الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010

في الحامل والمحمول : الإقليم العربي وأقدار الثنائيات

الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010 par أيمن اللبدي

مهمات استراتيجية :

ثمة مهمة أساسية اليوم تقف أمام المستقبل العربي بشكل لا يقبل التأجيل، ألا وهي مهمة فهم صحيح ودقيق لما يجري في هذا الإقليم العربي، وإن ما يشخص تالياً بعد مهمة الفهم الدقيق هو مهمة أخرى أكثر خطورة تأخذ قيمة العملياتية التي ستنبني على هذا الفهم، وذلك وفق حدين اثنين، الأول منهما لمحاولة تثمير وتحصيل فوائد عربية يمكن الحصول عليها، نتيجة مواقف ومشاريع معينة تجعل ممكناً على العرب أن يكونوا رقماً صحيحاً وحقيقياً في معادلات هذا الإقليم، وهذا المستوى الإيجابي في الحد الأعلى، والثاني منهما وهو الأدنى لمحاولة تجنب المحاذير والمخاطر والكوارث التي قد ينجر إليها مستقبل ومصير هذا الإقليم العربي، بما يصبح فارضاً على شعوبه ضرائب باهظة عليها أن تدفع فواتيرها على المدى المتوسط أو البعيد مستقبلاً، ومن هنا تتضح أهمية أن يكون وجود عربي بالتحديد هذه الأيام في مرحلة صراعات الفراغ واتزان الأثقال.

الإقليم العربي يشهد حالة تنافس حقيقي منذ عدة سنوات وليس الأمر وليد الساعة، بين قوى غير عربية تحاول كل منها تحقيق إنجازات استراتيجية، خدمة لبرامجها ذات النظرة المختلفة نحو مستقبل هذا الإقليم، وإن شهدت بعض المناطق أو بعض الأوقات تقارباً معيناً بين بعض هذه القوى، فهي تتقارب نحو إنجاز تحقق محصلته هدفاً مشتركاً بين هذه القوى، يخدم قائمة الأولويات في التخلص من المنافس الآخر، والحال إن مسألة انفجار الصراعات بين الذين سيبقون واقفين في نهاية الطريق هي مسألة محتومة، مهما تعددت الأساليب البلاغية الحالية في محاولة تأجيل خطرها أو التقليل من شأن هذا المسار، ليس اعتباراً كأحد السيناريوهات المتوقعة، بل تغطية على كونه المسار الوحيد المفضى إليه بحسب ما تشير إليه تأريخية الصراع وحدية الحامل الفكري له.

في حسابات الأطراف :

بكلام بسيط فإن تركيا كقوة رئيسة في هذه الحسابات، تأخذ طريقها إلى هذا الإقليم اليوم وعينها على تجديد التجربة القديمة من واقع حقانية الموروث العثماني، بحسب نظرة حزب العدالة والتنمية باستخدام مؤهلية تركيا القوية لتستعيد فضاءاتها التقليدية، والتي تقدمها على أنها الأكثر مناسبة لها لتعميق منطلق عالمي أوسع من ما قد يقدمه الرهان على الدخول لباب القارة العجوز، فقط كأحد الأعضاء والذين هم في واقع الأمر ما فنأوا يلاقون صعوبة بالغة في الانضمام لنادي اليورو المسيحي بشفاعة من موقع الجغرافيا السياسية، ومذكرة الخدمات الأطلسية إبان الحرب الباردة، ثمة ملاحظة هامة في هذا الأمر يجب التنبه لها، ذلك أنه وإن كان العموم التركي يوافق على النتيجة التي يريدها رجب طيب أردوغان وزملاؤه في حزب العدالة والتنمية كما تقدم ، والتي اجتهدوا طويلاً للإثبات للطيف السياسي التركي أنها الطريق العزيز لتحقيق أهداف الأمة التركية عندما لم تشفع لها طرق أخرى حتى الساعة، باستخدام العوامل العلمانية وأوراق الخدمة الأطلسية في استصدار قرار الموافقة على الانضمام الأوروبي، فإن بقية الطيف السياسي التركي ينظر إلى مسألة الأيديولوجيا في هذه الطريق، وإلى مسألة المواقف السياسية التي قد تتطلبها هذه الأيديولوجيا، على أنها خادم لمشروعه الطوراني الأصيل في هذه القصة، بعكس ما قد لا يشدّد عليه موقف حزب العدالة والتنمية أو يشترطه لمتابعة هذه العملية.

