الخميس 16 أيار (مايو) 2013

وهل “النكبة” ذكرى حتى نحييها سنويا؟!

الخميس 16 أيار (مايو) 2013 par جواد البشيتي

بما يشبه “الإدمان”، واظب أهل الفكر والقلم، في العالَم العربي، على إحياء “الذكرى”.. ذكرى نكبة (أو اغتصاب) فلسطين؛ وقبلها ذكرى تقسيم فلسطين؛ وقبلها ذكرى وعد بلفور المشؤوم .. بلفور الذي اعْتَدْنا أن نَلْعَنه ووعده؛ فكفانا الله شرَّ لَعْن أنفسنا، فنحن “الضحية”؛ وكأنَّ مأساتنا التي كانت تَعْظُم سنويًّا ليست من صُنْع أيدينا في المقام الأوَّل.
ولقد كتبوا، متذكِّرين ومذكِّرين إنْ نفعت الذكرى؛ وهي لا تنفع إلا المؤمنين، “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ”؛ وكان كلامهم كلامًا تمجه الأسماع، لا يؤثِّر في العقول والقلوب؛ لأنه لم يقع على أسماع تشبه أسماع متكلميه.
الذكرى إنما هي في الأصل تجربة، والتجربة لا قيمة لها ولا أهمية تُذكر إن لم نخرج منها بما تستحق من دروس وعبر؛ ونحن لم نُظهر، في قولنا وعملنا، ما يؤكِّد ويُثبت أننا الأبناء الحقيقيون للتجربة الكبرى التي نسميها “نكبة فلسطين”؛ في تذكُّرنا وتذكيرنا، فما أكدناه وأثبتناه إنَّما هو أننا ما زلنا أبناء الوهم في انتمائنا إلى تلك التجربة، فلم نعللها، وإنْ عللناها لا نحسن التعليل، وكأن صنَّاع النكبة ظلُّوا فينا، يتحكَّمون في تفكيرنا، ويوجِّهون أبصارنا، ويمسكون بأقلامنا، حتى ننكب عن النطق بالحقيقة، ففي النكب عن الحقيقة، وعن النطق بها، تستمر “النكبة”، التي كان فيها من “الحاضر” ما يجعلها أقرب إلى “المضارع” منها إلى “الماضي”.
سنة 1948، حدث الآتي: نشبت الحرب الأولى بين العرب و«إسرائيل»، وجاء “جيش الإنقاذ العربي” ليقول للفلسطينيين جئناكم لنقضي على الصهاينة ودولتهم، فاتركوا بيوتكم وقراكم، ولسوف تعودون إليها، بعد أيام، آمنين .. اتركوها حتى نؤدي مهمتنا على خير وجه، وحتى لا يصيبكم مكروه.
وخرج عشرات الآلاف من الفلسطينيين ومعهم المفاتيح، فنُصرة الدول العربية لهم كانت الوهم الكبير الذي لم يصدِّقوا أنَّه وهم إلا بعد فوات الأوان.
وقاتلت الجيوش العربية وكأنها تقاتل من أجل صنع “نكبة فلسطين”، فالهُدَن والأوامر العسكرية لم تأتِ إلاَّ لإنقاذ “الصهاينة” من هزيمة عسكرية مرجَّحة أو مؤكَّدة.
والآن، لكم أن تقارنوا بين نكبتين: “نكبة فلسطين” تلك، ونكبة الاعتراف العربي بأن لإسرائيل الحق في العيش في أمن وسلام حتى في الأرض الفلسطينية التي احتلتها في حرب 1948.
النكبة الثانية إنما جاءت دليلًا على أن أسباب النكبة الأولى قد زادت واتسعت وترسَّخت.
الذكرى تنفع “المؤمنين” الذين لن يتأكد إيمانهم ويظهر إلا إذا فهموا “نكبة فلسطين” وفسَّروها على أنها “إنجاز عربي” في المقام الأول، فالدهر العربي نكب فلسطين، فكانت “نكبة فلسطين”.
وكم رَأَيْنا من العرب لا يطمعون إلاَّ في التضامن مع “المنكوبين” بالدواء والعلاج و“فُتات الموائد”.. موائد أثرياء العرب الذين يجوبون بلاد الغرب طولًا وعرضًا لعلَّهم يعثرون على كلبٍ، أو قِطٍّ، يرفقون به، فإسرائيل لا تردع “إنسانيتهم” هناك؛ أمَّا الجياع والمرضى من أطفال غزة فلَهُم “دواوين الشِعْر (الركيك)” الصادرة عن القِمَم العربية!
كان طُلاَّب وتلاميذ غزة يوقدون ما بقي لديهم من شموع من أجل الدراسة والامتحانات؛ لا يرون حروف الكتاب؛ لكنَّهم رأوا خزائن العرب القارونية (نسبةً إلى قارون لعنه الله)“ممتلئةً من”الورقة الخضراء“؛ ورأوا ترسانات فيها من السلاح والذخيرة ما يكفي لـ”فتح“ألف أندلسٍ .. وكانوا، كل يوم، يقرأون في البوابة المصرية من المعبر”إنْ لم تستحِ فافعل ما شئت"!
ليس من أُمَّةٍ على وجه الأرض، وعبر التاريخ، أعَدَّت ما استطاعت من قوَّة أكثر من أُمَّتنا؛ ومع ذلك فإنَّ أحدًا من أعداء الله وأعدائنا لم يُرْهب بهذه القوَّة، وكأنَّها ليست لنا، وليست ضدهم، ولو ظهرت على أنَّها في أيدينا!
