبات الهيمنة والتحكم .

ضمن هذا السياق، يبدو أن هناك تطابقاً كبيراً بين خريطة التوسع الأوروبي الاستعماري وخريطة التوسع والتقدم في مؤسسات الاستشراق، وذلك هو ما يوضح اتساع نشاط العمل الاستشراقي في الفترة بين 1865- ،1914 وهي الفترة التي شهدت شيخوخة السلطنة العثمانية، وبدء الانقضاض الأوروبي على تركتها، والتي تضمنت توقيع اتفاقيات ومعاهدات ضمنت للأوروبيين حصصاً كبيرة في ممتلكات السلطنة، كما شهدت استقلال عدد كبير من دول البلقان .

إن هذه القراءة تطرح علامات استفهام كبيرة على التوصيف المألوف للمستشرقين الذين لا يرى فيهم سوى مجموعة من الحالمين، تحركهم بشكل فرادى، شهوة المغامرة في بلوغ أقاصي الشرق، وأن تلك الشهوة ربما تصدر عن فنان أو رحالة أو فيلسوف . فلقد كان هناك على الدوام، باستثناءات قليلة، أسباب أخرى وأهداف محددة سلفاً يبحث عنها المستشرق في البلاد المضيفة، التي يجري التخطيط للانقضاض عليها وعلى ثرواتها .

ومع ذلك تبقى هذه القراءة بحاجة إلى المزيد من التدقيق والتحليل في قراءة قادمة بإذن الله .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 118 / 2165864

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165864 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010