في الجانب الشرقي فإن إيران التي تسعي أيضا هي بدورها إلى نتيجة مشابهة، بالوصول إلى زعامة الإقليم الإسلامي بعامته وفرض وجود الدولة الإسلامية الكبرى في هذا العالم، تحقيقاً لما بشّر به قائد الثورة الإيرانية الإسلامية الراحل الإمام الخميني، على اعتبار حقانية الفرصة للأمة الإيرانية لتأخذ دورها في زعامة الإقليم الإسلامي والعالم الإسلامي بعامة، بعد أن حظي العرب والترك بهذه الفرصة التاريخية وسجّلوا علامتهم في حساب التاريخ، ومثلما توافق الثورة الإسلامية قطاعات أخرى من الطيف السياسي الإيراني، على هذه الرسالة وهذا الطموح الذي انفجر مبكراً بنظرية تصدير الثورة، قبل أن تعود إيران إلى مراجعة طرق أخرى في سبيل الحصول على هذه النتيجة ذاتها ومنها برامج طموحة في التقنية والعلوم والاقتصاد، فإن هذه القطاعات التي ربما بعضها عبّر عن نفسه مؤخراً بمسميات الإصلاح السياسي والتي قد تعارض الأيديولوجيا الإسلامية المتبناة في إيران من تفصيلية ولاية الفقيه، فهي بالقطع لن تعارض أو تفكر بمعارضة المسار في جانب حامله الفكري السياسي على أساس النظرية الفارسية في المستوى القومي، فهي تتفق أنها تريد للأمة الإيرانية ولفارس أن تأخذ حظها أيضا كما تقدم ولو تطلب الأمر خطة خمسينية تستغرق خمسين عاماً لتحقيق هذا الطموح وهذا الهدف، لكن باستثناء هذا الاعتراض التفصيلي في باب واحد من هذه الأيديولوجيا وهو أقرب إلى الإدارة والكيفية منه إلى أسس الأيديولوجيا، فإنها أيضا لا تعارض منطق الأيديولوجيا العام كخادم لتحقيق الهدف الإيراني أو الفارسي القومي.

محاذير الصدام المؤجل :

مشكلة الاصطدام واردة بعد مرحلة صراع ممكنة في المستقبل، وهذا لا يعني أن ثمة صراعات خفية قد تجري في هذه الأثناء بالرغم من عروض الاتفاق القائمة ومنها مؤخراً الدور التركي في مسألة اتفاق طهران حول تبادل الوقود النووي، ولحسن الحظ فإن اتفاق هاتين القوتين على إقصاء الدور الصهيوني من حلبة الصراع في هذا الإقليم نهائيا، هو الذي بات يؤجل هذه المرحلة ويخدم في ذات الوقت القضية الفلسطينية المركزية كقضية وطنية، ومن المفيد التوسع بالقول أن ذلك سيخدم كل القضايا الوطنية العربية على انفراد في الأقطار العربية، من لبنان إلى السودان طالما أنها يتم تناولها من منظور الإقليم الفارغ من الدور القومي العربي، وأنها تقدم من الأشقاء المسلمين على هذا الأساس، والخاسر الأعظم في هذه المسألة ليس فلسطين القضية أو الدولة الفلسطينية، وليست لبنان الدولة اللبنانية ولا هكذا بقية المنظومة العربية منفردة، وإنما الخاسر هو المنظومة القومية العربية من باب الوحدة والمشروع النهضوي الذي تفترض به هذه الدول أن عليه التنحي جانباً لأية صيغة متقدمة قد يحلم بها، ولا مانع من التعاطي معه تحت قبة صيغة الجامعة العربية الحالية لأنها تمثل من الناحية الفعلية منتدى أكثر منه صيغة وحدة سياسية حقيقية في المستوى القومي في هذا الإقليم.

