الجمعة 15 شباط (فبراير) 2013

تبادلية السجّان والسجين

الجمعة 15 شباط (فبراير) 2013 par أمجد عرار

في التجربة الاعتقالية الثانية في سجون الاحتلال “الإسرائيلي” تتغيّر أشياء كثيرة، وتتبلور مفاهيم أكثر رسوخاً . واقع الأسر الصعب يولّد ألفة وينسج صداقات عميقة الدلالات، ليس لأن المعاناة توحّد الوجدان فحسب، بل لأن التواجد سويّة على الدوام باستثناء ساعات النوم، يوثّق الصداقة ويعمّق معناها والحاجة إليها . في خضم العلاقات تعطى وعود كثيرة باللقاء خارج قضبان السجن، وبخاصة في تجربة الاعتقال الأولى، معظمها لا يتحقق، ذلك أن حسابات الوقت وكمية العواطف تتغيّر ما أن يصبح الأسير بين أحضان الحياة الأكثر اتساعاً وتشابكات ومسؤوليات . في تجربة الاعتقال الثانية يصبح إعطاء الوعود أشد حذراً، وما أن يطلق أحدهم وعداً حتى يرد الثاني: أهذا وعد أم “مرغرينا”؟ وهذه هي الزبدة الجافة والرديئة التي تلازم حياة الأسير من اليوم الأول في التحقيق إلى اليوم الأخير من فترة الحكم، ما لم يكن الأسير محكوماً بالسجن المؤبّد مرة أو مرتين أو عشرات المرات، فعندها تكون الحرية رهناً بإجراء عملية تبادل .

بعض الأسرى المجربين تكون وعودهم حقيقية، ويتجنّبون وعود الزبدة الذائبة . أحدهم ذهب بعيداً عن بلدته لزيارة أحد أصدقاء السجن . لم يمنع اختلاف انتمائهما الحزبي دوام صداقتهما بعد الخروج من السجن الصغير إلى السجن الأكبر . أول شخص قابله في القرية الصغيرة أرشده إلى منزل صديقه الذي كان خارج المنزل، لكنّ أمه الفلاحة الفلسطينية أحسنت ضيافة صديق ابنها وأدفأت وفادته، و”احتجزته” في غرفة الضيوف بانتظار عودة صديقه .

كانت مفاجأة الضيف قريبة من الصدمة حين أقبل صديقه مرتدياً ثياباً رثّة مصبوغة بالسواد، وهو الذي يحتل ذاكرة صديقه المحمولة من المعتقلات كقائد ومسؤول في فصيله والحركة الأسيرة . لم يستطع كبت دهشته فباغته بالسؤال سريعاً بعد العناق: لماذا ملابسك هكذا؟ رد الصديق المضيف بأنه يعمل في إصلاح أجهزة التبريد . سأل الضيف صديقه إن كان لم يجد له وظيفة في السلطة الناشئة بعد اتفاق أوسلو، فرد بسؤال: هل تتذكّر أبو حذيفة؟ فكان الجواب بالإجاب . فأكمل سرد مسيرة ما بعد الاعتقال “كنت أصلي الجمعة في المسجد، وبعد نهاية الصلاة أحسست بيده تهبط على كتفي، وحين نظرت إليه قال: ألم أقل لك إنه سيأتي وقت تكون فيه سجّاناً يعتقلني؟” . كانت السلطة في فترة ما بعد اتفاق “أوسلو” تحاول حماية الاتفاق من المعارضين، لكن الاعتقال السياسي لم يتوقّف رغم عدم التزام “إسرائيل” بالاتفاق .

لم يلتق ثانية بأبي حذيفة ليسأله عن رأيه بالاعتقالات التي تنفّذها حركته بعد سيطرتها على غزة، وبالتأكيد سيكون هناك سجّان وسجين كان كل منهما أسيراً في سجون الاحتلال . منذ إنشاء السلطة في الضفة والاستيلاء عليها في غزة، ظل ملف الاعتقال السياسي جرحاً فلسطينياً لا يعلم أحد متى يجد البلسم .

حقيقة الحال أن بعض المناضلين، أو الثوار إن شئتم، يحملون في دواخلهم جينات السلطة والسيطرة . تكون صفات متنحيّة، بلغة نابغة علم الوراثة النمسوي، غريغور يوهان مندل، وما أن تتهيأ ظروف مواتية حتى تصبح سائدة . هذا ما يفسّر لجوء بعض المناضلين إلى الأساليب نفسها التي قاوموها في خصومهم، فلا غرابة إن رأيت ثائراً على القمع يتحوّل إلى شخص أشد شراسة في قمع خصومه، ومناضلاً ضد الاستبداد يتحوّل إلى مستبد حتى قبل أن يجد كرسياً في السلطة يجلس عليه، ومقاوماً للدكتاتورية يتحوّل إلى دكتاتور متجبّر، ما أن يمسك منصباً . وعلى الوتيرة ذاتها، وجدنا سجيناً سابقاً يتحوّل إلى رئيس جمهورية يعيد إنتاج وسائل النظام الذي سجنه، ويمنحها غطاء الدين .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2166097

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2166097 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010