الاثنين 1 نيسان (أبريل) 2013

القضاء كخط دفاع أخير

الاثنين 1 نيسان (أبريل) 2013 par د. عبد الاله بلقزيز

ليست الأنظمة المتمتعة بالشرعية الانتخابية أنظمة معصومة بحيث تملك الحق في مطلق التصرّف، أو تملك الحق في ادعاء التمثيل الحصري للشرعية والنطق باسم هذه الشرعية، فالنظام الديمقراطي الحديث لا تنتهي قواعده بإعلان نتائج الاقتراع، وإنما هي تبدأ - بدايتها الثانية - مع إعلان تلك النتائج بالذات . وإذا كان عنوان بدايتها الأولى هو تنظيم عملية التمثيل من طريق تمكين الشعب، بما هو مصدر السلطة والشرعية والسيادة، من التعبير الحر والشفاف عن إرادته العامة، وتوفير الأطر الدستورية والقانونية الضامنة لممارسة ذلك التعبير الحر عن الإرادة تلك، فإن البداية الثانية - المستأنفة والمستمرة - تأخذ عنوان الرقابة والاحتساب على النخبة الحاكمة المنتخبة، لئلا تتعرض الشرعية الشعبية والدستورية والقانونية للانتهاك . والنظام الذي يختصر الشرعية في نتائج الاقتراع، ويبني عليها فرضية “العصمة السياسية”، أو النزعة إلى التصرف المطلق، إنما هو يحاول - يائساً - أن يؤسس للاستبداد والديكتاتورية شرعية مزيفة ومستحيلة لا يُمْكن قواعدُ النظام الديمقراطي، في الدولة المدنية الحديثة، أن توفّسرها له، أو - حتى - أن تمكنه من أسباب تأولها على ذلك المقتضى .

من أهم القواعد الديمقراطية التي تجسد مبدأ المراقبة والاحتساب، وتضمن الالتزام بمبدأ الفصل بين السلط، وضعُ السياسات الحكومية والرئاسية تحت مجهر المراقبة الشعبية والقانونية والدستورية، منعاً للشطط في استعمال السلطة (التنفيذية)، ودرءاً لانتهاك القانون بما هو تجسيد للإرادة العامة، وصوناً للديمقراطية والشرعية الشعبية والدستورية . تُمارس المراقبة الشعبية من طريقين: غير مباشر عبر وكلاء الشعب والأمة في البرلمان (بغرفه كافة)، ومباشر عبر المنظمات الشعبية وغير الحكومية “المجتمع المدني”، وعبر الصحافة والإعلام . ويختص القضاء “الإداري وغيره من الأصناف كافة” بممارسة سلطة الرقابة القانونية على قرارات الجهاز التنفيذي، في ما تختص المحاكم العليا الدستورية بسلطة الرقابة الدستورية على قرارات الرئاسة والحكومة والبرلمان وافتحاص مدى دستوريتها . وهكذا تخضع السلطة - التي انتخبها الشعب - للشعب نفسه، الذي يُنتج النظام الديمقراطي الحديث آلياتٍ ومؤسساتٍ متنوعة لحماية إرادته العامة من أي انتهاك لها أو عبث بها واستهتار . وهكذا لا تنتهي إرادة الشعب في لحظة الاقتراع - مثلما يزعم ذلك المستبدون الجدد - وإنما تبدأ من تلك اللحظة بالذات .

لا يعنينا، في هذا المقام، أمر الرقابة الشعبية (النيابية، والإعلامية، والحكومية)، وإنما يعنينا أمر الرقابة القضائية (القانونية والدستورية)، ليس ابتخاساً من قيمة الأولى، وإنما تظهير لقيمة الثانية ومركزية وظيفتها في حماية الشرعية، وبياناً يعلو مكانتها في النظام الإجمالي للاحتساب على السلطة .

ليس من العبث أن الهندسة النظرية والمؤسسية للنظام الديمقراطي الحديث قضت بفصل السلط، وشددت على استقلالية السلطة القضائية، فالقضاء هو السلطة الأعلى المؤتمنة على حماية القانون، بما هو التجسيد المباشر للإرادة العامة . ولما كان القانون معرضاً للانتهاك: إما من قِبل أفراد أو جماعات، وإما من قِبَل أجهزة ومؤسسات . وكان ذلك يعني - بالتبع - تعريض الإرادة العامة للانتهاك، كان لا بد من نهوض جسم محايد في الدولة بدور حراسة القانون بحسبانه حراسة للشرعية . وليس يعنينا، في هذا المعرض الذي نحن فيه، القضاء العادي المختص بالمخالفات والجُنح والجنايات، في مستويات اختصاصه المختلفة، ولا القضاء العسكري المختص، حصرياً، بشؤون القوات المسلحة، وإنما يهمنا منه ما تعلق بالقضاء الإداري والدستوري لاتصاله بتطبيق أحكام القانون والدستور على القرارات العليا في الدولة، من نوع تلك التي تتقرر بها مصائر عامة يُخشى الإضرار بها، لردع ما يمكن أن يكون فيها من مزاجية أو من خرق للقانون والدستور .

أهمية هذا النوع من القضاء أنه يشكّل رقيباً أعلى على السلطة كما لا يستطيع رقيب آخر في الدولة أن يفعل . يستطيع المجتمع المدني أن يراقب ويحتجّ، وتستطيع الصحافة أن تراقب وتفضح، لكن أياً منهما لا يملك إلا سلطة معنوية وغير إلزامية . ومن يملك سلطة إلزامية مثل الرقابة البرلمانية تدخل الرقابة عنده في لعبة السلطة ورهاناتها، فالأغلبية النيابية - التي تشكّل الحكومة أو يكون رئيس الدولة من تيارها السياسي- لا تذهب برقابتها إلى إسقاط حكومتها، أو إلى نقض قرارات رئيس الدولة، وخاصة حينما يكون رئيساً منتخباً انتخاباً مباشراً، لا عبر البرلمان . والمعارضة النيابية لا تملك الأغلبية لإنفاذ رقابتها، وهي تملكها حصراً - إن ملكتها - على الحكومة دون الرئاسة في النظام الرئاسي: جمهورياً كان أو ملكياً . لا يستطيع غير القضاء الإداري والدستوري أن يمارس الطعن القانوني على القرارات العليا التي يرى فيها مخالفة لأحكام القانون وبنود الدستور . وهو - لذلك - وحده يشكّل السلطة الرقابية الضامنة للشرعية والإرادة الشعبية ممثلَيْنِ في الشعب .

ما يحدث في مصر، اليوم، من نزاع حادّ بين النظام والقضاء، ومن ترّصد قضائي يقظ لقرارات رئاسية مخالفة للدستور، دليل قوي على دور القضاء في حماية الشرعية الشعبية والدستورية من الانقضاض السلطوي عليها، وعلى معنى تمسك الشعب به كظهير يحمي حقوقه من عاديات الاستبداد .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165631

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165631 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010