في الطريق إلى حسم طبيعة الأطراف الباقية كقوى تأثير غير هجينة ولا مفتعلة في هذا الإقليم، لن تكون ثمة حسابات بعيدة المدى تأخذ الكيان الصهيوني على محمل الجد في هذه الحسابات، ذلك أن الكيان الذي فشل في أداء مهماته الأساسية الأولى أصبح اليوم في خارج صورة الرهان الجدي عليه حتى من أولئك الخارجين من معبد التفكير الخاضع بالكلية للهوس الصهيوني ، أو ما تبقى من أولئك الذين لم يتوقفوا حتى الساعة عن التفسيرات المسيحية-الصهيونية للتاريخ والأيديولوجيا والمستقبل ورواية الخلاص الخاصة بهم، فاليوم بات كل هؤلاء على نسبة شك عالية في إمكانية بقاء وثبات مركب معادلة الكيان الصهيوني المستقبلي في المدى المتوسط، مما جعل بعضهم يبحث اليوم عن أدوار بديلة أو تحويلات خاصة للأدوار الميتة تتيح على الأقل لهذا الكيان إمكانية المراوغة أطول فترة ممكنة، في ظل تداعي الترتيبات والخطط الاستراتيجية التي دفعت فواتيرها بالكامل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو في كل من العراق وأفغانستان والباكستان ومناطق أخرى كان يفترض بهذا الكيان أن يغنيها عن هذه المباشرة فيها، وأن يوفّر هذه الفواتير ولم يتبق سوى الملف الإيراني الذي يبدو أن هذه القوى لا زالت تراهن على استبقاء الكيان على هامش هذا الملف حتى لا تضطر أن تضيفه بنفسها على قائمة فواتيرها المكلفة فيه.

ثنائية تاريخية :

مفيد أن نتذكر أن التعبيرات السياسية هي نتاج ولادة للفكر السياسي القائم خلفها، وعندما كان الإقليم العربي قبل الإسلام خاضعاً لصيغة الثنائية الحاكمة «الغساسنة- المناذرة» لمعظم هذا الإقليم باستثناء الهيمنة الحبشية في جنوبه، كان العقل السياسي العربي ترجمة مباشرة لهذا الواقع، وعندما جاء الإسلام وحمله العرب وشكلوا الحامل الطبيعي لهذا الفكر السياسي العالمي، كان أول إنجاز حقيقي لهذا المشروع الأممي هو كسر ثنائية سياسية حكمت الإقليم والعقل السياسي العربي وما يتولّد عن ذلكم، ولأن الحامل العربي صاحب المشروع النهضوي التنويري للعالم كله كان منفتحاً على الآخر حتى النهاية، نجح هذا المشروع واستطاع المحمول النهضوي أن ينتشر بسرعة لافتة في العالم القريب وفي زمن أقل ما يقال عنه أنه المعجزة الحقيقية، وطالما بقيت قاعدة «العدل أساس الملك» مطبقة في هذه التجربة الإسلامية، وخاصة جهة استيعاب المشكلة والمعضلة القومية في المناطق التي دانت لهذه الأمبراطورية، تراجعت وانزوت مسألة ملحاحية الفعل القومي عند الشعوب الجديدة التي اندمجت في هذا المشروع العالمي وشكلت جزءً أساسياً من ثمار محموله، أي أن التناغم التام وجد طريقه بين الحامل والمحمول في هذه التجربة اللافتة على مستوى تاريخ العالم القديم، والذي لم يتحقق لأي مشروع أيديولوجي حتى الساعة إلا للإسلام حيث فشلت بقية الأيديولوجيات وانتحرت على صخرة المعضلة القومية، وآخرها الماركسية في العصر الحديث.

