الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010

«إسرائيل» وصدى ضجيج القرصنة

الثلاثاء 22 حزيران (يونيو) 2010 par مأمون الحسيني

لم يكن ينقص وضوح صورة “إسرائيل” القاتلة البربرية التي تتمتع بمعين لا ينضب من العنصرية والوحشية، والتي لم تتورع عن ممارسة أوضح وأبشع جرائم العصر من خلال اغتيالها أسطول الحرية وركابه الذين كانوا يحملون مساعدات إنسانية وطبية لشعب غزة، في عرض البحر، سوى اتهام العالم الذي دان الجريمة وطالب بفتح تحقيق دولي فيها، ورفع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، بأنه “متهكم ووحشي”، بل “ولاسامي”.

هناك ادعاء بوجود “فجوة لا تطاق” بين صورة “إسرائيل” في الخارج وصورتها الحقيقية على أرض الواقع، وفق ما يزعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يعمل على تحقيق ما يسميه “المشروع الوطني لتصنيف إسرائيل” لمواجهة “تصاعد الكراهية ضد شعب إسرائيل”، وعرقلة الحملة الممنهجة ل “نزع الشرعية” عنها، وذلك بموازاة رفع منسوب القمع العنصري ضد فلسطينيي 1948، والذي بدا جليا في التهجم على النواب العرب في الكنيست، وبالأخص على النائبة حنين الزعبي التي وصفت بعبارات عنصرية من قبل ممثلي معظم الكتل البرلمانية “الإسرائيلية”، من نمط “إرهابية” و”خائنة” و”حصان طروادة” و”سافكة دماء”، قبل أن يطالب وزير الداخلية ايلي بشاي (حركة شاس) المستشار القضائي للحكومة يهودا فاينشتاين، السماح له بالمباشرة بإجراءات لسحب مواطنة النائبة الزعبي، وتوصي لجنة الكنيست بتجريدها من حقوقها البرلمانية في أعقاب مشاركتها في “أسطول الحرية”، وفضحها لحقيقة المجزرة التي ارتكبتها القوات “الإسرائيلية” ضد المتضامنين في سفينة “مرمرة” التركية.

المفارقة في هذا النمط من العنصرية والغرور والانحدار الفكري والأخلاقي، لا تتعلق فقط بواقع “إسرائيل” القلق الذي تحاول حكومة نتنياهو دحرجته إلى الأمام، والقفز به من فوق حقائق القرن الحادي والعشرين الاستراتيجية التي تؤشر إلى تراجع قوة ومكانة الولايات المتحدة التي ارتفع حجم ديونها، ولأول مرة في التاريخ، إلى أكثر من 13 تريليون دولار أمريكي، وكذلك إلى تراكم الشعور “الإسرائيلي” بالتهديد الوجودي الذي يعبر عن نفسه بضخ المزيد من التطرف والاستيطان والمناورات العسكرية، تحت ظلال تحول الدولة الصهيونية تدريجياً من ذخر إلى عبء على الولايات المتحدة، وفق تقدير رئيس جهاز الموساد مائير داغان، وارتفاع أسيجة العزلة الدولية في وجه “إسرائيل” في مقابل جُدُر العزل العنصرية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتدهور مكانتها في العالم إلى مستوى غير مسبوق، وتمادي هذه الدولة المارقة في الاستهتار بالقانون والشرعية الدولية، ووضع نفسها فوق أية مساءلة. وإنما تتصل هذه المفارقة كذلك في تصاعد مشاعر الحسرة والندم لدى مختلف الأوساط السياسية والإعلامية “الإسرائيلية”، ليس على سقوط الضحايا الأبرياء في “أسطول الحرية” وتحول الجيش “الإسرائيلي” ونخبه المنتقاة إلى أدوات قتل صماء في يد القيادة السياسية الفاشية وأحزابها العنصرية، وإنما على عدم التمكن من أداء المهمة بنجاح، وبأقل الخسائر العسكرية والسياسية الممكنة، ودونما ضجيج عال كالذي بات يصم الآذان في مختلف أرجاء العالم.

