الاثنين 13 أيار (مايو) 2013

عودة أمريكية إلى «بيان جنيف»

الاثنين 13 أيار (مايو) 2013 par د. عبد الاله بلقزيز

وأخيراً، عادت الإدارة الأمريكية إلى “بيان جنيف”، قاعدة لتسوية الأزمة السورية سلمياً، بعد طول مماطلة وتمنع . لم يحصل ذلك تلقائياً، ولا نتيجة رشد سياسي عاقل أدركت فيه أمريكا خطورة الفوضى التي تتهدد المنطقة، برمتها، من استفحال أوضاع الاقتتال في سوريا، ولا حتى نتيجة نجاح روسيا في إقناعها بالعودة إلى منطلقات تفاهم جنيف والبناء عليها . . إلخ . حصل ذلك بقوة أحكام ميزان القوى الذي فرض عليها في سوريا، منذ أشهر، وتبين لها معه عقم الحسابات والرهانات التي خاضت فيها منذ عامين، واستسهلت - في نطاقها - عملية إسقاط الموقع السوري، أو أوهمها بذلك من أوهمها من حلفائها الإقليميين المشاركين إياها في تمزيق بلاد الشام! على نحو ما أوهم معارضون عراقيون أمريكا، قبل عشر سنوات، بنزهة عسكرية في بلاد الرافدين: خرجت منها جريحة منهكة!

فعلت الإدارة الأمريكية، خلال العشرين شهراً الماضية، كل ما تستطيع أن تفعله لإسقاط النظام السوري خدمة لمصالحها وللكيان الصهيوني؛ قدمت الدعم اللوجستي والاستخباري والفني للمعارضات والمجموعات المسلحة، وسخرت حليفها الأطلسي الإقليمي لإدارة عملية الضغط العسكري، وتأمين موارده: من مقاتلين مستقدمين من كل أصقاع الأرض، ومن سلاح وخبراء عسكريين ميدانيين، ومال وتموين، وطواقم تلفزيونية، ورخصت لخصوم سوريا في الإقليم لممارسة جميع أشكال التدخل في الأزمة السورية من دون حساب، وساقت قسماً من دول العالم - بوسائل الضغط والابتزاز - لحشرها ضد سوريا، ورعت المعارضة السياسية في الخارج، ورفعت من “تمثيليتها” على حساب المعارضة الوطنية في الداخل، وفرضتها - عبر حلفائها - على “جامعة” الدول “العربية” لِتُمْنَح جماعةٌ مقعد دولة، وأجازت لحليفها الصهيوني أن يتدخل في الأزمة ليقصف مجمعات عسكرية تابعة للجيش والدولة، وأهاجت نصف الكرة الأرضية ضد عنف النظام في دمشق، واستغلالاً لمسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار، من دون أن تقول كلمة واحدة في عنف الدولة الصهيونية ومأساة اللاجئين الفلسطينيين وعمرهما خمسة وستون عاماً (وليس خمسة وستين أسبوعاً)، بل من دون أن تقول كلمة في حق عنف المسلحين ضد الأهالي و”الأقليات” .

فعلت ذلك كله لأنها لا تستطيع التدخل عسكرياً كما حصل في أفغانستان والعراق . لكن حربها بالوكالة - المحلية والإقليمية - لم تبلغ مبتغاها . لِنَقُل إنها حصدت منها نتائج مرضية: تخريب سوريا مجتمعاً ودولة واقتصاداً، وإرهاق جيشها وإضعاف قدراته لتأمين الأمن الصهيوني، وتمزيق الوحدة الوطنية للشعب ودق الأسافين بين قواه وجماعاته الاجتماعية والوطنية، وزرع بذور الضغائن والأحقاد بين سوريا ودول عربية أخرى شاركت في صنع محنتها . . إلخ . لكن تلك النتائج، على عظيم فوائدها على أمريكا و”إسرائيل”، لم تفتح سبيلاً أمام نجاح ما كان يبغيه الأخيران من تفجير الأوضاع في بلاد الشام، فالنظام والجيش لم يصمدا فقط، وإنما أحرزا نجاحاً في استيعاب الحرب يعترف به الجميع: من أصدقائه حتى خصومه وأعدائه . ولعل ما أصاب الجماعات المسلحة من خسارات عسكرية فادحة: في المواقع والقوى، في الأشهر الماضية، وتبين حدودِ ما يستطيعه ضغطها العسكري على النظام، والخشية من أن ينجح الأخير في إحراز المزيد من الانتصار على طريق الحسم . .، مما كان في أساس قرار إدارة أوباما العودة إلى فكرة التسوية السياسية، وإلى أساسيات جنيف، حتى لا تنشأ وقائع جديدة لمصلحة النظام السوري تعزز موقعه السياسي والتفاوضي في وجه الولايات المتحدة وحلفائها، وتعزز موقف المحور الروسي - الصيني في المنطقة والنظام الدولي .

نفهم، في ضوء المعطيات السالفة، كيف ينقلب الموقف الأوروبي، فجأة، رأساً على عقب، بعد طول حديث عن تسليح المعارضة واشتراط تنحي الرئيس الأسد لإنجاز أية تسوية سياسية للأزمة، فلقد سارعت الوصيفات الأوروبيات للملكة الأمريكية بمباركة الاتفاق الروسي - الأمريكي منذ اللحظات الأولى للإعلان عنه، لأنه لا سبيل لديها إلا إلى تأييد ومباركة ما ترتضيه أمريكا وتختاره، ولأن بعض مصلحتها محفوظ بوجود الولايات المتحدة شريكاً في التسوية مع الروس، ثم - وهذا هو الأهم - لأنها تدرك مقدار المأزق الذي تعانيه المواقف الغربية تجاه الأزمة السورية في ضوء قدرة الدولة والنظام - غير المتوقعة - على استيعاب كل ذلك الكم الخرافي من الضغوط التي مورست على البلد منذ عامين ويزيد والتي لم يقع قليلها الزهيد على تونس ومصر واليمن .

على أن العودة الأمريكية إلى خيار التسوية السياسية، على قاعدة “بيان جنيف”، ليست تعني أن إدارة أوباما ستكف عن الضغط على النظام، بل الأحرى الاعتقاد أنها ستزيد منه، في الآونة المقبلة، إما من خلال تحريك موضوع تسليح المعارضة من جديد، أو من خلال تجديد الحديث في مسألة استخدام الأسلحة الكيميائية . وهو، في النهاية، ضغط مفهوم: لأن الغرض منه إضعاف الموقع التفاوضي لسوريا وروسيا في أية تسوية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2165851

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165851 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010