عندما انحط ميزان العدالة وميزان التنمية في الحامل العربي، أخذت تفاعلات المحمول التي طغت على هذه المعادلة الدقيقة طريقها إلى أفعال التخريب على المشروع كله، وطالما لبست أثواباً تتحدث بالفقه والمتفرعات الأيديولوجية كي تحاول البقاء في داخل المنظومة السياسية والدينية، ولكنها في حقيقة الأمر تنطلق من انفتاحات المسألة القومية أو التي درج المؤرخون القدامي على توصيفها بحركات «الشعوبيين»، وغير صحيح أن الحامل العربي قد استمر بعد هذا التاريخ كما كان قبل ذلك لأن مختلف القوميات وجدت لها طريقاً لممارسة الحكم وتوالت على عصب المشروع السياسي الإسلامي، ومن المفيد أن نتذكر أنه منذ نهاية الدولة الأموية فإن حامل المشروع الإسلامي توقف عن كونه عربياً خالصاً وأصبح مطعّماً بالعناصر القومية الأخرى من ترك وفرس وغيرهم، وأن الدولة العثمانية التي امتدت قرون طويلة كانت في واقع الأمر تتشكل من الحامل التركي بنسبة أكبر من أية نسبة أخرى، لكن حقيقة وجود النسبة العربية من جهة وبقاء المحتوى التفاعلي في الأسس التي أرساها العرب من جهة أخرى منذ بدء المشروع، إضافة إلى أنه طيلة هذه الفترات على اختلاف تجاربها وتواجدها ، بقيت فيها مسألة العدالة وميزان التنمية قائمين في داخل هيكلية ونشاط الدولة الإسلامية بإطارها الأشمل، بقيت المكونات داخل هذا المشروع متماسكة حتى وهي تخوض غمار حروب عنيفة ومواجهات قاصمة مثل الحروب الصليبية وحملاتها، والاكتساحات المغولية للمشرق العربي المسلم، ولكن عندما اختلت هذه الشروط الثلاث، سقط المشروع سقوطاً مدوياً.

الارتكاس التاريخي :

كانت هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، هي رصاصة الرحمة على المشروع الذي كان قد بدأ مرحلة انهياره قبل هذا التاريخ، ذلك أن ضغوط عامل الحامل التركي تجاه إيصاله إلى درجة النقاء الطوراني، وإقصاء العامل العربي طغياناً وعسفاً بدرجة أساس، واختلال موازين العدالة وتراجع التنمية، واستهداف الأسس العربية القديمة في وارث هذا المشروع العملاق بمحاولة صياغته من جديد صياغة مختلفة، أدى إلى تفاعلات قاصمة لم تكن فقط مسجلة في المنطقة العربية، بل سبقتها مناطق أخرى أرمنية وكردية قبل أن تصل إلى المنطقة العربية على كل حال، وكانت محاولة الثورة العربية الكبرى في المنطقة العربية هي محاولة إنقاذ للكينونة العربية من مصير الانهيارات، قبل أن تفرض عليها الدول المنتصرة في الحرب«بريطانيا- فرنسا» ثنائية جديدة في هذا الإقليم متنكرة لوعودها ، عبر اتفاقية «سايكس- بيكو» التي جاءت لتحتل ليس فقط الإقليم العربي ولكن أيضا العقل السياسي العربي، قفزاً على التاريخ الطويل نحو مرحلة قديمة قبل الإسلام كما في مرحلة «الغساسنة-المناذرة» وفي نسخة جديدة لها مع بعض التحويرات، في مسألة تدارك خطورة التواصل الجغرافي على مشروع التقسيم الجديد، وضرورة خلق الفاصل الجيوسياسي أمام مخاطر الاستفاقة مستقبلاً، عبر زرع الكيان الصهيوني في قلب هذا الإقليم المستعمر.

