الاثنين 26 نيسان (أبريل) 2010

الانفصال كخيار ديمقراطي

الاثنين 26 نيسان (أبريل) 2010 par نقولا ناصر

عندما تذهب الديمقراطيات الغربية إلى حد إعلان الحرب داخل دولها كي تمنع أقليات قومية فيها من الانفصال باعتبار الانفصال ليس حقا ديمقراطيا عندما يهدد وحدة أراضيها الإقليمية وسياداتها الوطنية, فإن ازدواجية معايير هذه الديمقراطيات تتجلى بأوضح صورها وهي تروج لمثل هذا الانفصال باعتباره حقا ديمقراطيا في العالم الإسلامي وفي قلبه الوطن العربي الكبير من تيمور الشرقية في إندونيسيا شرقا مرورا بأقطار عربية مثل العراق والسودان ووصولا إلى القوقاز والبلقان في أوروبا الوسطى والشرقية.

بغض النظر عن كون المسوغات التي تسوقها بعض هذه القوميات للانفصال تمهيدا لاستقلالها مشروعة أم غير مشروعة, فإن ازدواجية معايير الديمقراطيات الغربية تكشف زيف سياساتها الخارجية ونفاقها وتعري شعار الديمقراطية الذي تصدره إلى العرب والمسلمين باعتباره مجرد عنوان, لم يعد يخدع أحدا, لمنع وحدة المنطقة حتى في حدها الأدنى المتثمل في التضامن بين دولها الأعضاء في منظمات إقليمية مثل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ولإضعاف الحكم المركزي في دولها الوطنية تسهيلا للاحتلال الغربي المباشر أو للهيمنة الغربية غير المباشرة.

فعلى سبيل المثال, تغض هذه “الديمقراطيات”, خاصة الأمريكية منها, الطرف عن حرمان الأقلية العربية في دولة الاحتلال الإسرائيلي من حقوقها في التعامل معها كأقلية قومية أو بمنحها حقوق المواطنة المتساوية بينما هي طول عقود من الزمن تدعم سياسيا وإعلاميا وماديا وعسكريا حقوقا كهذه للأقلية الكردية في العراق أو الأقلية الإفريقية في السودان وتحرض الأقليات العرقية والدينية والطائفية والقبلية واللغوية في طول الوطن العربي وعرضه على الانفصال, سواء في إطار الاستقلال الكامل أو في إطار “الفيدراليات” والحكم الذاتي, وفي وقت ما زالت الزعيمة الأمريكية لهذه الديمقراطيات ترفض الاعتراف باللغة الاسبانية لغة رسمية ثانية لعشرات الملايين من مواطنيها الناطقين بها.

وكمثال آخر, لا تجد الديمقراطيات الأوروبية أي تناقض في ادعائها الدفاع عن حقوق الأقلية الكردية في تركيا كأحد الذرائع للمماطلة في ضمها إلى الاتحاد الأوروبي بينما تخوض الديمقراطيتان الفرنسية والاسبانية حربا ضروسا ضد أقلية الباسك, وبينما الديمقراطية البريطانية تخوض حربا عمرها قرون من الزمن لمنع تحرر ايرلندا الشمالية تمهيدا لعودتها إلى حضن الوطن الايرلندي الأم.

وقد دعمت هذه الديمقراطيات جميعها ومعها “الديمقراطية الإسرائيلية” طبعا “حق” السودانيين الجنوبيين في الانفصال حق ديمقراطي. والمفارقة أن الديمقراطية البريطانية عندما كانت تستعمر السودان هي التي سنت “قانون المناطق المقفولة (المغلقة)” الذي حاصر السودانيين الجنوبيين في منعزلات أشبه بتلك التي أقامتها الديمقراطيات الأوروبية للأفارقة من سكان البلاد الأصليين في جنوب إفريقيا عندما كانت هذه الديمقراطيات ترعى نظام الفصل العنصري هناك, قبل أن يختار مؤتمر جوبا عام 1947 الوحدة مع الشمال ليكفل حرية التنقل بين جنوب السودان وشماله, لتنصهر القبائل العربية والإفريقية بعد ذلك في تعايش سلمي كانت العروبة عنوانه ولغته بينما اللون الإفريقي هو لون بشرة كل شعبه تقريبا, قبل أن تتدخل الديمقراطيات الغربية لضرب وحدته بالتفريق المستحيل على أساس لون البشرة وبنشر لغة أوروبية في الجنوب يستحيل بحكم الأمر الواقع أن تتحول إلى أساس مقنع للانفصال وإلا لحق لكويبك الكندية أن تنفصل أو حق لانفصال لأربعين مليون أمريكي تقريبا يتكلمون الاسبانية أو حق للناطقين باللغات الرسمية الثلاث في سويسرا تفكيك دولتها إلى ثلاث دول, وقس على ذلك في غيرها من دول الديمقراطيات الأوروبية.

لذلك لا يستطيع أي عربي حريص على وحدة السودان وعلى انتمائه لمحيطه العربي الإسلامي أن يجد أي عذر للقيادة السودانية في توقيع اتفاق يلزمها بقبول انفصال الجنوب السوداني على أساس أن الانفصال حق ديمقراطي من حيث المبدأ غير الرضوخ لأمر واقع ناجم عن اختلال موازين القوى العربية والإسلامية في مواجهة تدخل “الديمقراطيات الغربية” إياها, خصوصا وأن هذه الديمقراطيات ذاتها ترفض تطبيق هذا المبدأ في حدود سياداتها, ناهيك عن رفض مماثل لروسيا والصين وغيرهما من القوى الدولية غير المحسوبة على “المعسكر الغربي”.

