الأحد 5 أيار (مايو) 2013

عن استراتيجية أوباما تجاه سوريا

الأحد 5 أيار (مايو) 2013 par علي جرادات

ثمة قراءات وتفسيرات وتأويلات متعددة ومتنوعة للسبب الفعلي الكامن خلف إحجام إدارة أوباما - حتى الآن - عن دفْعِ “حلف الناتو” نحو التدخل العسكري المباشر في الصراع الدائر في سوريا وعليها، بعد تعذر إمكان استصدار قرار دولي بذلك من مجلس الأمن بفعل “الفيتو” الروسي والصيني . بعيداً من تفسيرات الدائرين - بوعي أو بجهالة - في فلك كذبة التفسير الأمريكي نفسه لهذا الإحجام، ومفاده أن السياسة الخارجية الأمريكية - بمجيء أوباما - تغيرت - نوعياً - عما كانت عليه في عهد “المحافظين الجدد”، أي كأنها صارت أكثر توازناً، وأكثر التزاما بقوانين المؤسسات الدولية، ومواثيقها، وأكثر احتراماً لقراراتها الجماعية، وأكثر حرصاً على سيادة الدول واستقلالها .

بعيداً من تفسيرات هذه الكذبة هنالك من يعزو هذا الإحجام إلى اختلاف الظروف والمعطيات الدولية والإقليمية المحيطة بالحالة السورية مقارنة بما كانت عليه عشية احتلال أفغانستان والعراق . وهنالك من يعزو الأمر إلى شدة تعقيدات الحالة السورية وتداخلها مع الملف الإيراني وملف المقاومة اللبنانية . وهنالك من يرى السر في شدة انعكاسات التدخل العسكري الأمريكي المباشر في سوريا على دول الجوار الحليفة للولايات المتحدة، وعلى حليفها الاستراتيجي الثابت، “إسرائيل”، بالذات . وهنالك من يرى في تغلغل حركات التطرف والتكفير في أوساط المعارضة السورية وأجنحتها المسلحة سبباً أساسياً للتردد الأمريكي في دعم هذه المعارضة ومدها بالمال والسلاح النوعي بصورة أوسع وأكبر . وهنالك من يرى أن الأزمة الاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين السبب الأساس للإحجام عن التدخل العسكري المباشر في سوريا، وخاصة أن التورط في حربي أفغانستان والعراق كان أحد الأسباب الأساسية لهذه الأزمة .

باستثناء تفسيرات الكذبة الأمريكية التي لا تصمد أمام حقيقة الدعم الأمريكي لعسكرة الصراع في سوريا والعمل على تحويله إلى حرب أهلية، وإلى صراع عليها، بل، وعلى المنطقة ونظامها الإقليمي، بعامة، فإن كل التفسيرات السابقة، وغيرها مما لم نأت عليه، تصلح لفك لغز ظاهر ازدواجية الخطاب الأمريكي تجاه الأزمة السورية، لكن هذه التفسيرات جميعاً - فرادى ومجتمعة - لا تكفي لتفسير باطن هذه الازدواجية بوصفها تجلياً لاستراتيجية سياسية جديدة تختلف - نسبياً - عما اعتمده “المحافظون الجدد” من استراتيجية في العراق وأفغانستان . ثمة شاهدان يدعمان هذا الاستنتاج، هما، الأول: تجاوز حلف الناتو بقيادة إدارة أوباما قيود روسيا والصين على قرار مجلس الأمن بالتدخل في ليبيا، وتحويله من تدخل ل”حماية المدنيين” إلى تدخل أسقط النظام والدولة معاً . ويتمثل الثاني في دعْم الولايات المتحدة - سراً وبأشكال عدة - عسكرة وإطالة أمد الأزمة السورية، بما يعرقل، بل يمنع، حلها سياسياً على أساس اتفاق جنيف الذي وافقت عليه واشنطن نظرياً .

