الأربعاء 26 حزيران (يونيو) 2013

بلاد الشام والفتنة المذهبية

الأربعاء 26 حزيران (يونيو) 2013 par علي عقلة عرسان

- علي عقلة عرسان

في ظني أن بلاد الشام سوف تنجح في التغلب على الشحن المذهبي الذي يهدف إلى توسيع دائرة فتنة مذهبية “سنية ـ شيعية” يُراد لكرة نارها أن تتدحرج وتتدحرج لتحرق البلاد وتفني العباد وتنتشر عربياً وإسلامياً فتريح صهيونياً وغربياً!؟ وإذا كان هناك من قصار النظر ومحدودي القدرة على التفكير والتدبير والاستشراف وقراءة المستقبل ومآلات الأمور .. ممن يؤزّون تحت نار الفتنة ويدفعون باتجاه القتل والتدمير والحقد والكراهية والتكفير، فإن عليهم أن يدركوا أن نارهم التي أشعلوها ستهمد، وأنهم إنما ينفخون في “قِربة مثقوبة” بعد اليوم، لأن هناك من قابل وسيقابل محدوديتهم وقصر نظرهم وفورات نزوعهم البدائي وتطرفهم المذهبي المقيت ودمويتهم المتوحشة ودعوتهم إلى الفتنة، أياً كان الصف الذي يقفون فيه والدور الذي يقومون به، سيواجَه ذلك كله بقوة تلجم الطيش، وعزم يفل الحقد، وبشيء من الحنكة والحكمة يحول دون أن تفلت الأمور من الأيدي، وأن نضيع ونضيِّع الدنيا والدين، ويصبح كل الوطن، بمن فيه وما فيه، وقوداً لنار حرب مشؤومة، يروج لها أشخاص لا يدركون أنهم أدوات بأيدي أعداء الأمتين العربية والإسلامية، يحركهم من يريد دمارهما وخرابهما، وأن المستفيد الوحيد من فكرهم وجهدهم ومالهم وعزمهم وحروبهم، سواء أكانوا يخوضونها باسم سلطات أو باسم معارضات.. هو العدو الصهيوني المحتل لفلسطين والقدس، وحليفُه الأميركي خاصة والغرب الاستعماري عامة، الطامع بالأمة والمعادي لثقافتها وعقيدتها، ومن يشن عليها حروباً صليبية بمسميات مختلفة منذ قرون وقرون.. أولئك الأعداء الذين لا يزالون يعبثون بنا وبدمنا ومصائرنا وقراراتنا منذ عقود وعقود من الزمن.. وهم يحتلون اليوم الثروة والإرادة والقرار في سياسات وأقطار وتجمعات عربية وإسلامية، ويسيرونها وفق مخططاتهم ومصالحهم، ليصلوا إلى ما يريده الاحتلال الصهيوني، والوحش الغربي الذي يمتص دماء الشعوب منذ قرون.