ويبدو أن هذا الهذيان الذي يزيل آخر أوراق التوت عن “إسرائيل” و”ديمقراطيتها” المزعومة التي تترجمها قيادة الجيش بترشيح الجندي الذي قتل ستة من متضامني سفينة الحرية “مرمرة” لنيل “وسام شرف وشجاعة”، ويسلط ضوءا ساطعا على حقيقة كون هذه الدولة كيانا مفبركا لشذاذ الآفاق من مختلف أصقاع العالم، تتم ترجمته من خلال ردود الفعل والتعليقات “الإسرائيلية” التي، وإن اقتربت من الإجماع على الفشل في مواجهة “أسطول الحرية” سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، على رغم المجزرة الدموية، إلا أنها صبت جلَ اهتمامها على انعدام التخطيط، وعلى الخفة البادية في اتخاذ القرار، ونقص المعلومات الاستخبارية، والإدارة السيئة التي لم تأخذ في الحسبان الثمن الذي ستدفعه “إسرائيل” لقاء السيطرة على سفينة “مرمرة”، لا بل والمخاطرة الحقيقية التي ألقي إليها جنود الكوماندوز من ،دون معرفة الكمين الذي ينتظرهم، وفق ما جاء في أحد التعليقات “الإسرائيلية”. ولعل المثال الأوضح على هذه المفارقة هو ما كتبه حزقيال درور الذي كان عضوا في لجنة فينوغراد التي حققت في إخفاقات الحرب على لبنان عام 2006 في “هآرتس” يوم 2/6، واعتبر فيه أن أحداث عملية السيطرة على “أسطول الحرية” تبرهن على أن جوهر دروس “حرب لبنان الثانية”، كما نصت عليها توصيات لجنة فينوغراد، لم يطبق، وأن التفكير السياسي- الاستراتيجي متمسك بإخفاقاته.

ووفق درور، فإن رزمة من توصيات “لجنة فينوغراد” تم تجاهلها في هذه العملية، من نمط “الاستخفاف بالعدو”، وهو هنا المتضامنون المسالمون الذين ينقلون مساعدات إنسانية، وعدم وجود معلومات استخبارية صادقة عن الاستعداد في سفينة مرمرة، وتجاهل فحص السيناريوهات المتفائلة والمتشائمة للعملية في الوقت ذاته، وعدم استعمال “كتلة حرجة” من القوات المهاجمة التي لم تتلق تدريبات كافية، وثقة القيادة السياسية المفرطة بوعود وقدرة الجيش، ناهيك عن التقصير في دراسة التداعيات المحتملة التي كان ينبغي أن تجريها وزارة الخارجية والأجهزة الأمنية. ما يعني، بنظر درور أن ثقافة السياسة “الإسرائيلية” ما زالت بدائية وتحتاج إلى تغييرات في البنية، وشغل المناصب، والإعداد، وإجراءات القرار والرقابة وبخاصة في ما يتعلق بالقيادة. ومن دون القيام بذلك فإن “إسرائيل” ستبقى معرضة لطائفة أخرى من الإخفاقات مع تعريض مستقبلها للخطر.