وقد كانت مفارقة حقا أن يتساوق داعية قومي قيادي معروف للوحدة الوطنية والعربية مثل الزعيم الليبي معمر القذافي مع مبدأ الانفصال حق ديمقراطي ليعلن أنه سيؤيد انفصال الجنوب السوداني ك¯ “خيار منطقي” إذا “اختاره السكان” رغم تحذيره في الوقت نفسه من ان الجنوب سيكون في هذه الحالة دولة ضعيفة ومستهدفة من القوى الدولية, بينما يعارض رئيس تشاد غير العربي إدريس ديبي أي انفصال كهذا باعتباره “كارثة” ليعلن: “إنني أقولها بصوت مرتفع: أنا ضد هذا الانفصال” لأن انفصال الجنوب السوداني سيفتت السودان ويجعله “سابقة سلبية في القارة الإفريقية”. ومن المتوقع أن يتفق معه قادة “الاتحاد الإفريقي” الذي قام أصلا على مبدأ الحفاظ على الوضع الراهن الذي تمخض عن الاستعمار الأوروبي للقارة لأن تغيير هذا الوضع سيفجر الكيانات السياسية الإفريقية مزقا وشظايا, ليتساءل المراقب عامة لماذا ينبغي أن تكون دولة عربية كالسودان هي السباقة إلى تفجير الوضع الراهن في القارة السوداء بسابقة الاعتراف بالانفصال كحق ديمقراطي, وليتساءل المراقب العربي خاصة عن مضاعفات تبني دولة عربية رئيسية كالسودان لمثل هذا المبدأ على بقية الوطن العربي!

لقد ثار غضب الحركة الشعبية لتحرير السودان عندما صرح مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية السابق خافير سولانا في الثاني من الشهر التاسع العام المنصرم بأن “من المهم جدا أن يكون السودان موحدا”, فأدانته وتصريحه, لكن دعاة الانفصال في الجنوب السوداني يجب ألا يراهنوا كثيرا على تأييد الديمقراطيات الغربية لانفصالهم المأمول, ولهم عبرة في رهان دعاة الانفصال بين الأكراد العراقيين على هذه الديمقراطيات التي سرعان ما نكثت بوعودها لهم بدعم انفصالهم بمجرد أن انتهت حاجتها إليهم كأداة لتفكيك الدولة العراقية المركزية وبعد أن لم تعد بحاجة إليهم كجسر لاحتلال وطنهم الموحد.

إن المخاطر الكامنة في انفصال الجنوب السوداني على السودانيين عامة لكن بصفة خاصة على الجنوبيين منهم ينبغي أن تذكرهم بمؤسس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق المعروف عنه مناصرته للوحدة ومعارضته للانفصال, مما يثير أسئلة عما إذا كانت وفاته نتيجة حادث كما أكدت التقارير الرسمية. إن مطالبة المجلس التشريعي لجنوب السودان في حزيران / يونيو 2009 بتدخل مصر لإنقاذ وحدة السودان من الانهيار وتأكيد رئيسه مارتن تاكو موي على تمسك الجنوبيين بخيار الوحدة, وتأكيد نائب الرئيس سيلفا كير بأن “ما تم الاتفاق عليه” في اتفاق السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005 “يتمثل في وجود سودان موحد, مع وجود احتمال آخر للانفصال إذا لم يتم تفعيل الوحدة”, وتعهد الرئيس عمر حسن البشير المتكرر بشن حملة واسعة النطاق بعد الانتخابات لإقناع الجنوبيين بدعم الوحدة في الاستفتاء المقرر في التاسع من كانون الثاني المقبل, إنما هي وغيرها مؤشرات إلى أن تيار الوحدة قوي في الشمال كما في الجنوب السوداني.

وإذا سمح الشعب السوداني بالانفصال كحق ديمقراطي في الجنوب فإنه يؤسس للصيغة نفسها كي تسلخ عن بقية الوطن جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور.. الخ, و“الحبل على الجرار”. إن الخطر الداهم جدير بدفع الشعب السوداني إلى تحويل “استفتاء الجنوب” على مصيره إلى استفتاء وطني على مصير السودان في كل السودان, لا على مصير جنوبه فقط. والسؤال المشروع هنا هو: أليس من المشروع أن يستفتى كل السودانيين على تقسيم وطنهم أو وحدته, ولماذا تعطى أقلية فقط من السودانيين الحق في تقرير مصير الوطن بكامله?

لذلك فإن موعد الاستفتاء المقبل هو استحقاق وطني ينبغي أن يكون اختبارا لوطنية كل الحريصين على السودان ووحدة أراضيه الإقليمية, مما يقتضي ترفع الحكم والمعارضة على حد سواء عن صغائر الحكم التي تمخضت الانتخابات عنها, كي يوحدوا جميعهم كل طاقاتهم في جهد وطني موحد ومركز على هدف واحد فقط هو صيانة وحدة السودان, وإلا فإن انفصال جنوب السودان سيكون “قفزة في الظلام” إلى المجهول السوداني شمالا وجنوبا كما قال النائب الثاني للرئيس السوداني محمد عثمان طه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 65 / 2180645

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2180645 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40