المسلمون سنة وشيعة يؤمنون بالله وكتبه وملائكته ورسله وباليوم الآخر خيره وشره من الله تعالى، والله عند كل منهم واحد أحد لا شريك له، وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا، ولا يختلفون على القرآن الكريم نصاً وروحاً، هكذا كانوا وهكذا هم منذ قديم الزمان وسيبقون كذلك إلى منتهاه.. وهم لا يختلفون على الحديث النبوي الصحيح، ولا على السنة المطهرة.. ومن لا يُعدّ “مسلماً عاصياً” منهم، وذاك حسابه على الله.. يؤدي الفروض ويقيم الحدود ولا يتنكر لشرع الله. أما اختلافاتهم المبنية على أولوية هذا الخليفة الراشد بالخلافة قبل سواه من الأربعة الكبار، وحول شؤون الحكم وما يتصل بالحكام والأحكام والسياسات، فتلك مما لا يدخل في جوهر العقيدة التي تجمعهم، ومما ينتج أصلاً عن قناعتهم بأن الإسلام دين ودنيا ولا مجال للفصل بينهما، مما جعلهم ويجعلهم يختلفون اليوم حول العلمانية مع أنصارها وحول تطبيق الشريعة مع أنصارها، فذاك جهد مجتهدين ورؤى ساسة ومفكرين ـ وآراء تحتمل الخطأ والصواب، وتتأتى من كون الإسلام “دين ودنيا”، والسياسة في هذا المجال متكاملة فـ “الدين المعاملة” والمعاملة محكومة بالقيم والأخلاق والشرع والقانون ومصالح البشر.. إلى آخر هذا التداخل الذي أوجد له المجتهدون الأفاضل حلولاً ما إن وعيناها وتبعناها وتمسكنا بالكتاب والسنة لفظاً وفهماً ومعنى.. فلن نضل أبداً. على أن تلك أمور تدخل في الاجتهاد وسبل إعمال العقل والحكمة في الأمور ومشكلاتها، والمسلمون أدرى بأمور دنياهم وبما يصلح حالهم ويصلح لها.. ولديهم مرجعيات حواكم في هذا المجال منها القرآن والسنة والقياس.. إلخ وإلى ذلك الإجماع مما لم يكن له سابقة وليس عليه قياس.
لم يختلف الخلفاء الراشدون والصحابة على السنة المطهرة، ولم يخرج أي منهم عليها ولا هو تنكر لها ولا لأي تفصيل من تفاصيلها، وكلٌ أضاف وبنى بعلمه وفقهه وجهده واجتهاده، وكلٌ منهم أخذ من بعض وأضاف، وناصر بعضهم بعضاً وشد أزره بعلمه وعمله وإيمانه وحكمته، وأقر بفضله، ولم يشكك به، ولا خرج على طاعته يوم ولي الأمر.. فعلام تجعلون من بعضهم أضداداً لبعض، ولمَ يشغلنا اليوم نافخ في النار يتكلم بحق عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بما لا يرضي الله، وهو لا يعي مقدار كل منهم ولا يتحلى بأخلاقه ولا يتبعه في حكمه وعمله وعمله، ولا يقيم وزناً لما كان الخلفاء الراشدون عليه، ومنهم عمر وعلي رضي الله عنهما، من وحدة رؤية وموقف في الدين والعلم والعمل.؟! فقد قال عمر بن الخطاب “لولا علي لهلك عمر.” وكان يستشيره في كل شيء، وقال علي في عمر: “.. لله بلاءُ عمر، فقد قوم الأوَد وداوى العَمَد. خلَّفَ الفتنة وأقام السنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب. أصاب خيرَها وسبق شرَّها، أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقِّه. رحل وتركهم في طرق متشعِّبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي.”.. فمال نافخي نار الفتنة ولهؤلاء الائمة؟ وكيف يرفعون راياتهم لينال كل نافخ نار منهم في زمانة مكانة ويكسب ثروة وحظوة يدفع ثمنها دينه ويتربع في المهانة بسببها إلى أبد الآبدين؟! لم يكن عليّ كرم الله وجهه سوى سني حريص على السنة، لم يخرج عليها مطلقاً فهي سنة رسول الله، وقد شارك في تنوير ما رآه البعض حوالكها، وساهم فيها بفكره واجتهاده، ويوم دُعي إلى أن يبايَعَ بالخلافة على سنة الشيخين أبي بكر وعمر لم يرفض سنتهما وإنما أضاف على ذلك قوله: “واجتهادي”.. وهذا فضل اعترف له به الخلفاء من قبل ومن بعد، ومن حقه أن يضيف، وهو لم يغلق باب الاجتهاد الذي فتحه الإسلام كما لم يغلق هذا الباب من سبقه من الخلفاء الراشدين.. وهذه مساحة واسعة من العلم نستنير بها، فأن نستفيد اليوم في فهمنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهد الخلفاء الراشدين الأربع، وكلهم سني راشد وقائد ومجاهد، خير لنا من أن نأخذ بجهد واحد منهم، فالخير زاد يُزاد والشر نقص وبؤس في الزاد والازدياد.