وعلى النحو ذاته، تمضي بقية الرؤى والتفسيرات والتحليلات “الإسرائيلية” التي، وإن بدت، في معظمها، صاخبة لجهة تقريع الحكومة العنصرية المتطرفة على إخفاقاتها المتتالية، بدءا من دعوة 189 دولة (بما فيها الولايات المتحدة) إلى رقابة دولية على المنشآت النووية “الإسرائيلية”، وانتهاء بتداعيات عملية القرصنة الدموية على “أسطول الحرية”، إلا أنها بقيت أمينة لحقيقتها العنصرية المريضة عبر صب جام غضبها على تركيا التي ينبغي معاملتها بالمثل وتنظيم رحلات بحرية للتنديد ب “احتلالها لقبرص”، وتجاهل حقيقة أن مشكلة “إسرائيل” الجديدة مع الأتراك هي ذات المشكلة مع السويديين والنرويجيين والصينيين والفيتناميين، وحتى مع الأيرلنديين والإسبان، وشنَها حملة شرسة على رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي اعتبره البعض “أحمدي نجاد الثاني” الراغب في “دخول التاريخ وإعادة الإمبراطورية التركية إلى عهدها الزاهر على حساب إسرائيل” ويبدو أن القاسم المشترك الذي يجمع هذه المواقف التي تبدأ، في بعض الأحيان، بمقدمات صحيحة وتنتهي باستخلاصات قاصرة، هو الحرص على تخفيض منسوب الخسائر “الإسرائيلية” إلى أدنى درجة ممكنة، وتقديم المقترحات التي تساعد الحكومة على الخروج من المأزق الذي يتدحرج ككرة الثلج، ولا سيما بعد خروج الأمر عن السيطرة، وعودة قضية حصار غزة إلى واجهة الاهتمام الدولي، واضطرار، حتى أقرب أصدقاء الدولة الصهيونية، إلى المطالبة برفع الحصار، وارتفاع الحواجز أمام أية مغامرة “إسرائيلية” في القطاع، لا بل وتدني فرص الحصول على إجماع عالمي لفرض عقوبات على إيران، بعد اتضاح حجم النفاق الذي تمارسه الولايات المتحدة التي تعمل جاهدة على توفير مظلة سياسية ودبلوماسية ل”إسرائيل” بعد قتلها المتضامنين الأتراك.

ومع أن من الخفة توقع نتائج حاسمة للحراك الدولي المناهض ل”إسرائيل”، وانتظار تغيرات جوهرية في الموقف الأمريكي، بدليل إحجام إدارة أوباما عن ممارسة ضغط على الدولة الصهيونية، ليس على صعيد رفع الحصار عن قطاع غزة التي طالبت واشنطن بإيجاد آليات لإعادة إنتاجه مخففاً “من دون المس بالاحتياجات الأمنية الإسرائيلية”، وإنما على مستوى العملية السياسية مع الفلسطينيين التي تحرص واشنطن على إبعادها عن أي تأثير، وذلك على رغم أن مأزق نتنياهو الأخير دفعه إلى التحدث مع الرئيس أوباما مرات عدة طالبا منه استخدام الفيتو في مجلس الأمن ضد أي قرار يدين “إسرائيل”، وعلى رغم قيام الأمريكيين بتنظيف الفوضى المتناثرة التي خلفتها نزعة القوة “الإسرائيلية”، إلا أن واقع الحال يؤشر بوضوح على أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على مغادرة طريق “الأبارتايد” الذي تسلكه تحت ظلال التحولات الكبرى التي تشهدها المنطقة والعالم، وذلك على الرغم من اتضاح حقيقتها العدوانية في مختلف أنحاء العالم، إلى الحد الذي دفع ما يسمى وزارة القضاء “الإسرائيلية” إلى إخضاع الزيارات التي يعتزم أي مسؤول “إسرائيلي” القيام بها إلى الخارج لفحص قانوني يهدف إلى التثبت من عدم وجود خطر لاعتقاله على خلفية دعاوى مرفوعة بحقه.

أما في الضفة الأخرى، أي جانب النظام الرسمي الذي وصف قديما، وعن حق، بأنه ليس أكثر من ظاهرة صوتية، وذلك قبل انضمام بعضه إلى قافلة المساهمين الأساسيين في حصار قطاع غزة، فإن السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يتصدر جدول أعماله هو ليس ما تقوم به الدولة الصهيونية من مجازر وانتهاكات وخطايا، أو رد الفعل التركي أو الإيراني أو الدولي على ذلك، وإنما ما موقعه في المعادلة الجديدة التي تتبلور بسرعة غير مسبوقة، وهل من حقه الاحتفال بأية خسارة أو انكفاء “إسرائيلي” لا علاقة له به؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2177799

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2177799 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40