عصر الوحدانية :

لم تفعل اتفاقية يالطا والحلفاء المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية سوى تجديد الأخيرة، وإعادة توزيع بعض الحصص بحسبما اقتضاه واقع الانتصار نفسه ومساهمة وثقل المنتصرين، وهكذا استمرت صيغة جديدة ترث صيغة سابقة على نفس الشروط والمواصفات الأساس للإقليم والفكر السياسي العربي في آن، وباستثناء التجربة الناصرية هذه المرة التي أرادت أن تكرر محاولة الثورة العربية الكبرى المجهضة، فإنه وحتى حرب عام 1973 بقيت صيغة التقسيم الفاعلة على حالها دون تغيير حقيقي حتى جاءت مرحلة كامب ديفيد في العام 1979 لتدخل الصيغة في تجديد لافت، فمن باب قصة الشعار : أوراق الحل الـ99% الأمريكية التي رفعها السادات، تولّدت عرب جديدة ليست غساسنة ولا مناذرة وإنما «معابرة»، هذه العرب باتت تؤمن أن الكيان الصهيوني واقع ثابت وأساس في هذا الإقليم، وأن الحصول على التفاهم مع هذا الوضع المستجد تحت يافطة «التسوية السياسية» هي الضرورة التي لا بد منها لضمان مستقبل بقاء الأنظمة التي تحكم الأقطار العربية، دون أن تفكر بمستقبل شعوبها هي على كل حال، وكان التنظير الأساس لهذه الفكر السياسي المستسلم لهذه الجدلية قد استغل عناصر كثيرة سبق ومهّد لبعضها تحت مسمى «إزالة آثار العدوان» مثلاً.

صحيح أن عرب «المعابرة» الذين تقدموا البقية في مصر، ليخترقوا التركيبة التاريخية في الثنائية الحاكمة لمنطق الإقليم، كانت عيونهم على أمريكا من خلال قبول الكيان الصهيوني في معظم فلسطين، وأن هذا التبرير الذي استخدم للعبور إلى صيغة مستجدة على هذا الإقليم من خلال صيغة الانفراد والصلح الذي قام به السادات في مصر، إلا أنه مع بدء انهيارات الكتلة الشرقية وتداعيات حروب الخليج، أصبحت التركيبة الجديدة للفكر السياسي الحاكم لبلدان عرب «المعابرة» تتم بطريقة مختلفة تكاد تنداح إلى أن تكون قائمة ليس على أساس الحصول من خلال صيغة سلام وتسوية مع الكيان الصهيوني على منحة طويلة الأمد من القطب الأوحد، بل على ربط المصير الخاص كله بالكيان نفسه والاتفاقيات معه على أساس أنها الثابت السياسي الأول والأخير، حتى دون الحاجة للنظر إلى ما خلف مسألة العلاقات معه كجسر نحو الولايات المتحدة والحلف الأطلسي المنتصر في الحرب الباردة، بل إنها تكاد تصل إلى حدود القناعة بأن علوية التأثير الصهيوني في العلاقة بين الكيان الصهيوني وهذا الحلف الأخير وخاصة منذ عهد بوش، هي المسألة الأرجح وهي التي حسمت وجودها لديهم كقناعة غير قابلة للفحص، ولاسيما وموجة التبشير بالشرق الأوسط الجديد في عهد بوش على أشدها، بينما يجري تقديم نموذج العراق المحطم تماماً كنموذج الترهيب للدخول في العصر الصهيوني، فلا لزوم للثنائيات فوق هذا الإقليم طالما أن القطب الأوحد يريد وكيلاً حصرياً عنه في هذه المنطقة وعلى بقية الأطراف الانصياع لهذه المعادلة الجديدة التي تريدها إدارة بوش.

