الثلاثاء 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2012

التوافق بين النجاح والفشل

الثلاثاء 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2012 par ناجي صادق شراب

من المفارقات السياسية العربية عدم قدرة القوى السياسية المختلفة على التوافق السياسي في إطار نظام سياسي توافقي، رغم أن معظم الدول العربية لا تعاني من المشكلات العرقية والمذهبية واللغوية نفسها التي تعاني منها نماذج سياسية كالهند التي نجحت في تقديم نموذج توافقي ناجح يجمع في إطاره كل القوى السياسية، وكل الشرائح السكانية المكونة للهند كالمسلمين والهندوس والمسيحيين وعدد ليس بالقليل من اليهود، وهذا النموذج جاء بعد عملية مخاض صعبة مرت بها الهند ودفعت ثمناً باهظاً من العنف الذي راح ضحيته الآلاف من السكان، لكن الهند في النهاية أدركت أنه لا سبيل إلا ببناء نظام سياسي توافقي، ودستور مطول يقوم على التأصيل لفكرة المواطنة، والمساواة في الحقوق للكل، ونجحت في بناء نظام سياسي فيدرالي أقرب إلى المركزية . هذا مع العلم أن الهند عدد سكانها يزيد على المليار، وتعاني مشكلات فقر كبيرة، لكنها نجحت في أن تكون دولة نووية، وصناعية متقدمة، وهذا بفضل أمرين: العقل الهندي المبدع، والوصول إلى صيغة للتوافق السياسي .

والولايات المتحدة نجحت في بناء نظام سياسي توافقي ديمقراطي، وبنت أقوى دولة في العالم بفضل قدرة المؤسسين الأوائل على الوصول إلى صيغة توافقية تتناسب مع خصوصية الحالة الأمريكية، وتحولت أمريكا إلى أمة من المهاجرين، وتمكنت من حل أكبر معضلة سياسية ببناء المواطنة الأمريكية لكل سكانها الذين يزيدون على ثلاثمئة مليون نسمة جاؤوا من بقاع شتى وبلغات مختلفة، وجنسيات مختلفة، والمسلمون يشكلون نسبة معقولة، ونجحوا في الانصهار في البوتقة الأمريكية .

والسؤال، لماذا ينجح المسلمون في الخارج، ويفشلون في الداخل؟ هل السبب في العقلية والذهنية الإسلامية؟ وهل السبب في عدم النضج السياسي، وعدم القدرة على اكتساب القيم الديمقراطية؟ ولماذا لا نريد دولة كل المواطنين، أليس الإسلام دين المواطنة الواحدة؟ هذه التساؤلات وغيرها تحتاج منا جميعاً إلى إجابة واضحة، لعلنا نصل إلى نظام سياسي توافقي ديمقراطي يسمح في بناء دولة واحده قوية . أليس الهدف هو الوصول إلى هذا المبتغى، وكيف يمكن تحقيق مقاصد الحكم من دون نظام سياسي توافقي؟

إن عملية الوصول إلى بناء نظام توافقي ليست مسألة سهلة، وتحتاج إلى ثقافة توافقية، تقوم على مبدأ المواطنة والقبول والتكامل والاندماج بين كل المواطنين، ومن دون تمييز على أي أساس كالدين مثلاً، وقد تستغرق العملية وقتاً طويلاً تتخلله حالات من العنف الذي قد يعصف بكل إنجازات الثورات العربية، وسيكون أول الخاسرين الحركات الإسلامية، لأنها هي من جنى ثمار الثورات العربية، وهذا ما ينبغي أن تدركه هذه القوى الإسلامية، وأن تفصل بين الدين كدين، وبين الدين كمكون في عملية التوافق . فلم يقف الدين عائقاً أمام ذلك كما النموذج الهندي أو الأمريكي وغيرهما من النظم . والتوافق قد يأخذ أكثر من شكل من أشكال الديمقراطية التي يتم من خلالها اتخاذ القرارات المصيرية بتوافق الجميع الذي يصل إلى حد الإجماع . وهذا ما حدث فعلاً في الإجماع على اختيار جورج واشنطن رئيساً للولايات المتحدة، والدور الذي قام به الزعيم الهندي نهرو وقيادته لحزب المؤتمر الهندي، وأيضاً في نموذج جنوب إفريقيا بعد عذاب طويل من العنصرية، ونجاح نيلسون منديلا في بناء نموذج سياسي يقوم على المواطنة الواحدة بعد أن كان يقوم على العنصرية والتناحر والإقصاء . هذا النموذج ركيزته وجود قوى سياسية يلتف عليها الإجماع الشعبي، وهذا لا يتوافر في الحالة العربية الآن، فالبديل لذلك البحث في الصيغ الأخرى مثل الديمقراطية الأكثرية التي تقوم على حصول أحد الأحزاب على الأكثرية البرلمانية التي تؤهله لاتخاذ القرارات، وهذا الشكل قد يقود إلى حالة من الانقسام والاستقطاب لعدم توافر أسس الديمقراطية التنافسية، وخصوصاً ثقافة القبول بالتنافس الديمقراطي .

تبقى الصيغة الثالثة وهي الصيغة التوافقية التي تعني التوافق على دستور، وتقاسم السلطة، وعدم احتكارها، وشعور كل مواطن بأن لديه دوراً، وهذا النظام يحتاج إلى توافر مقومات وركائز قوية مثل تحقيق مستوى عال من التقدم الاقتصادي والتعليم، وبناء دولة قوية قادرة على توفير كل الخدمات، ومن هذه النماذج الناجحة النمسا وسويسرا وبلجيكا وهي دول رفاه متقدمة، ولكن في المقابل توجد نماذج فاشلة كالعراق التي دخلت في نفق صعب من العنف وبوادر حرب أهلية . والبديل لذلك هو الشكل الثاني التنافسي مع الأخذ ببناء أسس نظام توافقي . وأخيراً كل هذه الأشكال الثلاثة تكتنفها صعوبات وتحديات وهي التي تفسر صعوبة الخروج من المرحلة الانتقالية . لكن قراءة للدروس والعبر من الدول الأخرى كالهند وجنوب إفريقيا والولايات المتحدة، قد تكون دافعاً إلى الجمع بين الديمقراطية التنافسية والتوافقية .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2165522

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2165522 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010