لا تجعلونا أيها الناس، نسير في متاهات من صنع أصحاب الهوى والضلال والتعصب والجهل والجاهلية العمياء، متاهات بشر من حجر، ومن نسل ابن سلول فكراً ومكراً وتآمراً وفعلاً.. دعونا من الفتنة فإنها منتنة ومكلفة وناصرة للعدو ومجهضة للإسلام، وهي منقَصَة بحق كل من يحرص على دين الله والحق والعدل والتسامح في العالم.. فالرسول بعث رحمة للعالمين، للناس كافة وليس للمسلمين خاصة، فكيف لنا أن نقبل رأي ورؤية من يريده لبعض الخلق ولبعض المسلمين ولبعض المتنطعين للدين من بين المسلمين؟! ألا كفاكم وكفانا ضلالاً وموتاً وكراهية وحقداً.. فقد بشمنا من الدم، ويئسنا من طلاب الحكم، وأزهق أرواحنا الظلم والطغيان، وانتشر بيننا سيف فكر يندى له جبين الفكر، وترتفع في فضاء بلداننا أصوات بأقوال ما أنزل الله بها من سلطان.. ونحن نسمع اليوم فلاسفة ومفكرين ومنظرين ومجتهدين، علمانيين وملحدين و“مؤمنين”، بعضهم لا يستحقون أن يكونوا تلامذة في الصفوف الأولى من منظومة تعلم الفكر البناء والحكمة والمعرفة الخلاقة والإبداع والإيمان، ويتطاولون على الناس ويصدرون الأحكام وهم إلى دوائر الاتهاد أقرب منهم إلى المهام التي تبني وتحكم وتعلم.. يتكلمون في تجمعات الناس وهم عبء على الحكمة والحقيقة والناس، ومع ذلك فسلاحهم سلاح الساح، وكلامهم تمتطيه الريح ليدخل نفوساً يخربها ودولاً يدمرها، ويرفع بعضهم بعضاً حمية وحماسة وتعصباً فيحتشدون ويحشدون، وكان الأجدر أن يسفهوا ويهملوا ولا يعتد لأكبرهم برأي أو يحسب من أهل القيمة أصلاً. لقد مللنا كل ناعق بثار، ومشعل لفتنة بنار، وممتط لموجةٍ رديئة: “فكرية وسياسية ووعظية وفلسفية ممن كفر وكفّر وتعفر بالدم إلى من رفض الإسلام وكل دين ورفع سلمان رشدي إماماً وتتلمذ على يدي ليفي سياسة ونضالاً.. إلخ”، مللناهم في فضاء السياسة والثقافة والوعظ والإرشاد والإعلام.. وفيهم كل من يتفيقه في فضائية أو وسيلة إعلامية هنا وهناك باسم الإسلام، يدعو لعلي ضد عمر ولعمر ضد علي.. وما هو منهما في شيء.. وما دعوته إلا دعوة خالصة للموت والمقت لأنها لا تمت إلى الحقيقية والنجاة والعدالة بصلة، وهي أقرب إلى سلوك طريق التكفير، وحرب التدمير، حرب السنة على الشيعة والشيعة على السنة.. وكل ذلك مداخل لأعداء الأمة على الأمة.!! ألا إن هذه طريق موغلة في التيه والضلال والتضليل والموت والنُّكص عن حقائق الدين وجوهر رسالة سيد المرسلين.. ألا والعود عنها أحمد والعودة إلى الله ورسوله أولى وأرشد، والرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه.. فاتقوا الله في الحرث والنسل والزرع والضرع، وميزوا بين ما ينفع الأمة ويقيمها على قدم وساق، وبين ما يهدم أركانها ليقيم للأعداء ركناً بل أركاناً في أوطانها وعلى حسابها.