مفاجئات البيدر :

طيلة عقد كامل والإقليم يجري تحضيره على هذا الأساس من باكستان حتى الصومال وما بينهما، لولا أن نتائج الحصاد بدأت في الظهور على غير ما تشتهيه معادلات إدارة بوش والكيان الصهيوني، فمسلسل الإخفاقات والفشل الذريع بدأ بالسطوع فوق السطح الداكن، فشل عسكري وسياسي واضح في العراق وأفغانستان، انهيار الأفخاخ في باكستان ولبنان، تمرد المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، ظهور معالم الفخ الإيراني لواشنطن، وظهور معالم الاستفادة التركية القصوى من واقع الفراغات، ومتتاليات الأزمات الاقتصادية والبيئية والصحية والتقنية، وصعود قوى جديدة في مناطق الاستقطابات السابقة والتي كانت حتى عهد قريب محسوبة على أساس الصمت أو التبعية للرغبة الأطلسية، في روسيا والصين والهند والبرازيل ودور أمريكا اللاتينية الأخرى، هنا أصبحت كل المخططات التي كانت تتحدث عن تجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم وتهميش المهمّش، والقص واللصق في الدول والخرائط السياسية للدول العربية وعلى حسابها في هذا الإقليم موضع شك مؤكد، ثبّت قيمة الشك فيها نهائيا عاملان أساسيان، الأول: انتصار المقاومة اللبنانية على التحدي الصهيوني وقوة القتل الخارقة التي كان يجري تحضيرها لتكون مطرقة الإقليم، وقدرة تشكيل حاجز الردع بما يقترب من التوازن الاستراتيجي بين الكيان الصهيوني وحلف دعم المقاومة في هذا الإقليم لفائدة سوريا تحديداً، والثاني: سقوط المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وتتابع سقوط كل وجوه الحملة الصليبية –كما أسماها بوش- في بقية الأقطار الغربية، وتراجع فكر نهاية التاريخ وخرافات عهد بوش بل وسقوطه معه.

ومع هذه النتائج الجديدة أصبحت مسألة أطروحات عرب «المعابرة» في واد سحيق، تنتظر ما سيترتب على فشل هذه الإلحاقية دون خيارات مناورات واسعة، بل إن بعضها - كما فعلت مصر- لجأ في مرحلة من المراحل بنفسه لطلب التدخل التركي، في محاولة منها لتخفيف حظوظ التفرّد الإيراني الذي كان أكثر بروزاً على الأقل في العراق ولبنان، وإذا كانت المسألة الحقيقية اليوم ليس سقوط الورقة الصهيونية كعامل يلعب رقماً قوياً مرتبطاً بموزع الأرقام فقط، بل إن قيمة هذا الرقم نفسه أصبحت في بورصة التنازلات تحت ضغوط حظوظ أرقام أخرى تستعد لأخذ وضعها بحسب الحجم الذي استطاعت فرضه على الصورة العامة، فإن قصة التنظير الذي استند إليه عرب «المعابرة» قد سقط سقوطاً مدوياً، ويقع في مقدمة هؤلاء أصحاب نظريات الانتقام من العرب من الحضن الصهيوني في مجموعة الأوسلويين في سلطة الحكم الذاتي، وأصبحت قوى الطحن الخارجي أعتى على بقائهم من أية قوى يتم توفيرها للتطويل في مسلسل جرعات الإبقاء على مسرحياتهم المضحكة، فبينما تأخذ دول أخرى مثل الأردن طريقها إلى فحص قيمة معاهدة وادي عربة على ضوء التغيرات الجذرية التي يراها، ويمارس تمريناً في حسابات الخسارة والربح الاستراتيجي في هذه المسألة، تبقى سلطة أوسلو وعرّابها المصري فاقدة حتى للقوة على مثل هذه الأسئلة والاستعدادات، ذلك أنها ربطت مصيرها الكلي بمسألة صيغة عرب «المعابرة» التي سقطت في بقية الحلقات أو على الطريق لسقوطها النهائي.