على ما تقدم تصبح هنالك حاجة إلى البحث في مقاربة أعمق وأدق يمكن من خلالها الوقوف على السبب الفعلي الكامن خلف إحجام إدارة أوباما - حتى الآن - عن حشد حلفائها دولياً وإقليمياً، وقيادتهم في تدخل عسكري مباشر في سوريا، على غرار ما فعلت إدارة “المحافظين الجدد” بقيادة بوش في العراق وأفغانستان . في مقاربة لافتة يرى المفكر الأمريكي الكبير نعوم تشومسكي أن الإدارة الأمريكية الحالية مرتاحة، بل، ومحتاجة أيضاً، إلى الفيتو الروسي والصيني ضد اتخاذ مجلس الأمن قراراً بالتدخل العسكري في سوريا . أما لماذا؟ لأن هذا الفيتو يعطي الولايات المتحدة الظهور بمظهر الحريص على عدم التدخل في شؤون الدول من دون توافر قرار دولي جماعي بذلك، فيما الحقيقة أن إدارة أوباما لا تريد أصلاً - حسب تشومسكي - التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية، ذلك - أساساً وجوهراً - بسبب أن لإدارة أوباما - في ولايتيها الأولى والثانية - استراتيجية جديدة تختلف - شكلاً لا مضموناً - عن استراتيجية إدارة “المحافظين الجدد” بقيادة بوش . ما يعني أن استراتيجية إدارة أوباما تجاه الأزمة السورية تروم - حسب تشومسكي أيضاً - تحقيق هدف إدارة بوش ذاته، أي تعزيز السيطرة على ثروات منطقة الشرق الأوسط، وقلبها الوطن العربي، والحفاظ على تفوق “إسرائيل” فيها، إنما بوسائل أخرى، هي، وإن كانت لا تستثني الوسائل العسكرية، فإنها تتجنب التورط كثيراً في استخدامها مباشرة، وتميل أكثر إلى ممارستها عبر وسطاء، ما يعيد إلى الذاكرة استراتيجية “الاحتواء المزدوج” التي اعتمدتها الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، حين شجعت على اندلاع وإطالة أمد الحرب العبثية بين العراق وإيران، بخسائرها البشرية والمادية الهائلة لدى الطرفين، فضلاً عما تسببت به من تهميش للصراع العربي “الإسرائيلي”، ومن إضعاف لدور ومكانة ونفوذ الدولتين العراقية والإيرانية في المنطقة لمصلحة تعزيز تفوق “إسرائيل” فيها . وذلك من دون أن ننسى ما أفضت إليه تلك الحرب من تداعيات لاحقة دفعت صدام إلى ارتكاب حماقة احتلال الكويت . وهي الحماقة التي شجعت الولايات المتحدة - بطريقة ما - على ارتكابها ثم اتخذتها مع كذبة أسلحة الدمار الشامل ذريعة، (بعد إخراج الجيش العراقي من الكويت)، لاحتلال العراق وتدميره دولة وجيشاً ومجتمعاً . ماذا يعني هذا الكلام؟

على الرغم من ضرورة احتساب أن “السياسة جبر وليست حساباً”، ما يفرض عدم القطع في استبعاد احتمال إقدام الولايات المتحدة على حماقة قيادة عدوان عسكري مباشر ضد سوريا أو إقدامها على دعم “إسرائيل” للقيام بمثل هذا العدوان، بضربات موضعية أو واسعة، ضد سوريا أو ضد المقاومة اللبنانية أو ضدهما معاً، دون أن ننسى تداخل كل ذلك مع الملف الإيراني، إلا أن ثمة ما يجيز اعتماد منطق مقاربة تشومسكي أساساً لتفسير إحجام إدارة أوباما عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية، وذلك ليس فقط بسبب أن مثل هذا التدخل ينطوي على احتمال إشعال حرب إقليمية غير مضمونة النتائج، بل، أيضاً وأساساً، بسبب أن استراتيجية تغذية الصراع العسكري المجنون داخل سوريا وتحويله إلى حرب أهلية طويلة الأمد، بما يعيق، كي لا نقول يمنع، توجهات حله سياسياً، هي بكل المعاني، استراتيجية أنجع لتدمير سوريا الدولة والجيش والمجتمع والدور والمكانة، بمعزل عن طبيعة نظامها واسم ولون من يحكمها لاحقاً كدولة فاشلة وربما مقسمة أو قابلة للتقسيم والتقاسم . إنها استراتيجية “الاحتواء المزدوج” في حلة تناسب خصوصية سوريا وتستجيب لراهن مستجدات النظام الدولي، وتأخذ بعين الاعتبار تداخلها مع ملف المقاومة اللبنانية، عدا تشابكها مع الملفين الإيراني والعراقي ومع ما يجري التخطيط له من نظام إقليمي جديد يكون ل”إسرائيل” فيه الدور الأساس في السياسة والاقتصاد والأمن .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2165538

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2165538 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010