الجمعة 15 شباط (فبراير) 2013

مخاضات الحاضر العربي واحتمالات المستقبل

الجمعة 15 شباط (فبراير) 2013 par عوني فرسخ

مخاض التغيير السياسي - الاجتماعي الذي بدأ في تونس ثم امتد إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا والذي تلوح بوادره في أكثر من قطر عربي، لم يبق سلمياً في أي ساحة . ما يوحي بأن الوطن العربي مرشح لأن يشهد في قادم الأيام تصعيداً في ما عانته شعوب الأقطار الستة خلال العامين الماضيين من صراعات دامية، وتدمير جاهلي لمعالم العمران والإنجازات الحضارية، ودعوات تكفيرية خارجة على قوله تعالى “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، و”جهاد” غير مشروع ضد شركاء المسيرة والمصير بدلاً من الجهاد الواجب ضد الغزاة الصهاينة في فلسطين المحتلة، وتدخلات مدانة لحلف الأطلسي، ومحاولات احتواء أمريكية، ومساع إقليمية تدفع باتجاه الفتنة الطائفية والصراعات الدينية .

والسؤال الذي يستدعيه هذا الواقع المأزوم على مختلف الصعد: هل صدقاً ما يدعيه معادو العروبة من أن الأمة العربية دخلت مرحلة تدمير مقومات وجودها القومي وموروثها الحضاري، أو أنها تعيش مخاض تحقق أهدافها القومية بالاستقلال الوطني، والوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستدامة، والتجدد الحضاري ؟

الذي نلاحظه بداية أن مخاض التغيير لم يكتمل بعد في أي من هذه الأقطار الستة، ثم إن ما تشهده من ظواهر مدعاة إلى التشاؤم الغالب على المحللين السياسيين العرب، والقلق الشعبي المتزايد على المستقبل العربي، ليس كل ما في المشهد عربياً وعالمياً، ولا يعكس قراءة واقعية للمخاض الجارية فصوله والظروف الإقليمية والدولية التي يجري فيها . غير أن المسلطين الأضواء عليها لا يأخذون في حسبانهم الحقائق التي أبرزها المخاض، والتي هي الأشد تأثيراً في حاضر شعوب الأمة العربية ومستقبلها . وأبرزها الحقائق الآتية:

1 - لم تعد صناعة القرار في دول المخاض الستة حكراً على حاكم فرد، أو حزب أوحد، وإنما غدت شديدة التأثر بما تطالب به الجموع المحتشدة في الميادين والشوارع، الأصدق تعبيراً عن الإرادة الشعبية . كما لم يعد عقل الشعب في أذنيه، وإنما غدت الجماهير على درجة متقدمة من المعرفة والوعي والخبرة السياسية، بحيث تدنت قدرة قوى الاستغلال والهيمنة على خداعها، بل هي اليوم الرقيب الواعي على ممارسات السلطة والقادر على ضبط المسار وتقويم الانحراف، على نحو متمايز كيفياً عما مضى .

2- لم تعد المرأة ولا الشباب من الجنسين كمّاً مهملاً، وإنما غدت المرأة، وإن هي ارتدت الحجاب أو وضعت النقاب، مشاركة فاعلة في الحراك السياسي - الاجتماعي والحوار الفكري . فيما احتل الشباب مواقع قيادية وتصدروا الصفوف في أكثر من قطر . ما فيه الدلالة على اتساع دائرة المشاركة في صناعة القرارات على مختلف الصعد والرقابة عليها . فضلاً عن أن العمل السياسي لم يبق حبيس الغرف المغلقة وإنما غدا تحت الأضواء في زمن التقدم المطرد في وسائل الاتصال، وتساقط الأقنعة . ما يجعل واقعياً القول إن المجتمعات العربية تمتلك اليوم قدراً غير يسير من مقومات الممارسة الديمقراطية التي حرمت منها طويلاً .

3- لقد استعاد الفكر والعمل القومي قدراً من عافيته كما يتضح من مجريات الأمور في مصر، حيث توحد الناصريون وغدوا مشاركين فاعلين في قيادة قوى المعارضة، وفي تونس حيث يتنامى دورهم في الحراك السياسي والاجتماعي وفي تأكيدهم الثوابت القومية في الصراع العربي - الصهيوني وتجاه ما تشهده سوريا من مداخلات وضغوط تستهدف دورها القومي والتاريخي .