المستقبل وقضاياه :

نعم من المهم أن تحصل القضية الوطنية الفلسطينية على دعم الحامل التركي والحامل الإيراني، سواء أكان ذلك لاعتبارات إسلامية يفترض أنها أساس وواحدة من نقاط جدول الأولويات التي تبرر هذا الدعم والإسناد وتقود إلى تحقيقه، أو حتى لاعتبارات تخص الدولة الفارسية والدولة الطورانية وأهدافها لمستقبل الإقليم، لأن المهم اليوم بالنسبة لهذه القضية الوطنية أن تنال الدعم الكافي لتحقيق عدالة الحصول على حقوقها المسلوبة من أول استعادة الأرض المغتصبة، وتمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني ،وحتى الحصول على التعويضات التي يستحقها عن هذا الظلم التاريخي الفادح، وإذا كان مهماً أن يحصل ذلك فإنه من المهم أن يكون الأساس السياسي لهذا الدعم، غير خاضع لما هو خارج عن طبيعة هذه الاحتياجات الخاصة بهذين الجارين وهاتين القوتين الرئيستين، وإذا كان ذلك يصدق لقضية العرب والمسلمين الأولى في فلسطين، فهو معيار واحد لبقية القضايا الوطنية القطرية التي تستحق الدعم والتأييد كما في العراق أساساً، أما أن تكون مسألة الدعم القطري على حساب المصير القومي بعامة ، لأن حل هذا التعارض اليوم هو الشرط الموضوعي لفاعلية هذا الدور في أية مرحلة لاحقة.

وعندما يتعلق الأمر بالمسائل المبدئية فإن ثمة حوارات حقيقية يجب أن تنشط في هذا الإقليم بين قوة قومية عربية حقيقية، وبين هذه الأقطاب الجديدة حتى لا يكون مستقبل هذا الإقليم من جديد ثنائية «فارسية- طورانية» وإن بثوب أيديولوجي في مرحلة ما، فقضايا العرب الخاضعين بدورهم لاحتلال إيراني في الأحواز، مثل قضايا الأكراد في تركيا والدول العربية ذاتها إن في سوريا أو العراق ومثلها إيران، وجميع هذه الحلقات كي يمكن حل معضلاتها المزمنة لا بد من نشوء دور قومي عربي قوي وبارز من جديد في هذا الإقليم، ليس فقط لحماية الحاضر العربي الذي بات مرتهناً إلى حد كبير، بل لحماية المستقبل العربي الذي بات مهدداً أيضا بالقدر ذاته، إن صيغ دور قومي على غرار ما كان يعرف بالمثلث السعودي المصري السوري، ووقوع ذلك مشترطاً تحت ما توافق عليه أو تمنحه واشنطن من أضواء كحدود لهذا التنسيق والتوافق لن يكون كافياً، هذا على افتراض وجود أو نشوء بديل عن النظام المصري القائم حالياً والذي هو واحد من أهم أسباب الشلل العربي والعجز العربي في ذات الوقت، ومع ذلك فإن نشوء صيغ عربية قومية حقيقية تأخذ المبادرة الذاتية اليوم هي الشرط الأكثر ضرورة من أي وقت آخر، ومثل هذه القوى عليها أن تبدأ مشروعها النهضوي تماماً حيث كانت فعالية وحقيقية نظرية «الحامل- المحمول» التاريخية، عليها أن تذكّر أن لا مستقبل لمشروع إسلامي عالمي أياً كانت القوى التي تطمح لأن تلعب دور بنائه وتشييده والسير به، إذا ما تم تجاهل قيمة الدور العربي في الحامل والمحمول معاً، والتاريخ أصدق شاهد على هذه المسألة، ولا داعي لتكرار الإخفاقات وشراء المصاعب.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 85 / 2178740

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2178740 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40