إنَّهم عشرة ملايين فلسطيني، ثلاثة أرباعهم في “خُلْد المنافي” يعيشون؛ حياتهم كلها انتقال من تهجير إلى تهجير؛ فمن وطنهم هُجِّروا أوَّلًا، ثمَّ هُجِّروا، بـ“قوَّة الخوف منهم”، من “دنيا حقوق الإنسان”، ومن “دنيا حقوق المواطِن”، فهم بشرٌ لا حقَّ لهم في التمتُّع بـ“حقوق الإنسان”؛ أمَّا “حقهم في العودة” إلى حيث كانوا فتلاشت “واقعيته” بـ“قوة منطق القوة”، وأصبح القول به قولا بـ“الوهم” و“الخرافة”، بحسب “منطق السياسة الواقعية”. وقد طُعِنَ هذا “الحق” بـ“خنجر بروتوس” إذ اتَّهموا اللاجئ الفلسطيني بأنَّه شُغِلَ بالخُلْدِ عن وطنه!
“الفلسطيني” هو مأساة “إنسان بلا حقوق”، مُثْقَلٌ بـ“الواجبات”، التي منبعها “الخوف منه”، وإنْ ألبسوه لبوس “الخوف عليه”. عليه أن يفعل هذا أو ذاك، وليس له الحق في أن يفعل هذا أو ذاك.
خاطبوه دائمًا بهذا “القول البليغ”: انسَ حقك في التمتُّع بـ“حقوق الإنسان” و“حقوق المواطَنة” حتى لا تنسى “حقكَ في العودة”، الذي ينبغي لكَ أن تنساه حتى نتذكَّر حقكَ في التمتُّع بـ“حقوق الإنسان” و“حقوق المواطنة”!
وهُجِّر أيضا .. هُجِّر من “حقِّه في خبزه السياسي”، فلا رأي له في “مفاوضات السلام”، التي غايتها أن تَجِدَ شيئًا يشبه تلكَ “الثلاثين من الفضة”، فيُعوِّضونه به خسارته “حق العودة”، الذي إن ظلَّ مستمسِكًا به سيعود؛ لكن ليس إلى حيث كان .. وإنَّما إلى حيث يمكن أن يكون.
وإنَّني لأتمنى أنْ تقف الدول العربية من وجود اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها الموقف نفسه الذي وقفه ليبرمان (ونتنياهو) من وجود ما يسمَّى “عرب إسرائيل” في دولته؛ فهذا الرجل أبدى، غير مرَّة، إصرارًا على عدم توقيع اتفاقية للسلام مع السلطة الفلسطينية قبل أنْ تلبِّي له مطلبه، ألا وهو نقل “عرب إسرائيل” من “منزله”، وضمِّهم إلى مواطني الدولة الفلسطينية المقبلة.
أليس من حقِّ العرب أنْ يقولوا لإسرائيل إنَّنا لا نريد بقاء اللاجئين الفلسطينيين عندنا، وإنَّنا، من ثمَّ، لن نوقِّع معكَ اتفاقية للسلام، أو لن نستمر ملتزمين لها، إلاَّ إذا أخذتِ اللاجئين من عندنا؟!
أتمنى أنْ تجرؤ الدول العربية على إبداء هذا “العداء الإيجابي” لوجود اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها، فوحده هذا “العداء” هو ما يُقْنعني بأنَّ الدول العربية معادية حقًّا للتوطين.
ذات مرَّة، تحدَّث الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، لصحيفة “يديعوت أحرونوت”« الإسرائيلية» عن “حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة (إلى ديارهم في إقليم دولة إسرائيل)”، فدعا الإسرائيليين إلى الاعتراف بهذا الحق، مؤكِّدًا (وكأنه يطمئن إسرائيل) أنَّ اللاجئين “لن يعودوا”؛ لأنَّ اللاجئ، وعلى ما زَعَم الرئيس المخلوع، لديه من “المصالح الشخصية” ما يمنعه، أو ما يجعله ممتنعًا، عن العودة (إلى يافا وحيفا واللد..).
إنَّه يقول« لإسرائيل» “اعترفي بحق العودة؛ لأنَّ اللاجئين لن يعودوا”؛ وكأنَّ مهمة العرب أن يتوفَّروا على إجابة سؤال “لماذا سيقرِّر اللاجئ عدم العودة؟”؛ أمَّا سؤال “كيف يمكننا، وينبغي لنا، أن نمكِّن اللاجئ من العودة، وأن نشجِّعه عليها بوسائل تشبه تلك التي تزيِّن له عدم العودة؟”، فهذا ما لا مصلحة لهم في أن يسألوه، وأن يجيبوه.
واليوم يقول اللاجئون إنَّ أي رئيس دولة عربية لا يملك التنازل عن حق العودة؛ وإنَّ اللاجئ الفلسطيني نفسه لا يملك التنازل عن حق العودة؛ لأنَّ هذا “المُتنازَل عنه” ليس بالشيء المُمْتَلَك، أو الذي يمكن أن يُمْتَلَك، امتلاكا شخصيا، فالأبناء والأحفاد من حقِّهم الذي لا ريب فيه أن يعلنوا تخلِّيهم عن هذا التخلَّي؛ لأنَّ حق الإنسان في وطنه ليس بالحق الذي إذا تنازل عنه السلف وَجَبَ على الخلف أن يظل ملتزما هذا التنازل؛ ولأنَّ الحقوق القومية والتاريخية للشعوب لا تزول إلا بزوال الشعوب نفسها، ولا يمكنها أبدًا أن تزول بتخلي فَرْد، أو أفراد، عنها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2165779

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165779 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010