4- يبدو جلياً أن صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وتونس لم يفقدها فقط ما اعتادته من الظهور بمظهر الجماعة المضطهدة والمقصية عن ممارسة حقوقها السياسية المشروعة، ما كان يكسبها تعاطف الجمهور، وإنما افتضح أيضاً مدى استعداد رموزها القائدة للتفريط بالثوابت القومية والإسلامية في الصراع العربي- الصهيوني، والتنكر لدماء شهداء الإخوان الذين تساقطوا في التصدي للعدوان الصهيوني . وذلك مقابل سلطة محكومة بالقرار الأمريكي والرضا الصهيوني . فضلاً عن افتقار الجماعة إلى عمل جاد لمعالجة الواقع المأزوم على مختلف الصعد، أو تقديم اجتهادات فقهية تلبي حاجة المجتمع العربي في الزمن الراهن .

5- لقد انتهت عزلة السلفيين بإقدامهم على المشاركة النشطة في الحراك السياسي في أكثر من قطر عربي . ما وضعهم في تماس مع حقائق العصر المختلفة جذرياً مع ما كان زمن مقولاتهم الماضوية . وبالتالي غدوا أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما مواصلة إعادة إنتاج مقولات لم تعد صالحة للزمن الراهن، وإما التكيف مع مقتضيات العصر فيصبحون مؤهلين لتوظيف قدراتهم في ما ينفع الناس ويحتلون الموقع الاجتماعي الذي يستحقونه بالفعل البناء، وبالتبعية لا يبقى جهادهم يصب في قناة أعداء أمتهم .

6- لم يعد خافياً أن الإدارة والأجهزة الأمريكية خسرت ما كانت تتمتع به من قدرة التأثير في الواقع العربي زمن الأحادية القطبية . وذلك بالتحول المتسارع إلى عالم متعدد الأقطاب يتصاعد فيه الوزن النوعي لمجمع “البركس” مقابل تراجع وزن التحالف الأمريكي - الأوروبي الذي طالما أجهض الطموح العربي إلى الوحدة والتحرر والتقدم . فيما روسيا وشريكاتها في تجمع “البركس” عرفت تاريخياً بتأييد الطموحات العربية المشروعة .

7- يشهد التجمع الاستيطاني العنصري الصهيوني متغيرات بنيوية لمصلحة العناصر التلمودية . ولم يعد خافياً أن الكيان الصهيوني افتقد الدور القيادي للآباء المؤسسين وتلامذتهم الذين نشأوا في ال”كيبوتسات” بحيث صقلت إرادتهم فكانوا صناع الانتصارات التي بلغت ذروتها في حرب 1967 . ومن بعدها توالى مسلسل النكسات في مواجهة قوى المقاومة العربية الصاعدة في جنوبي لبنان وقطاع غزة، التي أفقدت العدو قوة ردعه وقدرته على الفعل خارج حدود فلسطين المحتلة .

8- يمكن القول، وبكثير من الثقة، إن دور “حصان طروادة” الذي أرادته الأجهزة الأمريكية لأردوغان ومن أسماهم “العثمانيين الجدد” فشل تماماً في اختراق المشرق العربي وتولي زمام قيادة شعوبه وتسييرها في الركب الأمريكي . فإلى جانب ما تشهده تركيا من تصاعد الرفض لسياسة أردوغان، وتخاذله أمام الكيان الصهيوني، جاء تدخله المدان في سوريا ليعجل بسقوط الدور الذي كان مرسوماً له برغم ما يلقاه من تأييد جماعات الإسلام السياسي .

والأهم من ذلك كله أن الواقع العربي المأزوم راهناً طالما عانت الأمة العربية ما هو أكثر تأزماً وبؤساً، إلا أنها على مدى تاريخها الممتد عرفت بقدرتها الفذة على دحر الغزاة واستعادة دورها الحضاري، ما يرجح عندنا أن ما تعيشه شعوبنا إنما هو مخاض تحقق الأهداف القومية وتجدّد الفكر الإسلامي .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2178711

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

18 من الزوار الآن

2178711 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40