نعم لا نريد الظلم ولا الطغيان ولا الاستبداد، ولا ممارسة المذهبية والطائفية عملاً والتنطع لمن يذكر ذلك ويذمه ويطلب التخلص منه، قولاً وعملاً، فيقابل بالفتك به أو قمعه وإذلاله وتهميشه.. إلخ.. إن ذاك داء ينشره الأغبياء ويظنون أن الناس لا يدركون مصدره وهدفه وسبله وأدواته وكيفية مواصلة العمل به تحت حد التخوين والاتهام وحتى الرعب.. كفانا فكل منا مدرك ويدرك، وآن لنا أن نعرف أن هذه الطريق تدمر الإنسان والبنيان والدولة والدين، وقد رأينا أفعال ومصائر من تذرع بذلك ليصل إلى غايات هي من تدبير الأعداء يستعملون لها بعض الأبناء.. ألا كفانا، ولنعد إلى الإيمان أو إلى ما نجمع على أنه يبني الإنسان، شرط ألا يلغي أحداً، ولا يسفه شرائح تدرك وتفهم ما يجري، وإن كانت تفضل الصبر والاحتمال على السير في طريق تمرد نهايتها الدمار والموت وإضعاف البلاد وإشقاء العباد.. ألا أنه على من يعتقد أنه يستغفل الناس أن يعيد قراءاته وحساباته واستنتاجاته ليعرف أنما المغفل من يستغفل الآخرين ويجردهم من الفقه والفهم والفطنة.
فلنعد جميعاً إلى بيت الشعب وبيت الأمة، نحتمي بهما ونصونهما، ولنأخذ بالإيمان الحق والفقه الصحيح وبالقرآن والسنة ولنعد بالإيمان والأحكام إلى مصادرها وجواهرها وغاياتها.. وليفهم بعضنا بعضاً ويقدره حق قدره. لن ينفع الذين يحتمون بأعداء الوطن والأمة والدين .. الاحتماء بأولئك، فإن هم حموهم ونصروهم اليوم لغايات وأهداف واستراتيجيات ومصالح فلن يفعلوا ذلك غداً.. فسوف يتغير الزمان وتدول الدول ويأتي وقت يتخلون فيه عنهم، اليوم أو غداً أو بعد غد، وعندها لن يرحمهم الشعب ولن يغفر لهم الوطن، وسوف يدفعون وذراريهم ثمن ما يفعلون.. وليدرك كل من يعتلي سدة الحكم أن عماد الدولة هو العدل، وأن ركائز حكم تنغرس في الدم هي إلى تلف وزوال، فسفك الدم يفسد الحكم ويجبه كما يجب الفأس الشجرة .. ومن ثم يحق للمظلوم أن ينتصف من الظالم، وحساب الله من بعد قادم.. فمن لا يخاف الله والناس يمكنه أن يفعل ولكن إلى حين.. فهو إلى المحنة والنار وإن خلق من طين.
نحن بحاجة ماسة إلى وقف العنف والدمار والفتنة وكل شكل من أشكال الإرهاب والرعب والموت، وإذا كانت الفتنة البغيضة ترفع رأسها هنا أو هناك اليوم.. في هذا الموقع من سوريا والعراق ولبنان و.. فإن الشام بقضها وقضيضها، شبانها وشيبها، تعي مخاطرها، وهي عازمة على عدم الانجرار إلى الفتنة، وستفي بذلك.. وعلى كل من ينفخ في هذه النار أن يدرك أنها النهاية، وأن يتقي الله في نفسه وشعبه وأمته وحتى في نفسه وأهل بيته، فكأس الفتنة دوار، ولن ينجو أحد من عدل السماء إذا هو تفلَّت من عدل أهل الأرض.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 87 / 2165631

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165631 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010